د. غادة علي تكتب: روشتة اقتصادية للحوار
تاريخ النشر: 4th, March 2024 GMT
انطلقت النسخة الثانية من الحوار الوطنى المصرى الذى أعتبره مهمة كل المصريين التى منحها الرئيس السيسى للشعب، ليعبر كل عن رأيه وفقاً لتخصصه، والمطمئن فى الأمر أن النسخة الحالية من الحوار أكثر اهتماماً بالجانب الاقتصادى بالتزامن مع الأزمات الاقتصادية العالمية التى ألقت بظلالها على مختلف الدول.
وأرى أن استمرار الحوار الوطنى ضرورة لا بد منها، ودعوة الحكومة للحضور والمشاركة فى الجلسات تُعد اختصاراً لمسافات طويلة بين مخرجات الحوار وآليات التنفيذ على أرض الواقع، وقدّم كل من المشاركين رأيه ومقترحه المؤثر فى القضية الاقتصادية، وأعتقد أن الفترة المقبلة ستشهد حالة غير مسبوقة فى مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية من خلال المزيد من المشروعات الاستثمارية والجلسات الحوارية.
ومن الأمور الضرورية التى يجب أن ينتبه إليها الحوار الوطنى ملف تحفيز الإنتاج، والذى يتم من خلال دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتقديم قروض ميسرة وتسهيلات إدارية لتمكينها من النمو وتوفير فرص العمل، بالإضافة لاستمرار مشروعات تطوير البنية التحتية وتحسين الطرق والموانئ والاتصالات لتسهيل حركة السلع والبضائع، بجانب الاستثمار فى التعليم والتدريب وتأهيل القوى العاملة بمهارات تناسب احتياجات سوق العمل.
بالإضافة لتعزيز الاستثمار من خلال تحسين بيئة الاستثمار ومراجعة القوانين والتشريعات لتسهيل دخول المستثمرين وحماية حقوقهم، وعرض حوافز تنافسية وتقديم إعفاءات ضريبية وتسهيلات جمركية لجذب الاستثمارات الأجنبية، والترويج لمصر كوجهة استثمارية مع إبراز مزايا الاستثمار فى مصر فى المحافل الدولية.
ومراجعة برامج الدعم الحكومى وتوجيه الدعم لمستحقيه بشكل أكثر كفاءة، ومراجعة بنود الإنفاق والتركيز على المشروعات ذات العائد الاقتصادى، ومكافحة الفساد من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة فى إدارة المال العام، مع العمل على توسيع قاعدة المشاركة فى الاقتصاد وتشجيع مشاركة المرأة فى سوق العمل، وتمكين الشباب من خلال إتاحة فرص العمل للشباب وتطوير مهاراتهم، وتشجيع الادخار والاستثمار ونشر ثقافة الادخار والاستثمار بين المواطنين، والعمل على مواجهة التحديات الخارجية وتنويع مصادر الدخل القومى والاعتماد على قطاعات اقتصادية متنوعة، وتعزيز العلاقات التجارية مع الدول الأخرى وفتح أسواق جديدة للصادرات المصرية، والاستفادة من التحولات العالمية بمواكبة التطورات الاقتصادية العالمية والاستفادة منها.
ولا بد من أن نولى ملف إدارة الأصول غير المستغلة واستثمارها اهتماماً أكبر، خاصة أن هذا الملف إذا أحسنا إدارته سيكون العائد بمليارات الدولارات، فلدينا فى مصر أعداد كبيرة جداً من العقارات ذات القيمة السوقية العالية، وعلى الرغم من ذلك فالعائد منها لا يساوى شيئاً، كما يجب أن نؤسس فى كل وزارة وهيئة وجهة معنية بخدمة المواطن إدارة حقيقية لإدارة المخاطر والأزمات، يكون من مهامها دراسة المشهد وإطلاق النشرات والتحذيرات والنصائح فى أى أزمة.
ولدينا العديد من الملفات المسكوت عنها منذ سنوات، وحالياً أعمل على إعادة إحيائها، منها ما أصدرته اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب حينما اعتمدت توصيتها بوجوب تأسيس كيان وطنى مملوك للدولة متخصص فى إعادة التأمين بعد غياب ١٦ عاماً عن ملعب إعادة التأمين العربى والعالمى بهوية مصرية منذ تصفية «المصرية لإعادة التأمين» ٢٠٠٨.
وقدمت عرضاً لحجم الفرص المهدرة من النقد الأجنبى لعدم وجود كيان وطنى لإعادة التأمين داخل الدولة المصرية، وأهمية ذلك من الجانب المالى والسياسى، ففى ظل الظروف الاقتصادية الحالية بات من الضرورى وجود كيان وطنى لإعادة التأمين داخل الدولة لمساعدة الاقتصاد المحلى بالاحتفاظ داخل مصر بنسبة أعلى من الأقساط المتسربة إلى الخارج بالدولار، وبدرجة مخاطرة محسوبة تتلاءم مع مقدار تحمُّل السوق المصرية، وكذلك اجتذاب عمليات إعادة تأمين من الخارج بالعملة الصعبة، ومن ثم أيلولة أرباح هذه الأقساط إلى الشركات المصرية والذى ينعكس بالتبعية على حجم الضرائب المحصلة للدولة بالنهاية.
وكانت الفرص المهدرة من وراء عدم وجود شركة وطنية لإعادة التأمين تتمثل فيما يلى: الحفاظ على الأقساط المتسربة بالعملة الأجنبية، حيث بلغت أقساط «إعادة التأمين الصادر» خارج الدولة فى أغلب الفروع أكثر من 60% نتيجة إسناد شركات التأمين ذات النسبة من إجمالى نشاطها بالدولار إلى الخارج وغالباً ما تكون إلى أوروبا وبعض الدول الأفريقية، الحفاظ على عمولات إعادة التأمين لصالح الوسطاء المحليين: حيث تخطت عمولات وسطاء إعادة التأمين غير المصريين ما قيمته 600 مليون جنيه، زيادة قيمة حصيلة الضرائب الناتجة عن أرباح الأقساط المحتفظ بها داخل الدولة، الحد من المضاربة السعرية، التى تنشأ بسبب بعض ممارسات إعادة التأمين الخاطئة بالإعادة لشركات درجة ثانية وثالثة بأسعار متدنية فى دول أخرى، تخفيف الضغوط الخارجية وتعنت الشركات العالمية فى فرض شروطها على الكيانات المصرية، عودة سوق التأمين المصرية إلى ملعب الإعادة العربى والأفريقى بعد خروجها بسبب قرارات التصفية والدمج عام 2007.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الحوار الوطنى الكيانات المصرية لإعادة التأمین إعادة التأمین من خلال
إقرأ أيضاً:
منال الشرقاوي تكتب: ضحكنا فجرحناهم
في مشهد مكرر لعقود، يظهر رجل بملابس رثة، يتلكأ في نطق الكلمات، تعلو وجهه سمات "البساطة" المبالغ فيها؛ فينفجر الجمهور ضاحكًا.
الكاميرا تقرب على يديه المتشققتين، وصوته المتهدج، بينما تصاحب الموسيقى "الإيقاعية" الضحك كضربات ساخرة لا تُرى.
هنا، لا نضحك مع الشخصية، وإنما عليها، كما لو أن الفقر عيب جسدي، أو لعنة تستحق الاستهزاء.
هذا ليس مشهدًا من عمل فني واحد، بل هو لازمة في كوميديا حولت الفقراء إلى "كاريكاتير" متحرك، يُذكرنا أن الضحك قد يكون أحيانًا قناعًا لقسوة لا نعترف بها، فمتى تحول الفقير من إنسان له قصته إلى مجرد "ديكور" يُضحك الجمهور؟... يا عزيزي، حين تصبح الكوميديا سوطًا يجلد الفقراء، يصبح الضحك مسموماً.
السخرية من الفقير ليست فنًا، وإنما اعتراف بأننا لم نواجه أسبابه، فحولناه إلى نكتة كي نرتاح. المشكلة هنا ليست في "النكتة" ذاتها، وإنما في ما تخفيه خلف ضحكتها. حين تُختزل شريحة كاملة من الناس -الفقراء، سكان العشوائيات، أصحاب المهن البسيطة-، في صورة هزلية تُضحك لأنها ضعيفة، جاهلة، أو غريبة عن النخبة. يصبح الفقر مرادفا للغباء، وتتحول البساطة إلى سذاجة، والحرمان إلى "إفيه" جاهز.
الأغرب أن هذا النمط لا يقدم كنوع من السخرية الواعية من الظلم أو المفارقة الطبقية، لكنه يظهر كواقع طبيعي لا يحتاج إلى تفسير؛ كأن من لا يعرف أسماء الماركات العالمية يستحق السخرية، ومن لا ينطق القاف والسين كما يفعل سكان المدن الكبيرة، لا يعامل كجزء من المشهد. هكذا، أصبحت الكوميديا وسيلة ترسخ الفجوة بين الطبقات بديلاً عن أن تفضحها أو تسخر من أسبابها. والفقير الذي كان في زمن مضى بطلًا شعبيًا -كما رأيناه في أعمال سابقة عظيمة-، تحول إلى مجرد "سنيد"، يُستدعى ليطلق جملة مضحكة، ثم يغيب عن المشهد وكأنه لم يكن.
لكن الكوميديا لا تكتفي فقط بالسخرية من الفقر كحالة اقتصادية أو اجتماعية، وإنما تمتد لتستعير أدوات أخرى ترسخ التمييز بطريقة أكثر نعومة… وأحيانًا أكثر قسوة. من بين هذه الأدوات هو استخدام اللهجة. فالكلمة التي تخرج من فم البطل بلهجته المنمقة تُقابل بتقدير واحترام، أما حين تخرج من فم شخص "هامشي" بلهجة محلية مختلفة، تتحول إلى إشارة ضمنية للضحك، وكأن اللسان وحده يمكن أن يُخبرك من يستحق الاحترام ومن يُستباح بالسخرية. هنا، تصبح اللغة أو اللهجة المحلية وسيلة للتصنيف، وليس للتواصل. وسرعان ما تنزلق الكوميديا من كونها مساحة للمفارقة الذكية إلى أداة تغذي نظرة فوقية تجاه الآخر المختلف، فقط لأنه "يتكلم بطريقة غريبة".
السؤال هنا: من يملك حق تحويل لهجة إنسان إلى نكتة؟!
في دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2014 ربطت الفقر بالشعور بالعار عالميًا، في بعض الدول، وإن لم تركز على الأفلام بشكل خاص. اعترف عدد من الشباب أن مشاهد السخرية من الفقراء في الأفلام تجعلهم يشعرون بالخجل من انتمائهم لطبقة بسيطة. أحد المتابعين كتب على تويتر: "أبي عامل نظافة، أشعر أن كل ضحكة على شغله هي صفعة على وجهي".
هنا يتحول "الترفيه" إلى عنف رمزي، كما يصفه عالم الاجتماع "بيير بورديو"، حيث تُكرس الأفلام الفجوة الطبقية عبر تحويل المعاناة إلى سخرية. الطفل الذي يشاهد أباه يُسخر منه على الشاشة، سيبدأ برؤية الفقر عارًا، لا ظلمًا اجتماعيًا.
لكن الضحك ليس بريئًا دائمًا. إنه يُضحك، نعم، لكنه يوجع أحيانًا. في كل نكتة على لهجة محلية، أو بدلة عامل، أو اسم شخص، هناك سهم خفي يُصيب الكرامة في مقتل. فالسينما التي تُضحكنا على من يشبه آباءنا، أو جيراننا، أو أنفسنا قبل سنوات قليلة، لا تُسلينا بقدر ما تُربينا على احتقار ما كنا عليه. والفن الذي ينسى أن الفقر حالة لا تليق بالشماتة، يصبح شريكًا خفيًا في تكريس الجفاء الطبقي، وإن لبس عباءة الضحك الخفيف. ليست كل قهقهة علامة على الفرح… أحيانًا نضحك كي نُخفي ارتجافة الذنب.
والآن، هل نستطيع إصلاح ما أفسدته السنوات؟
الضحك لا يجب أن يكون على حساب الكرامة، وإذا كانت السنوات الماضية قد كرست نمطًا من الكوميديا يستخف بالإنسان البسيط، فإن تصحيح المسار ليس مستحيلًا. وقد تكون البداية من إعادة تعريف ما يُضحكنا فعلًا، وما إذا كان الضحك الذي يهين يستحق فعلًا أن يُصنف فنًا. الكوميديا العظيمة تُعلي من الإنسان، لا تحطمه.
الحلول موجودة، لكنها تحتاج إلى شيء من الجرأة. علينا تقديم كوميديا ذات مسؤولية إنسانية، كما رأينا في أعمال قدمت الفقير كشخص ذكي، محبوب، يسخر من قسوة الحياة لا من الناس.
وتدشين مبادرات تشجع الكتاب وصناع الكوميديا على التفكير قبل إطلاق نكتة، لتذكرنا جميعًا أن الضحك لا يفقد قيمته حين يصعد بنا، لكنه يخسر الكثير حين يبنى على أنقاض كرامة الآخرين. الكوميديا العادلة ممكنة، فقط إذا أردنا أن نضحك الناس… دون أن نجرحهم.
وعلى النقاد أن يتحرروا من سطوة شباك التذاكر، وألا يشيدوا بكل فيلم يضحك الجمهور لمجرد أنه نجح تجاريًا.
فالتقييم الأخلاقي والجمالي لا يقل أهمية عن تقييم الإيرادات. صحيح أن السوق يفرض سطوته، لكن التاريخ يذكرنا أن الأعمال العظيمة وُلدت حين اختار الفنانون أن يكونوا صوتًا للبسطاء، لا أن يصعدوا على أكتافهم. الضحك الجارح ليس قدرًا، والخيار بين "الكوميديا السهلة" و"الكوميديا العادلة" هو اختبار لأخلاقنا قبل ذوقنا. قد نضحك اليوم على نكتة عن العامل البسيط، أو الشخص الفقير، لكن غدًا سنسأل: أين كنتم حين كانت الكوميديا تُحول آلامنا إلى مادة للسخرية؟
لذلك، نحتاج إلى صناعة وعي جماهيري عبر مبادرات ذكية وشعبية، ولتكن مثلاً حملة بعنوان: " مش هنضحك على الشقيانين" أو "اضحك معنا، لا علينا".