في أغنية «سهران لوحدى» لأم كلثوم، يحكى أحمد رامى عن عاشق ولهان يسهر يجْتَرّ أفكاره طوال الليل والحيرة تعصف به. يبدأ بوصف حاله في سكون الليل وسط الصمت والخواء: «سهران لوحدى أناجى طيفك السارى.. سارح في وجدى ودمعى ع الخدود جارى. نام الوجود من حواليا وأنا سهرت ف دنيايا.. أشوف خيالك في عينيا وأسمع كلامك ويّايا».
كل اللى شفته خطر ع البال وعشت فيه هايم ولهان.. ولما بُعدك عنى طال حنّيت لأيام الهجران». لا أنكر أننى تحيرت من الشطر الأخير، إذ ما معنى «ولما بُعدك عنى طال حنّيت لأيام الهجران».. أليس البُعد الذي طال هو نفسه أيام الهجران، فكيف يحن الحبيب إلى ما يعيشه بالفعل؟.. ومع ذلك فقد افترضتُ أن رامى يقصد التفريق بين البعاد الذي قد يكون لأسباب خارجة عن إرادة الحبيب وبين الهجران العمدى المقصود، وأحسست أن الشاعر بفعل الضيق الذي يشعر به أصبح يحن لأيام الهجر، الذي كثيرًا ما يكون مرادفًا للدلال والتمنع بغرض إثارة مشاعر الحب والغيرة. عجيب رامى في تشبيهاته وتهويماته ومضيه مع غواية الشعر منطلقًا بغير حدود.
في نفس الأغنية يكمل شاعر الشباب: ياللى رضاك أوهام والسهد فيك أحلام.. حتى الجفا محروم منه يا ريتها دامت أيام!. يثير هذا التعبير الأخير علامات استفهام عديدة، أليس الطبيعى أن يشكو العاشق من الجفا، فكيف بالعم رامى يشكو من افتقاده للجفا وكيف به يقول يا ريتها دامت أيام؟!. لا بد أن ثمة معنى خفيًّا خلف هذا الكلام الطلسمى!. في ظنى أن الشاعر يعيش أيامًا جدباء جافة خالية من الشعور، لهذا فإنه يحن لأيام الجفاء الذي ينتاب المحبين بين الفينة والفينة أثناء استغراقهم في قصص الغرام، وهو يختلف عن القطيعة، وقد يكون هو تكلُف التجهم أثناء اللقاء مع إبداء شىء من اللوم، ولعل ذلك ما شرحه باقتدار شاعر آخر هو بيرم التونسى في أغنية أخرى للسنباطى أيضًا قال فيها: أورّيه الملام بالعين وقلبى ع الرضا ناوى!… ومما يؤكد هذا المعنى قول رامى بعد ذلك في وصف أيام الجفا التي يحن إليها: كان عهد جميل، حاسد وعذول والبال مشغول!. آه هنا يبدو المعنى واضحًا، إن الشاعر يفضل العلاقة الصاخبة الممتلئة بالحياة والأكشن، فيصف هذه الأيام بالعهد الجميل الذي لم يخلُ من العواذل والحُسّاد ومُدبرى المكائد، وذلك عنده أفضل من تعطل العواطف وموات الروح. ثم يرثى رامى حاله وينعى أيامه قائلًا: راحت عواذلى وحُسّادى وطفيت النار.. ياللى صبرت على بعادى وأنا عقلى احتار. لا يوم وصالك هنّانى/ ولا هجر منك بكّانى/ يا طول عذابى وحرمانى.
لا أحد مثل رامى في استدرار المعانى وتحميلها شحنات عاطفية غير مسبوقة.. وكله كوم، و«حتى الجفا محروم منه» كوم آخر!.
أسامة غريب – المصري اليوم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: أیام ا
إقرأ أيضاً:
قصور الثقافة تصدر المجموعة القصصية "بطاقة حي بن يقظان" لأسامة ريان
صدرت مؤخرا المجموعة القصصية "بطاقة حي بن يقظان" للكاتب القاص أسامة ريان، عن سلسلة "أصوات أدبية" بالهيئة العامة لقصور الثقافة، بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة.
جاءت المجموعة في خمس عشرة قصة، عناوينها: "فايز، تشابك، أبلة قدرية، أسماء، الفرية، المؤسسة، أنا والفراغ، بائد، بطاقة حي بن يقظان، حلال العقد، رحلة، في القران، من هناك، هولاهوب، يوم احتفوا بالفأر في الكرار".
يتسم السرد في هذه المجموعة ببساطة المفردة وسلاسة الأسلوب وتعبيريته، كما يلعب الحوار دورا أساسيا في العديد من القصص، وهو حوار ذو بنية موجزة استطاع بمقدرة فائقة أن يمزج الهم الخاص بالهم العام، وهو ما يشي بموهبة الكاتب وقدرته على الإمساك بكل خيوط الحكاية.
من قصة الفرية نقرأ: "سيصطحبني الليلة لزيارة البهو. أوحشني.. سنوات مضت منذ تقاعدت، لم أزره من حينها.. هو طبيب كبير في القصر الآن، مسموح له بأمور كثيرة.
فاحت في الجو روائح عطور ثمينة، بينها عطر الهيكل، تعقبها صلصلة أجراس وسلاسل عربة.. تردد صوته في الردهة، غابت أمه في حضنه الواسع، اخشن صوته.. فرحة، تقنعه بالطعام الذي لطالما أحبه.. أعدته رغم محاولاتي إقناعها بطيب العيش الذي يحياه بالقرب من الملك الشاب.. قبلني وعيناه لا تبارح لوحاتي التي تغطي الجدران.. لا يكف عن نفس التعليقات:
-لماذا لم ترسم هكذا على جدران البهو.. مشروع العمر؟
أصبحت ألهث الآن لمجاراة منطقه.. سعيت لإلحاقه بالمعبد وهو في السادسة، رغم فقرنا الواضح، بناء على توصية من الكاهن الشاب، الذي كان معجبا بفني، ويأتي ليناقشني خلسة..".
ومن حي بن يقظان: "قفزت إلى رأسي تلك الحكاية منذ عدة أشهر، في حافلة هوجاء مزدحمة صباحا، تطوحنا، ثم تقف فنتصادم داخلها بعنف أو برفق، نتبادل نظرات عتاب صامت تمهيدا لصدمات تالية قبل أن تقذفنا عادة في منتصف الطريق.. مع صيحات تهديد السائق للمتلكئين "المعطلين لمصالح الناس" تزيد تهديداته من حذر وتوتر المقتربين من باب النزول، يتلفتون لما يندفع إلى جوار الحافلة من موت ميسر بلا مسئولية، تحت عجلات هوجاء.. لا أنسى مشهد الرجل الذي حفت به السيارة المسرعة ممددا على الأرض بعد مغادرته للحافلة وسط استنكار الركاب، ولا أعرف مصيره بعد أن أسرع سائق الحافلة متجاهلا المشهد. ترى هل كانت بطاقته معه؟ لم تكن لتنقذه، بل تعرفه ويعرفه أهله.. عند هذا المشهد تصاعد توتري. كيف يتعرفون علي؟".
"أصوات أدبية" سلسلة تعنى بنشر أعمال الأدباء المصريين في الشعر والنسر، وهي إحدى إصدارت الإدارة العامة للنشر الثقافي، بإدارة الحسيني عمران التابعة للإدارة المركزية للشئون الثقافية برئاسة الشاعر د. مسعود شومان، تصدر برئاسة تحرير الشاعر إبراهيم عبد الفتاح، مدير التحرير شعبان ناجي، سكرتير التحرير سحر جابر، والغلاف لمحمد بحيري.