علي يوسف السعد يكتب: لا تسافر
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
عشاق الاستكشاف يبحثون دوماً عن الفرص للانطلاق في رحلات جديدة، متجاهلين النصائح التي تحثهم على قضاء أوقات فراغهم في الاستجمام والاستراحة، بالنسبة لهم، الاسترخاء يأتي من خلال السفر الحر بلا قيود، وهذا ليس بالأمر الغريب بين محبي السفر الذين يعانون شغفاً لا يقاوم للترحال، ومع ذلك، يجب أن نضع في اعتبارنا بعض القواعد، وأن نعي أنه ليس كل وقت هو وقت مناسب للسفر، وهذه وجهة نظر شخصية أشاركها معكم اليوم.
وضع الأولويات يعتبر الأساس ليس فقط في مجال السفر والسياحة، بل في جميع جوانب الحياة، العمل والعائلة يجب أن يحتلا مكانة مرموقة في هرم اهتماماتنا، يجب عدم تقديم الرغبة في السفر على الالتزامات الوظيفية الضرورية، مثل تسليم تقرير حاسم أو البدء بمشروع ضمن مهلة محددة أو حضور اجتماع مهم، في هذه الحالات، من الضروري التوقف، التفكير، وتأجيل رغبتنا في السفر.
كذلك، تأتي الالتزامات العائلية في مقدمة الأولويات، فالمناسبات العائلية، مثل حفلات الزفاف، الأمراض، أو العزاء، تستوجب منّا التروي وإعادة التفكير قبل التخطيط للسفر للوجهات التي نرغب في زيارتها، فالعلاقات الشخصية قد تتأثر إذا تم إهمالها.
الأعياد مثل الفطر والأضحى هي أوقات مثالية لتعزيز الروابط الأسرية وتعليم الأبناء قيمة الوحدة، وليست للرحلات الشبابية، هناك أيضاً مواسم معينة يفضل فيها تأخير السفر أو ربطها بالمناسبات الدينية، مثل الأيام العشر من ذي الحجة أو شهر رمضان، حيث يكون الأفضل الاجتهاد في العبادة والصيام بحثاً عن الأجر.
وخلال شهر رمضان الكريم، يمكن السفر لأداء العمرة، سعياً وراء الثواب الجزيل والمزيد من الحسنات، وإذا كنت تعيش بعيداً عن الوطن فقد تفضل العودة إلى حضن العائلة خلال هذا الشهر الفضيل، لتشارك في الطقوس الرمضانية، وتجتمع حول مائدة الإفطار العامرة، مستعيداً ذكريات الماضي الجميل، ثم تمضي أيام عيد الفطر البهيجة برفقتهم قبل العودة إلى مكان إقامتك.
أود التشديد على أن الآراء التي قدمتها سابقاً تمثل وجهة نظري الشخصية، وأتفهم أن البعض قد لا يتفق معها، معتبرين أن العطلات، وخاصة خلال المناسبات، هي فرصتهم الوحيدة للاستجمام والهروب من الروتين، هناك من يعتبر شهر رمضان فترة مثالية لاستكشاف بلدان جديدة، وخصوصاً الإسلامية، للتعرف على تقاليد المسلمين خلال هذا الشهر الفضيل، ومع ذلك، أعتقد أنه على الرغم من أهمية السفر وسيلة لتجديد الطاقة وإرضاء شغفنا بالاستكشاف، يجب ألا يسبق ذلك احتياجاتنا ومسؤولياتنا الأساسية؛ لذا من الضروري التحلي بالصبر وعدم التسرع، فالفرص لن تزول وينبغي التفكير بتأنٍ وحكمة قبل اتخاذ قرار السفر. أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: علي يوسف السعد
إقرأ أيضاً:
محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت
بعد أن فقد بصره وهو ابن ثلاث سنوات سأل والده: "متى النهار يطلع يا بابا؟"، فبكى الأب بحرقة وقال "سترى بقلبك يا بني أكثر مما ترى بعينيك"، لم يعرف الأب وقتها أن صوت ابنه سيكون كالشمس في تاريخ مصر، لا يبدأ النهار إلا بسماعه عندما تشير عقارب الساعة إلى تمام السابعة صباحا.
إنه الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- الذي تلاحم صوته مع نسيج الوعي المصري ووجدانه، فأراد الله أن يحيا صوت الشيخ رفعت في مناسبتين، الأولى طوال العام عند الساعة السابعة صباحا عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، هذا الوقت الذي يتعلق بذاكرة كل مصري أثناء ذهابه إلى المدرسة ونزوله إلى عمله صباحًا، إذا سمع صوت الشيخ رفعت أدرك أن الشمس قد أشرقت إيذانًا بميلاد يوم جديد مصحوب بصوت الشيخ محمد رفعت.
وأما الثانية فطوال شهر رمضان المبارك مع أذان المغرب، هذا الأذان الذي إن سمعه المصريون في أي وقت استشعروا بنسمات شهر الصيام، ارتبط أذان الشيخ محمد رفعت بالإعلان عن وقت الإفطار كل يوم في رمضان، فأصبح له خصوصية يتفرد بها عن أي أذان آخر.
الشيخ محمد رفعت هذا الصوت الملائكي الخالد الذي تجددت فيه معجزة القرآن، إلا أن التسجيلات التي وصلتنا لم توفه حقه، ذلك لأن أغلب التسجيلات كانت قديمة تحتاج إلى ترميم وإصلاح، فغير المونتاج الصوتي شيئا من حقيقة صوت الشيخ رفعت، والأمر الثاني أن التسجيلات بدأت في فترة مصاحبة المرض لهذا الصوت، كما قال موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في إحدى لقاءاته إن تسجيلات الشيخ محمد رفعت تحمل تأثير مرضه وكأنك تسمع صوتا جميلا لكن عليه مسحة من المرض، وذكر أن تسجيل سورة مريم هو الذي يعطي بعضا من صوت الشيخ رفعت في اكتماله وشبابه ومقدرته.
في حي المغربلين بمنطقة الدرب الأحمر ولد الشيخ محمد رفعت سنة 1882 لأب يعمل ضابط شرطة بقسم الخليفة، وأم طيبة ترعى بيتها وتقوم على شئون الزوج والأولاد، واسم محمد رفعت هو اسم مركب أما والده فاسمه محمود رفعت وهو اسم مركب أيضًا، ولأن كل إنسان منا يسير إلى قدره المكتوب في الحياة، فقد واجه الشيخ محمد رفعت مصيره في الحياة مبكرا، المأساة الأولى عندما فقد بصره وهو في الثالثة أو الرابعة من عمره، والمأساة الثانية عندما فقد والده وهو ابن تسع سنوات.
ولأن في المنع عطاء، وفي كل محنة منحة، فكانت المأساة الأولى هي سبب العطاء الأعظم في حياة الشيخ محمد رفعت بعد أن قرر والداه أن يهباه للقرآن، وأتم حفظ القرآن وتجويده وهو طفل صغير في مسجد فاضل باشا، والذي عين فيه قارئا للسورة يوم الجمعة إلى أن أقعده المرض، وأما المأساة الثانية فكانت السبب في أن يتحمل الشيخ رفعت مسئولية أسرته الصغيرة المكونة من أمه وخالته وأخيه الأصغر بعد أن أصبح هو العائل الوحيد لهم، وظل على هذا الحال حتى ذاع صيته وأصاب سحر صوته كل من سمعه وتأثر به.
الشيخ محمد رفعت هو معجزة القرن العشرين في تلاوة القرآن الكريم، كان لصوته مفعول السحر على مستمعيه، فلا تسمع تلك الصيحات أثناء تلاوته كما يحدث في السرادقات مع قراء اليوم، ولكن طريقة قراءة الشيخ رفعت بما فيها من هيبة ووقار وإبهار كانت تجعل المستمعين لا يحركون ساكنا، يخشعون رهبة وإجلالا لعِظم ما يُقرأ عليهم.
تقليد الشيخ رفعت يحتاج لإمكانيات صوتية خاصة ولطبقة صوت اختص بها الله الشيخ رفعت، فيصعب جدا تقليده، تمتع الشيخ رفعت بصوت ماسي حاد جدا رنان كأنه الياقوت والمرجان، وبصوت عميق عريض جدا كأنه زئير الأسد في أدنى طبقات صوته، والعجيب أن في علو صوت الشيخ رفعت وهبوطه لا يشعر المستمع بأنه ينتقل بين القرار والجواب فهو يقرأ بطريقة السهل الممتنع، يلون الآيات بصوته وبما يناسب كل آية، فالموهبة وحدها لا تكفي، ولكنها تحتاج لذكاء يوظفها بطريقة صحيحة، والشيخ محمد رفعت وهبه الله من الذكاء الفطري والبصيرة الربانية ما جعله يقرأ القرآن بوعي وتدبر وذكاء.
عاش الشيخ محمد رفعت واهبًا حياته لخدمة القرآن الكريم ينشر صوته في كل مكان ويلبي الدعوات بعفة نفس خدمة للقرآن، لم يكن طالب مال ولا شهرة أو جاه، ترك لأبنائه ساعة يد وروشتة طبيب ومصحفًا، كما أخبر بذلك ابنه الأكبر محمد رحمه الله، وأصيب الشيخ رفعت بمرض الزغطة الذي اتضح أنه سرطان الحنجرة، فتوقف عن القراءة سنة 1943 بعد أن حبسه المرض وهو يقرأ ولم يخرج صوته في بعض الآيات فسكت ثم غادر المسجد وسط بكاء كل الحاضرين، وظل يعاني من هذا المرض الذي فشل الطب في علاجه، كان راضيا صابرا ولم يسخط، وفي يوم التاسع من مايو سنة 1950 أخذ يردد (الحمد لله) ويسأل زوجته عن أولاده، ويقول (الحمد لله) ثم فاضت روحه إلى رب العالمين، ليترك لنا صوتا لم ينطفئ يومًا، هذا الإرث الذي يشهد له بما قدمه في حياته لخدمة القرآن وإيصال رسالته، رحم الله قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت.