دكتور الوليد آدم مادبو
ليس إلا القممُ الشاهقةُ الصمَاءُ
تُعطِي صدرَها العارِي لنيرانِ الغزاةْ !
(فضيلي جمّاع: كاوْدا - صَخْرةُ الصُّمود!)
يتعلل غلاة الجلابة (نخب شمال السودان الفكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية والأمنية) في دفاعهم عن الجيش رغم فساده بأنه الوسيلة الوحيدة للإبقاء على "الدولة" والحفاظ على هيبتها.
لقد سعى الجلابة، والذين اتخذوا من شعوب الشمال رافعة سياسية وإجتماعية دون أن يكون لهذه الفئة ولاء واضح لأهلها، التعويض عن فقرهم المادي بالتعويل على إفقار الريف واستتباعه للمركز مؤسسياً وإدارياً. لا غرو، أن موارد الريف الطبيعية ظلت تستفيد من عائدتها فئة طفيلية عكفت على كنز الأموال ولم تسع لتقديم رؤية تنموية ونهضوية تشمل كل البلاد، بل أمعنت في استغلال موارد الريف الغربي والشرقي خاصة تدعمها الآلية العسكرية التي تعاملت مع كل دعوة مطلبية على أنّها مؤامرة عسكرية وسياسية تستوجب الردع. عليه، فإن وصف الحروب في السودان بأنّها تمردات علي الدولة هو مجرد هراء ظل يبثه بعض الأدعياء وتردده الآلية الإعلامية المغرضة العمياء. هذه الحروب هي محاولات جسورة ظل يقوم بها أهل الهامش السوداني منذ "تمرد" توريت عام 1955 حتى دخول خليل إبراهيم الخرطوم وأم درمان عام 2008 للتخلص من حكم الأقلية العرقية والعصابة العقائدية - تلكم التي استمرأت حكم البلاد لأكثر من قرنين (إعتباراً من تاريخ دخول الأتراك السودان في عام 1821) وأعتقدت بأنه حق إلاهي مقدس فيما يعلم الكل أنّه إرث استعماري مُدَنَس.
لم تنجح الإنتفاضات التي قامت في المركز جميعها في تقويم هذا الوضع المختل والذي تطاول أمده، والأدهى أنّ النخب المركزية استمرأت تلكم المعادلة المعطوبة التي جعلت السودان حكراً لأقلية أيديولجية وعقائدية وسعت للترويج لها عبر بعض "الرموز الثورية" التي لم تخرج يوماً عن دائرة النخبة النيلية كما حدث في أكتوبر وأبريل وظل يحدث منذ ثورة ديسمبر. كلما دفع الثوار نحو شعارات الحرية والسلام والعدالة كلما تراجع "القادة" مؤثرين بعض الإصلاحات الشكلية ومحتفظين لأنفسهم بالأحقية في تحديد الوقت المناسب لتحقيق "التسوية الوطنية الشاملة"، وذلك بعد أن تبلغ الشعوب النضج فهي في نظرهم ما زالت في طور المراهقة الفكرية والأخلاقية. هذه هي بعض الإختلالات والتوهمات التي ظل يعاني منها العقل المركزي الذي لا يعمل بمعزل عن آليات سياسية واستخباراتية تصوّر له ضرورة اختيار أشخاصاً من الهامش تتوافق رؤاهم مع رؤى سادتهم الذين طالما برعوا في استخدام سبل "الترميز التضليلي" للتحايل على مطالبات الأقاليم في تحقيق العدالة عبر إصلاحات مؤسسية ودستورية محددة.
يعاني بعض الغرّابة (من غرب السودان) الذين خرجتهم "حركات الكفاح المسلح" من عقدة دونية تجعلهم لا يستغنون عن إمرة واحدٍ من رموز "اللجنةالامنية"
(خاصة الجلابة الغلابة الذين ظلوا ينتقلون من هزيمة إلى أخرى) ليبرهنوا به عن غربتهم عن واقع الثورة السودانية التي رفضت الامتثال للعملاء من كافة الملل والنحل. ما تفعله هذه العصابات ليس دليلا ًعلى نضج سياسي إنّما هو فهلوة سيدفعون ثمنها في القريب العاجل، يوم أن ينفضهم الشعب من المسرح السياسي بعد ان لفظتهم الأجيال من وعيها الوطني. تكلم السيد/ جبريل إبراهيم عن الكساد الإقتصادي الذي أصاب البلاد من جراء الحرب وقد كان حريُّ به أن يتحدث عن الإنهيار الإقتصادي الوشيك وعن فشل إدارته في إيصال المعونات الإنسانية للمتضررين والمعوزين في كافة أنحاء البلاد وفي ولايته خاصة. كما يلزم أن يتعرض سيادته للكلفة البشرية والمادية للحرب التي طالت وستستمر دون أمل في تحقيق أحد الفريقين أي هدف استراتيجي أعلى، فقط التمادي في رفع وتيرة الدمار والهلاك الذي لن ينجو منه كل من تسبب في إيلام هذا الشعب المؤمن الصابر. وعندما اتكلم عن الشعب فانا أعني الشعوب السودانية جميعها ولا يقتصر فهمي على بقعة جغرافية معينة. لقد تعدّى مفهوم القومية نطاق الأحلاف للقبائل الشمالية، على الأقل في ذهنية النخب المتحررة من قبضة الشمولية.
إن جبريل ومناوي يقومان بدور البازنقر الذي استخدمه الزبير باشا لتطويع الشعوب السودانية والدارفورية خاصة (الذي كان نواة لقوة دفاع السودان)، وهما إذ يؤديان هذا الدور يتغافلان عن حقيقة مفادها أن هذا الجيش الذي يؤيدانه يحمل في طياته الحامض النووي للإبادات الجماعية التي طالما كان ينظر مرتكبوها للشعوب السودانية غرب النيل على إنها مجرد ساحة ملئ بالعبيد والخدم (genealogy of thought). ليس أبلغ في التدليل على عنصرية النخب النيلية من رواية فشودة للروائي الدكتور أحمد حسب الله الحاج الذي يقول على لسان أحد العبيد: "رجال الحكومة هم الوحيدون القادرون على أن يمسكوا بك ويقطعوا أذنك، ويرموها في كيس للملح. ولماذا فعلوا ذلك؟ ليثبتوا أنهم يعملون. لقد فعلها أولاً الشايقية الذين حاربوا مع جيش إسماعيل باشا. كانوا يقطعون آذان القتلى ليحصلوا على مكافآتهم، وأخذها منهم الكثيرون من رجال الحكومة، كانوا يزيفون الأوراق ويقولون قبضنا على مائتي عبد وهم لم يمسكوا إلا مائة، ولهذا طالبهم من يتابع عملهم بالدليل، ولم يجدوا دليلاً أفضل من الأذنين، فالعبد لا يموت بعد أن تقطع أذنه، ثم أنه يستمر يسمع بعد ذلك. في الحقيقة يسمع بطريقة أفضل بعد ذلك، لأنه يعرف أن الذي قطع أذنه يستطيع أن يفعل به ما يشاء. إن أذني بمصر دليل على أنى موجود كعبد في السودان."
ذكرتني الاعتقالات التي طاولت أبناء الشرق وبعض القيادات النقابيّة بالموانئ الأيام الماضية بحادثة طريفة حدثت لواحد من الهدندوة مع صاحب مزرعة في كسلا، والمعروف أن معظم المزارع في تلك المنطقة يمتلكها أهلنا الشوايقة. الشايقي جاء لتفقد مزرعته بالنهار ووجد أدروب نائماً فعاتبه عتاباً غليظاً وقال له: انت بالليل ما مفروض تنوم (المقصد مفروض تعكف على حراسة المزرعة)، فكيف تنام بالنهار؟ أدروب بكل برود رد عليه قائلاً: أدروب لو نايم انت ما تصحي، ادروب لو صاحي انت ما كان بكون عندك مزرعة في كسلا!
الشاهد في الأمر أن هذه الحادثة على بساطتها وطرافتها تعكس الخلل في الاقتصاد السياسي السوداني، فمن يملك حق التوظيف في الخارجية والداخلية وبنك السودان والقوات النظامية والسكة حديد والأراضي يملك أن يفقر أهله أو يغنيهم. بهذه الطريقة ظل الشرق مملوكاً لفئات وافدة كما ظل الغرب أسيراً لسياسات ظالمة، وكل ما احتج اهل هذه البقاع أو تلك تمّ استرضاؤهم بتعيين أحد الأرزقية من أبنائهم في منصب لا يحل فيه ولا يربط واذا استفحل الأمر فتوجيه الآلية الحربية التي وظفت لقمع إرادة الشعوب ولم توظف يوماً لصيانة كرامتهم أو حفظ حقوقهم. إن المعركة معركة سياسية وفكرية وثقافية ولا يمكن أن تُحسم عسكرياً، بل يجب أن تُرَشَّد ويُحْكم زمامها حتى لا تضيع البلاد من بين أيدينا.
إن للجلابة (التعريف أعلى المقال) شعوراً بالاستحقاق وهذا الاحساس لا يفارقهم بل ظل يسبب لهم أزمةً نفسيةً إذ يطالبون بالديمقراطية والمدنية ويدعمونها فكرياً بيد أنهم يفارقونها وجدانياً لأنهم يعلمون أنهم باتوا أقلية ممقوتة ومكروهة بسبب ما ارتكبوه من مآسي في حق الشعب السوداني. يقول عجوزٌ من مفكريهم، "فلكلوري" عتيد، أنهم يحافظون على الجيش لأنه السبيل الوحيد للحفاظ على الدولة. السؤال: أين هي الدولة ومن الذي تسبب في حدوث الاختلال الوظيفي الذي أبتليت به؟ أليس هم الجلابة بطمعهم وبلادتهم وحماقتهم. بل أين هو الجيش وقد استبيحت الخرطوم والجزيرة ومن قبلهما دار مساليت؟ هذه الفئة العنصرية لا تهمها أي بقعة في السودان حتى لو كانت توتي (ملتقى النيلين)، قدر ما يهمها تأمين الشمالية ونهر النيل.
ختاماً، لقد انهارت دولة الجلابة وذهبت غير مأسوفٍ عليها، فقد أورثتنا البغضاء وأججت نار العداوة فيما بيننا ومع كل جيراننا، ولم يعد لديها موقفاً أخلاقياً تبني عليه أطروحاتها الفكرية المهترئة فقد انتقلت بنا دون جدوى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وحلقت بنا زمناً في سماوات الإفك وضلالات الكذب المبين. كل ذلك لتقنين وضع أقلية بائسة فقيرة لو تركت لنفسها لم تجد غير سم العقارب مادة للتصدير. الأدهى، أن هذه الفئة حصرتنا في الفضاء المشرقي وحرمتنا من التمدد الطبيعي في محيطنا الغربي بسبب ضعف البصيرة وبؤس المخيلة. لا يتسع المجال هنا للتعرض لمفكري المركز العنصريين وهم كثر، لكنني اكتفي بذكر "الكلب العقور" الذي وصفني في إحدى إخباريات يومه الكسول بقوله "الجنجويدي المتخفي"، فهل هناك إبانة عن موقفي اكثر من هذه المقالة؟ فعلام التخفي ولم الإزورار؟
auwaab@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
البروفيسور محمد إبراهيم خليل: عالمٌ مُلهمٌ، ورجلُ دولةٍ خالدُ الذكرى
البروفيسور محمد إبراهيم خليل: عالمٌ مُلهمٌ، ورجلُ دولةٍ خالدُ الذكرى
بقلم: نصر الدين عبد الباري*
نصر الدين عبد الباريفي هذه الأيام، يخيّمُ على السودان وفي أوساطِ السودانيين حزنٌ عميق، نابعٌ من فقدان عدد لا يُحصى من الأرواحِ، والمعاناةِ المستمرة، التي تثقل كاهلَ الأمة السودانية. ويزدادُ هذا الحزنُ وطأةً عندما يفقد المرءُ إنساناً عرفه عن قربٍ أو كان به من المعجبين.
في العاشر من ديسمبر 2024، شعرتُ بوطأة هذا الحزن، حينما تلقيتُ نبأ وفاة البروفيسور محمد إبراهيم خليل، أحد القامات البارزة في الحياة الأكاديمية والسياسية والعامة في السودان.
بدأتْ معرفتي بالبروفيسور خليل إبَّان سنتي الأولى كطالبٍ في كلية القانون بجامعة الخرطوم، حيثُ كان اسمه وإرثه بارزين كعَلَم من أعلام القانون، وتعمَّقتْ معرفتي به بعد سنواتٍ، حينما حظيتُ بشرفِ تأليفِ كتابٍ بالاشتراك معه.
كطالبٍ جديد، كانت معرفتي بتاريخِ كلية القانونِ محدودة، رغم أنني كنتُ على درايةٍ بالماضي المتميِّز لجامعة الخرطوم. وبسبب حرصي على التَعَلُّم، تعمَّقتُ في تاريخ الكلية، حيث تبيَّنتْ لي المساهمات الاستثنائية، التي قدمها أساتذتُها وخريجوها في التطور الاجتماعي والسياسي والدستوري في السودان. من بين هؤلاء، كان اسم البروفيسور خليل بارزاً، ليس فقط لتميُّزِه كأول عميد سوداني لكلية القانون، حيثُ خلف خريج أوكسفورد البروفيسور إلكانا تينينباوم—آخر عميد غير سوداني للكلية—وإنما كذلك لدورِه المؤثر في تشكيلِ الحوكمةِ السياسية والتاريخ الدستوري للسودان. لقد كانت سيرتُه الذاتية، المعروضة بشكل بارز خلال أيام حفلات التخرج في الكلية، مع السِّيَر الذاتية للعمداء السابقين الآخرين، تبرز رحلتَه المتميِّزة كعالمِ ورجلِ دولة وسياسي، وتلهم الطلابَ والزوَّارَ والمحامين الطموحين على حدٍ سواء.
لقد كان من بين الأكاديميين الرواد، الذين بدأوا الانخراط في العملِ السياسي والخدمةِ العامة، وهو المسارُ الذي تبعه فيه فيما بعد العديدُ من عمداء وأساتذة كلية القانون بجامعةِ الخرطوم، الذين تبوأوا منصب وزير العدل، أو النائب العام، أو رئيس القضاء، أو تولوا مناصب حكومية رفيعة أخرى.
وُلد البروفيسور خليل في حي المسالمة بمدينة أم درمان عام 1920، وكانت حياتُه تجسيداً للتميُّز الأكاديمي والمهني. إذ بدأ مسيرتَه الأكاديمية بدراسةِ العلوم وأكملها، وعمل مدرساً، قبل أن يتحول إلى دراسةِ القانون بجامعةِ الخرطوم في سنِ الثلاثين. حصل على درجة البكالوريوس في القوانين، ثم تابع دراسته ليحصل على درجة الماجستير من جامعة لندن. وامتدتْ مسيرتُه المهنية بين العملِ الأكاديمي والخدمةِ العامة والممارسةِ القانونية على المستويين المحلي والدولي.
التحق البروفيسور خليل بنقابةِ المحامين السودانيين في عام 1954، ومارس القانون أمام المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف، حيث تخصص في القضايا المدنية والتجارية. وفي عام 1958، انضم إلى مكتب النائب العام (وزارة العدل)، كمستشارٍ قانونيٍ أول، ثم ترقَّى ليصبح نائباً للنائب العام، ويلعب دوراً محورياً في تحويلِ ديوانِ النائب العام من مؤسسةٍ ناشئة إلى ديوانٍ قويٍ يتمتع بالكفاءة والفعالية، حيث أشرف على صياغة التشريعات وتسوية النزاعات، التي شملت قضايا معقدة تخص شركات سودانية ودولية. كما كرّس جهودَه لتدريبِ وتأهيلِ جيلٍ جديدٍ من القانونيين السودانيين، مما أسهم في تعزيزِ الكفاءةِ القانونية على المستوى الوطني.
كانت مساهماتُه الأكاديمية ذات أثرٍ بالغٍ وأهميةٍ استثنائية؛ إذ شغل منصب أول عميد سوداني لكليةِ القانون بجامعة الخرطوم، ولعب دوراً كبيراً في إرساءِ أسسِ التعليم القانوني الحديثِ في السودان. وقبل توليه منصب العميد، قام بتدريس قانونِ الشركات في جامعةِ الخرطوم بالتزامن مع عمله في وزارةِ العدل، مما عزّز ارتباطه العميق بتطويرِ التعليمِ القانوني والممارسة العملية.
بدأ البروفيسور خليل انخراطه الفعلي في السياسة السودانية بعد ثورة أكتوبر 1964، التي دشنت التجربة الديمقراطية الثانية في السودان (1964–1969). وتجدَّد نشاطُه السياسي خلال التجربةِ الديمقراطية الثالثة (1985–1989). وخلال هاتين الفترتين الديمقراطيتين، شغل عدةَ مناصب رفيعة، حيثُ عمل وزيراً للحكم المحلي، ووزيراً للعدل، ووزيراً للخارجية، ورئيساً للبرلمان. وقد استقال لاحقاً من منصبه كرئيس للبرلمان وانتقل إلى الولايات المتحدة ليستقر بمدينة كولومبيا بولاية ماريلاند، ويعيش فيها حتى وفاته. لم يكن البروفيسور خليل مدفوعاً في انخراطه في العملِ العام بالرغبةِ في السلطة أو الميلِ إلى اتخاذِ السياسةِ مهنةً؛ بل كان انخراطُه في السياسة نابعاً من إيمانه العميق بخدمةِ السودان والمساهمةِ في بناءِ مؤسساته القانونية والسياسية.
امتدت المسيرةُ المهنية للبروفيسور خليل إلى ما وراء حدود السودان، إذ شغل بين عامي 1971 و1976 منصب عميد ورئيس مجلس الدراسات القانونية الإسلامية في جامعةِ أحمدو بيلو بنيجيريا، وقام بتدريسِ القانون الدستوري والتجاري والجنائي، وكان مصدر إلهام لعددٍ كبيرٍ من طلابِ الدراسات العليا.
وفي الفترة من 1976 إلى 1985، عمل مستشاراً قانونياً لصندوق التنمية العربي الكويتي، ولعب دوراً رئيساً في التفاوضِ وصياغةِ عقود القروض التنموية في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. علاوة على ذلك، سخّر خبرتَه القانونية في حلِ النزاعات التحكيمية، مما أسهم في تحقيقِ حلولٍ منصفة للدول المقترِضة وضمان عدالة العمليات التنموية.
في الولايات المتحدة، تولى البروفيسور خليل أدواراً متميِّزة، تمثلت في عملِه زميلاً باحثاً في مركز وودرو ويلسون الدولي للعلماء، وزميلاً غير مقيم في معهدِ الشرق الأوسط، وزميلاً في معهد الولايات المتحدة للسلام، مما عزَّز مكانتَه كأحد الأكاديميين البارزين في المجالات القانونية والسياسية على الساحة الدولية.
علاوة على ذلك، شغل البروفيسور خليل بين عامي 1990 و1991 منصب مستشارٍ خاص لمركز تسوية نزاعات الاستثمار الدولي (ICSID). خلال تلك الفترة، أجرى دراسة شاملة لأكثر من 300 معاهدة استثمار ثنائية بين الدول الصناعية والدول النامية، مما أثمر عن إعداد تقريره الذي نُشر كوثيقةٍ رسميةٍ للبنكِ الدولي، ليكون مرجعاً مهماً في مجال الاستثمار الدولي.
كان البروفيسور خليل باحثاً غزير الإنتاج. وتناولت أعمالُه مجالات متنوعة شملت القانون الدستوري، وحل النزاعات، والتفاعل بين الدين والحداثة. ومن أبرز مساهماته في هذا السياق، بحثه “النظام القانوني في السودان”، الذي نُشر عام 1971 في مجلة القانون الدولي المقارن ربع السنوية، التي تصدرها جامعة كامبريدج. كما قدم فصلاً مهماً عن تجربة السودان الدستورية وتأثير الأسلمة على الديمقراطية ووحدة البلاد، ضمن كتابٍ عن التجارب الدستورية الأفريقية نُشر من قِبل معهد الولايات المتحدة للسلام، حرره الدكتور فرانسيس دينق، وهو كذلك خريجٌ متميِّزٌ من كلية القانون، عُيِّن معيداً بها، وأصبح لاحقاً وزير دولة بوزارة الخارجية، ثم تولى مناصب دولية رفيعة بمنظمة الأمم المتحدة.
لقد وثّق البروفيسور خليل رؤاه حول الحرب الأهلية في السودان في كتابه “الحرب الأهلية في السودان: عملية السلام قبل وبعد اتفاقِ ماشاكوس”، الذي شارك في تأليفه مع الدكتور فرانسيس دينق. بالإضافة إلى ذلك، تناول البروفيسور خليل في مقال نُشر عام 2000 في مجلة جامعة أكسفورد لاقتصاديات أفريقيا، حل النزاعات في أفريقيا، مما يعكس التزامه العميق بمعالجة القضايا المعقدة التي تواجه القارة الأفريقية.
امتدت أبحاث البروفيسور خليل إلى ما وراءِ القارة الأفريقية، لتبرز منظوراً عالمياً تجاه القضايا القانونية والاقتصادية. وقد شملت أعماله مُسَوَّدة اتفاقية الاستثمار متعددة الأطراف لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي أعدها لصالح لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا في عام 1998، بالإضافة إلى دراسته حول معاملةِ الاستثمار الأجنبي في المعاهدات الثنائية للاستثمار (ICSID، 1992)، والتي تُرجمتْ لاحقاً إلى اللغة اليابانية.
في مراحلٍ من مسيرتِه الأكاديمية، ركَّز البروفيسور خليل على إصلاح القانون في نيجيريا ودور المؤسسات الإسلامية، ونشر مقالات بارزة منها “والي المظالم أو الأمبودسمان الإسلامي” (1976) و“إصلاح القانون الجنائي في نيجيريا” (1975). ومن خلال منشوراته المتنوعة، مثل مقاله “الإسلام وتحديات الحداثة”، الذي نشرته مجلة جامعة جورجتاون للشؤون الدولية عام 2004، ترك البروفيسور خليل إرثاً فكرياً مستداماً، يعكس الجهود التي بذلها من أجل التنمية الاجتماعية وتحقيق العدالة وتعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات.
شملت المساهمات الأكاديمية الواسعة للبروفيسور خليل كذلك أعمالاً متميِّزة حول الأنظمة القانونية والسياسية في السودان، بالإضافة إلى قضايا أوسع تتعلق بالقانون والحداثة. ومن بين هذه الأعمال ورقته البحثية “النظام القانوني في السودان ومشكلات الإصلاح القانوني،” التي قُدّمتْ في الأصلِ في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاة الأستاذ محمد أحمد محجوب، وهو خريجٌ آخر متميِّزٌ من كليةِ القانون بجامعة الخرطوم، شغل مناصب بارزة في السودان، حيث عمل أولاً كوزير للخارجية ثم كرئيس للوزراء. وتُبيِّن أعمال البروفيسور خليل حول النظام القانوني السوداني والقانون والحداثة مدى انخراطه في تاريخ القانون السوداني ورؤيته لإصلاحِه. بالإضافة إلى ذلك، تناولت ورقةٌ بحثية أخرى من أوراقه وهي”خيارٌ بين التعايش في بلد واحد وجوار ودي،” التي قُدمت في الجلسة التشاورية الرابعة، التي نظّمها معهد النهضة الأفريقية ومؤسسة العلاقات الدولية في إيست ساسكس، التوازنَ الدقيقِ بين الوحدة والانفصال السلمي في سياق المشهد السياسي المعقد في السودان.
إلى جانب ذلك، تناولت أبحاث البروفيسور خليل تحديات قانونية دولية معقدة، كما يتضح في ورقته البحثية “الأنظمة القانونية في الدول الإسلامية المعاصرة: منهجية التفسير وتحديات الحداثة.” وقد قدّم هذه الورقة في مائدة مستديرة أقامتها المنظمة الدولية لتطوير القانون في روما عام 2002، حول دور القانون في تطوير أفغانستان. عكست هذه الورقة، غير المنشورة، مساعيه الفكرية لسبر أغوار التقاطعات أو التفاعلات بين الشريعة الإسلامية ومتطلبات الحوكمة الحديثة.
تشكل هذه الدراسة، إلى جانب إسهاماته المنشورة الأخرى، جزءاً من الإرث الفكري الثري للبروفيسور خليل، الذي تميَّز بقدرته الفريدة على معالجة القضايا الوطنية والدولية بأسلوب يجمع بين العمق والوضوح وبُعد النظر.
لقد تشرفتُ بالعمل عن كَثَبٍ مع البروفيسور خليل عندما تشاركنا في تأليف كتاب “دستور السودان المستقبلي: تطلعات ورؤى” في العام 2012. كان التعاون معه تجربة تعلم عميقة ومميَّزة، أتاحتْ لي فرصةَ التعرّف على جوانبِ شخصيته الفريدة—تواضعه الجم، وانفتاحه على الأفكار الجديدة، وقدرته الاستثنائية على الاستماع بانتباهٍ واهتمام. وعلى الرغم من معرفته وخبرته الواسعة، ظل البروفيسور خليل نموذجاً لطالبِ علمٍ مدى الحياة، يقدّر آراء الآخرين ويحترمها، ويحاول التعلم منها.
حتى في سنواته الأخيرة، حافظ على علاقاته مع الجميع، مقدماً النصائح بحكمة، ومحترماً الأعراف الاجتماعية، ومؤدياً لواجباته الشخصية بتفانٍ. وأذكر هنا أنه عندما تم تعييني وزيراً للعدل في عام 2019، اتصل بي هاتفياً بكل تواضع ليشاركني حكمته ونصائحه. وعندما توفيت والدتي، رحمها الله، في يناير 2020، لم يتوانَ عن تقديم واجبِ العزاء، في لفتة إنسانية عكست دماثة أخلاقه ونبل قيمه.
حافظ البروفيسور خليل، بشكل مدهش، على نشاطه الفكري حتى بعد عامِه المئة. ففي سن 101، أصدر آخر أعماله الرئيسية “لماذا انفصل جنوب السودان” (2021)، وهو كتابٌ باللغة الإنجليزية، تناول فيه بشكلٍ نقدي العواملَ التاريخية والسياسية والقانونية، التي أدت إلى انفصال جنوب السودان. ويعكس هذا العملُ التزامه الذي لم ينقطع بالبحث والدراسة، حتى في سنواته الأخيرة، وعزمه على تحليل أبرز التحديات التي واجهت السودان، ومعالجتها أو استقاء الدروس والعِبَر منها.
يتجلى إرث البروفيسور خليل كذلك في المؤسسات التي أسسها والأجيال التي أشرف على توجيهها. فمن خلال مكتبه القانوني “مكتب البروفيسور محمد إبراهيم خليل وشركائه: مكتب قانون الأعمال والاستثمار”، واصل تقديم خبراتِه القانونية بعد عودته لحين إلى السودان، مساهماً لعدة سنواتٍ في تطويرِ قطاعِ القانونِ والاستثمار، وترك بصمةً دائمة في هذا المجال.
لقد ألهمتْ نزاهتُه الثابتة وتفانيه في العمل والعدالة كلَ من عرفه أو تعامل معه. ولسوف تبقى إسهاماتُه الفكرية ومُثلُه الأخلاقية شعلةً مضيئةً ومصدرَ إلهامٍ للفكر القانوني والسياسي السوداني لأجيالٍ عديدةٍ قادمة.
سوف تبقى ذكرى البروفيسور خليل خالدة لإسهاماته الفكرية العظيمة في مجال القانون، ودوره البارز في ترسيخِ الحوكمةِ الديمقراطية، وإرشاده لأجيالٍ من الممارسين القانونيين والأكاديميين، وتواضعه، ودماثة خلقه، ونبله.
إن رحيله يمثل خاتمة حياة استثنائية حافلة بالعطاءِ، لكن أثرَه سيبقى حياً وخالداً من خلال إرثه الفكري، والمؤسسات التي بناها أو ساهم في إقامتها، والحيوات التي أثر فيها. ولأولئك الذين حظوا بشرفِ التعلمِ منه أو العملِ معه، فإن أعظم وأسمى تكريمٍ لإرثه يتمثلُ في الاقتداءِ بصفاتِه النبيلة والسَيرِ على خطاه.
لقد كان البروفيسور خليل مثالاً للعالمِ المبدع، والسياسي النزيه الملتزِم بالمبادئ، ورجلِ الدولةِ البصيرِ، ذي الرؤية الثاقبة. فلترقد روحُه الطاهرة في سلامٍ سرمدي.
* نصر الدين عبد الباري (ماجستير القوانين، جامعة هارفارد؛ دكتوراه القوانين، جامعة جورجتاون) زميلٌ رفيع ببرنامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي وبالمجموعة الدولية للقانون والسياسات العامة (PILPG). عمل سابقاً محاضراً في جامعة الخرطوم وشغل منصب وزير العدل في السودان. هذا المقالُ الرثائي هو ترجمةٌ للنسخة الإنجليزيّة الأصلية، التي سوف تُنشر لاحقاً.
الوسومالبروفيسور محمد إبراهيم خليل السودان جامعة الخرطوم كلية القانون ماريلاند نصر الدين عبد الباري نقابة المحامين السودانيين نيجيريا هارفارد وزير العدل