الواقع المحزن لِجَرَّاح في غزة
تاريخ النشر: 4th, March 2024 GMT
ترجمة: قاسم مكي -
في وقت مبكر من شهر فبراير كنت أجري عملية جراحية لفتاة تبلغ من العمر 17 عامًا تيتَّمت أثناء قصف جوي في غزة. خلف ستائر غرفة العمليات التي صنعناها من أردية الجرّاحين أمسكتُ شفرات مباضع الجراحة بملاقط لعدم وجود مقابض معقمة (وهذا يشكل خطورة على المصاب). حاولت دون جدوى إزالة الأنسجة المتهتكة بالشظايا.
قضيت أسبوعين كجرّاح متطوع في مستشفى غزة الأوروبي بالقرب من خان يونس والذي كان في الواقع آخر مؤسسة صحية تعمل في جنوب غزة. لم تكن تلك الفترة تشبه على الإطلاق أي شيء مرَّ في حياتي من قبل.
زرتُ القطاع المحتل أول مرة قبل 10 سنوات أثناء عملية «الجرف الواقي» التي شنتها القوات الإسرائيلية ضد حماس في عام 2014. ذهبت إلى هناك بغرض تدريس وتدريب الزملاء المحليين في فنون الجراحة الترميمية. وقتها صُدمت من بشاعة جراح مرضاي. لكني لم أشهد ما يماثل انهيار الأوضاع الإنسانية في غزة اليوم.
المستشفى الذي كنت أعرفه في يوم ما لا يمكن التعرّف عليه. لقد اختفى خلف حشد ضخم من الناس الذين جاؤوا بحثًا عن ملاذ آمن في مبانيه. كانت الممرات وآبار السلالم مكتظة بالأسر التي اتخذت منها ملاجئ. وكان الأطفال من كل الأعمار يتراكضون عبر الممرات خافتة الإضاءة. وفي قسم الطوارئ الفوضى لا تكاد تختفي. فهي سرعان ما تثور مع مجيء مصابين جدد بعد كل قصف.
وعلى الرغم من جهود الزملاء المحليين التي كرّسوها للمرضى كان هنالك تدهور مريع في المستلزمات الجراحية. فمعظم قواعد النظافة والتعقيم والعناية بالجروح التي سبق أن وصفتها فلورانس نايتنجَيل في حرب القِرْم تم التخلي عنها لانعدام المعدات المناسبة. (نايتنجيل 1820- 1910 ممرضة ومصلحة اجتماعية بريطانية ومؤسِّسة التمريض الحديث- المترجم).
كان مذهلا بالنسبة لي أن ما يشكّل أساس الجراحة الآمنة والذي كان يمارس أثناء كل حرب منذ معارك الخنادق في الحرب العالمية الأولى وإلى حرب أفغانستان تهاوَى تمامًا.
فمن دون تعقيم سليم لن يعيش المصابون بصرف النظر عن مهارة الجراح. وحتى إذا كانت الجراحة الفعالة ممكنة فالمشفى بالكاد يقدم رعاية ما بعد العمليات الجراحية بالنظر إلى قلة تجهيزات وحدة العناية الفائقة والنقص في الأعداد الكافية من الأطباء السريريين لمتابعة حالات المرضى. نتيجة لذلك كانت التهابات الجروح متفشية وحادة.
أما أعداد القتلى في أرجاء غزة (عند كتابة هذا المقال) والتي تقدر بأكثر من 29 ألف فصادمة بما فيه الكفاية. لكن حجم الإصابات التي تغير حياة المصابين من حروق إلى شظايا مغروسة في أجسامهم وأطراف مفقودة يصيب المرء بالدوار.
لقد أدركتُ لماذا تتجمع العائلات التي ليس لها مأوى عندما تتعرّض للهجوم. كانت تفعل ذلك لكي تحيا أو تموت معا. لقد فاقم فقدان العاملين في المشافي سواء بسبب الموت أو الإصابة أزمة الرعاية الصحية.
وسط المذابح والشقاء تعلَّم أفرادُ فرق العمل المتبقين في المشافي بعد تناقص أعدادهم استراتيجياتِ التماسك النفسي. ففي أثناء تناول فنجان من القهوة التي أعدت على اللهب في أرضية غرفة العمليات أخبرني جرَّاح كيف علَّم نفسه التركيز على المشكلة الطبية التي يواجهها أمامه وعدم الانشغال بالسؤال عن تفاصيل الخلفية المؤلمة للإصابة التي لحقت بالمريض.
في حالات عديدة كنت أشعر بالعجز. لكن وجود الأطباء الأجانب على الأقل طمأن فرق العمل المحلية بأن تعرّضهم لهجوم من الجيش الإسرائيلي أقل احتمالًا.
وعلى الرغم من عملي في مناطق النزاعات في الماضي فإنني لم أشهد أبدا مثل هذا القصف المستدام في غزة. صرتُ أكثر قلقا وفارقني النوم مع مر الأيام خلال فترة الأسبوعين التي قضيتها بالمستشفى. لكن الناس في غزة تحملوا هذه المعاناة لأكثر من أربعة أشهر.
منذ عودتي من هناك ظللت أفكر بشدة حول ما يمكن أن نفعله لاحتواء هذه الكارثة. فالحاجة مُلِحَّة للمعالجين والمعدات. وخطوط الإمداد الحالية غير كافية إلى حد بعيد والأرواح تُفقد في كل يوم تُحتجز فيها هذه الموارد ويُحال دون وصولها إلى غزة. هل لا يمكن لحكوماتنا إزالة العوائق البيروقراطية التي تعرقل تسليم المعدات المنقذة للحياة؟
في آخر أيام وجودي في المستشفى التقيت صديقا فلسطينيا. إنه طبيب شاب سبق لي أن عملت معه طوال عشرة أعوام. لقد اضطر إلى النزوح ست مرات منذ شهر أكتوبر. لكنه خاطر بزيارتي من رفح.
قال لي وأنا أصافحه: «أخذوا كل شيء دكتور تيم وأهم شيء أخذوه كرامتي». وعندما سألته كيف تمضي أموره وهل يثابر على علاج المرضى نظر إلى في حزن وقال: «يجب أن نتمسك بالحياة. علينا أن نستمر».
تيم جوديكار استشاري الجراحة التجميلية والترميمية ونائب رئيس سابق للكلية الملكية للجراحين في إنجلترا، سافر إلى غزة مع المنظمة الخيرية المعنية بالإغاثة الدولية في الكوارث والطوارئ مع الدعم طويل الأمد (آيديل).
عن صحيفة الفاينانشال تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی غزة
إقرأ أيضاً: