في أعقاب التحولات الاقتصادية غير المسبوقة وارتفاع معدلات التضخم لمستويات قياسية، اخترقت قوى "القلق المالي" بهدوء الأسر والمجتمعات في جميع أنحاء العالم.
يغوص هذا التقرير في نسيج المخاوف المعقد الذي ينسجه الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة وركود الأجور. فبينما يعيد التضخم تشكيل المشهد الاقتصادي، برز القلق المالي كتحد عالمي، يتجاوز الحدود ويؤثر في الأفراد في جميع مناحي الحياة.
يعدّ التضخم الشبح الذي يطارد استقرار الاقتصادات على مستوى العالم، إذ لم يؤدّ إلى ارتفاع الأسعار فحسب؛ بل زرع -أيضا- بذور الضائقة المالية في المجتمعات.
وأدى تفاعل تكاليف المعيشة المرتفعة مع الأجور التي تكافح من أجل مواكبة هذه الظاهرة، إلى بروز ظاهرة تعرف باسم "القلق المالي".
وتصف جينا فياس لي، عالمة النفس الإكلينيكي، في تدوينة بدورية لجامعة بيرمنغهام البريطانية الأمر بأنه "التوتر أو القلق أو عدم الارتياح الذي يعاني منه الناس بسبب وضعهم المالي".
وتشير فياس لي إلى أن هذه المشاعر عابرة للطبقات والفئات السكانية المتنوعة، من أولئك الذين يعيشون على رواتبهم إلى الأثرياء التقليديين.
ويعزو كيري بابس أستاذ الاقتصاد في جامعة كارلتون الكندية في حديث للجزيرة نت السبب الجذري لهذا القلق، إلى أنه يكمن في إخفاق التكيف بمجاراة الارتفاعات التضخمية، وليس ارتفاع معدلات البطالة.
ويقول إن التأثير كان واضحا بشكل كبير في السنوات الأخيرة -أو ما اصطلح على تسميتها عالم ما بعد كوفيد- حيث تستمر الأسعار بالارتفاع سنة بعد سنة، وهو ما أدى إلى ردود فعل من جانب المؤسسات المالية التي لجأت إلى التشديد النقدي لاحتواء الضغوط التضخمية.
وعلى الرغم من نجاعة هذه الطريقة في مواجهة التضخم على الورق، فإنها -وفقا لبابس- لا تضع في حساباتها حجم الضغوط التي تفرزها على المواطنين، وهو من أهم الانتقادات الموجهة لها.
ورغم نجاح بعض الدول في خفض معدلات التضخم، فإن القلق المالي لا يزال قائما، خاصة بين أصحاب الأجور المنخفضة الذين يتصارعون مع حد أدنى للأجور أقل نسبيا، وفق ما قاله بابس.
تأثيرات متصاعدةالقلق المالي ليس مجرد قلق عابر؛ بل هو حالة مزمنة لها عواقب بعيدة المدى. حيث كشفت دراسة بريطانية أجراها بنك "كريدت سبرينغ" عن أن 30% من الأشخاص أبلغوا عن تدهور الصحة العقلية منذ بداية الأزمة الاقتصادية.
وفي الولايات المتحدة، أظهر استطلاع أجرته شركة "بانك ريت" أن 52% من المشاركين شعروا بالتأثير السلبي للمال على صحتهم العقلية، مع تصدر مدخرات الطوارئ غير الكافية قائمة المخاوف.
هذا القلق المتزايد، كما لاحظت جينا فياس لي في تدوينتها، يترجم إلى ضعف التركيز في العمل، والعلاقات المتوترة، والتأثير السلبي في الرفاهية الشخصية.
يسلط مسح الإجهاد في أميركا لعام 2022 -الذي أجرته جمعية علم النفس الأميركية- الضوء على انتشار القلق المالي في كل مكان، حيث أشار 87% منهم إلى التضخم كونه عامل ضغط كبير، متجاوزا كل المخاوف الأخرى منذ 2007.
شبكة من الهشاشة الاقتصاديةويجد القلق المالي جذوره في عدم اليقين بشأن المستقبل، الذي يتفاقم بسبب تاريخ من الحرمان، والدخول المنخفضة أو غير المستقرة، وارتفاع النفقات، وشبح الديون الذي يلوح في الأفق.
ويؤدي التفاعل بين هذه العوامل إلى خلق أرض خصبة للتوتر والقلق، مع ظهور تكاليف الإسكان بشكل خاص، كونها عامل ضغط رئيس في معظم الدول.
ولا يقتصر القلق المالي على الحسابات الرقمية؛ فهو يتخلل كل جانب من جوانب حياة الفرد. حيث تتدهور العلاقات تحت الضغط، ويصبح النوم بعيد المنال، وتتخذ آليات التكيف أشكالا مدمرة، بدءا من المقامرة كمصدر دخل بديل، إلى اكتناز الأموال بسبب الحاجة الماسة إلى الأمان.
ومع استمرار القلق المالي في مسيرته التي لا هوادة فيها، يُنصح الأفراد بكسر حاجز الصمت. ففي حين أن المحظورات المجتمعية غالبا ما تحجب المناقشات المتعلقة بالمال، فإن البحث عن الدعم المهني يصبح أمرا ضروريا.
وتؤكد جينا فياس لي التأثير الكبير للمساعدة المهنية، وتسليط الضوء على إمكانية كسر دائرة القلق، والدخول في التخطيط المالي طويل المدى.
ولمعالجة القلق المالي بشكل مباشر، قالت فانيس لوسون الباحثة في علم النفس الاقتصادي بجامعة كارلتون الكندية إنه يجب على الأفراد اعتماد تدابير استباقية:
أخذ فترات راحة قصيرة لتخفيف التوتر الفوري. إنشاء ميزانيات شاملة للأسرة. المشاركة النقابية تبرز هنا كونها مصدر قيم للدعم الاجتماعي، من حيث التفاوض من أجل زيادة الأجور، والدفاع عن الحقوق، وتوفير الاستقرار أثناء التغييرات الاقتصادية أو التنظيمية. طلب المساعدة المهنية عندما تصبح الضائقة دائمة.والخلاصة أنه مع مواجهة العالم لموجات من عدم اليقين الاقتصادي، يظهر أن كسر الصمت واللجوء إلى الدعم المهني تبرز كخطوتين أساسيتين للتخفيف من تأثيرات القلق المالي المتصاعد، وتعزيز المرونة، وتمكين الأفراد من التنقل في المشهد الاقتصادي القاتم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
مبدأ قضائى.. الامتناع عن محو السجلات الجنائية بعد البراءة قرار غير قانونى
في إطار الحلقات الرمضانية التي تقدمها “اليوم السابع” تحت عنوان "مبدأ قضائي"، أصدرت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة حكمًا قضائيًا، يؤكد أن الامتناع عن حذف بيانات الأفراد من السجلات الجنائية بعد صدور حكم بالبراءة يعد قرارًا سلبيًا مخالفًا للقانون.
وأوضحت المحكمة أن الجهات الإدارية ملزمة بإزالة هذه البيانات لضمان احترام حقوق الأفراد ومبدأ البراءة الذي يكفل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم نهائي.
وأكدت المحكمة أن قبول الطعن شكلًا يعني أنه استوفى جميع الشروط القانونية، مما يجعله مقبولًا أمام القضاء. ومع ذلك، شددت على أن الأفراد الذين صدر بحقهم حكم بالبراءة يتحملون مسؤولية تقديم المستندات التي تثبت ذلك، لضمان إلغاء تسجيلهم الجنائي. وفي حال عدم تقديمهم لهذه الوثائق، يحق للجهات المختصة رفض الدعوى والإبقاء على البيانات المسجلة.
من ناحية أخرى، ألقت المحكمة المسؤولية على الجهات الإدارية، مؤكدة أنها ملزمة قانونيًا بمحو السجلات الجنائية للأفراد الذين لم تُثبت إدانتهم أو الذين حصلوا على حكم بالبراءة، طالما لم تكن هناك أدلة قانونية تستدعي استمرار تسجيلهم.
ويأتي هذا الحكم في إطار حماية كرامة الأفراد وضمان عدم المساس بحقوقهم نتيجة اتهامات لم تثبت قانونًا. كما يعزز مبدأ العدالة الجنائية، حيث لا يجوز تسجيل أي بيانات جنائية ضد أي شخص إلا بناءً على أحكام نهائية وبأدلة قاطعة، وذلك وفقًا للطعن رقم 13643 لسنة 70 ق عليا.
مشاركة