بقلم عمر العمر
أطراف الاقتتال الحمقى لا يدركون تصورا لنهايته مثلما لم يعرفوا شكلاً لبدايته أو يرسموا خطة لحسمه . لكن هذه الحرب الرعناء ستصل إلى خاتمة لامحالة. توقيت النهاية ليس مصدر القلق إنما كيفية الحال بعد سكوت المدافع هو مصدر الرهق. نهاية هذا الخراب لن تأتي في صيغة تسوية سلمية بل على هيئة صفقات.
*****
لكن قلق الشعب أكبر من مكاسبه. فبعد معاناة على نار الحرب،لم يستطع قادة الساسة والتنوير إنضاج مشروع وطني يبدد قلق الخوف من المستقبل.الجميع مثقلون بأكداس التشاكس غير قادرين على الإنفكاك من النظرات الضيقة والنجاة من الغرق في التشظي أو ركوب أمواج النجاح حتى عندما يحاولون تلبيس تلك الصراعات المقيتة المزمنة أزياء الفكر السياسي.فهذه الحرب الخرقاء لم تغسل عقولهم رغم انهمار الدماء والدموع.البيانات الصادرة لم يلسعها لهب الحرب أو تتغشاها معاناة النائحات والأيتام.كأنما كاتبوها مصابون بالعمى فلم يروا -ان لم يعانوا-صنوف القهر والارهاب وامتهان كرامة الأحياء والأموات.
*****
كم يا ترى ينبغي سقوط عدد الضايا وارتقاء عددالشهدء حتى يغير القادة الأماجد نهج تفكيرهم؟ كم عدد السنين ينبغي هدرها حتى يعلو الهم الوطني على الذاتي؟ ماهو حجم الثروة يجب نهبها حتى لا يصبح الوطن ملكية والدولة غنيمة؟ ماهي حجم المعاناة الجماعية حيث لابد من خوضها حتى تكتسب حتمية الدفاع عن الشعب واجبٌ يجُب المرافعة عن النظام؟ كم هي الأهوال المفزعة بعدمااصبحت أعمار الأطفال تقاس بعدد الصواريخ والدانات فوق رؤوسهم؟ كل هذا لا يزال يحدث وكل القادة صانعي السياسة والرأي العام يتمتعون بحصانة ضد التغيير الذاتي وينادون بالتغيير على مستوى السلطة والثروة.لهذا ترتفع أصوات الصفقات والمحاصصات نهايات سعيدة لحرب قذرة.
*****
هذا الوطن الفسيح،(هذي الأرض الممتدة كالتاريخ) ضاقت بأهلها فاضطرهم تعسف المتقاتلين على السلطة والثروة إلى الخروج على عجل إلى المنافي. مادام لا كرامة لشعب في وطنه فما للجأر بالشكوى هناك من مبرر. كذب هراء إدعاء البعض تحسين ظروف المكدسين على ارصفة المنافي .الوطن لم يعد فقط منفى بل أمسى برمته مقبرة مفتوحةتضج بالجثث .كذلك صار في أضل هيئاته سجنا بلا جدران.لولا مايفعله الصهاينة في غزة لصح القول السودان مسرح أكثر الفظاعات في حق شعب في القرن الراهن.هذه التراجيديا ليست سوى ذروة ثلاثين سنة من اكذوبة ازدواجية الاسلام السياسي المكتسي زيا عسكريا .اذا افترست الدولة عصبة عمياء بشهوة الثروة ثم استسلمت بدورها لنزوات طاغية أخذ الشعب بأسره رهينة.
*****
لا فرصة امام أطراف الحرب النتنة لتحقيق انتصار. فعندما تسكت المدافع سيكتشفون ان الحرب ضد الفقراء أكثر شراسة منها ضد الأثرياء.كما سيكتشف أصحاب الألسن الطويلة ان قدرهم ليس بأفضل من أصحاب السكاكين الطويلة. فديباجات امتداح القتل والقتلة لا تصنع ثقافة تهضمها الشعوب أو تكسبهم حبا اوجماهيرة.فصورة ذلك العجوز الباكي في ثياب رثة على ناصية شارع يتعرض للنهب أكثر رسوخا في ذاكرة الشعب من كل ظهورهم على الشاشات البلورية . فصورة ذلك المجهول تفيض روحا أعمق وطنية أكثر وقارا وعفوية. كيفما تضع الحرب أوزارها فلم يعد هناك موطئ قدم لمن لايزال يطمع في قيادة مزيفة على صدر شعب منزوع السيادة وسلطة صنع القرار.
*****
كل السودانيين المتخمون والمعدمون قاسوا ليلا كابوسيا طويلا.غالبيتهم استبدلوا الارض بالأسرّة ليال ليست قصيرةجميعهم كابدوا من أجل الحصول على كسرة الخبز أو قرص الدواء، طويلا أو من أجل الإثنين معا.كلالسودانيين تثبّتوا انه ليست وحدها ليالي العاشقين الطويلة .لكن حتى لا يطول ليل السودانيين أكثر فليت قادة السياسة والرأي العام يستبقون سكوت المدافع -كيفما جاء-برؤية موحدة نرسم مسار الخروج من هذا الجب الظلامي إلى غد ينهي مغامرات فرسان الترهيب ،التركيع،الاذلال، الإبادة والفوضى.
*****
فكأنما كل تلك العذابات الفردية والجماعية لم يلسع لهيبها أدمغة القادة وضمائرهم ،إذ يتشاكسون في لجلجة المحاججات وارتباك الخطاب على نحو يتوغل بهم في أتون التشظي.قناعتي من رؤى قطاع عريض من المعذبين في دوامة الأزمة تتجسد في خروج عجول لاتتطلب مسالكه جدلا مترحلا بين عواصم الجوار واتفاقات مصنّعة الديباجات.فأول هذه المسالك تجميع موزاييك مايسمى بالقوى السياسية تحت بضع مظلات .كل مظلة تعتصر ذهنها ، تجربتها وطموحاتها الوطنية في برنامج يرتاد الشعب بهديه آفاقا جديدةحديثة.كل المظلات تلتزم بسودان واحد موحد ينبذ عصبيات التجزئة المقيتة .جميعها تتبنى الديمقراطية طريقا للبناءوالابداع.كلها تؤمن بالعلم الرافعة المحورية للخروج بالشعب من الجب واختزال ليل السودان الطويل.ما تبقى عظام تغري بالتنازع ليس غير!
*****
aloomar@gmail.com
//////////////////////
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
دفاعًا عن كرة القدم: أي شيءٍ أكثر شعريّةً؟
في المسافة الفاصلة بين فندق كراون بلازا القرم وقلعة الميراني في مطرح، وبينما أقود سيارتي رفقة الأديب العالمي ألبرتو مانغويل وآخرين، يخالجني شعور بأنني أتوجّه بسيارتي المتهالكة إلى مسرحٍ تمتد خَشَبَتُهُ على سطح بحر عُمان الذي كان في تلك الليلة فقط، يَعِدُ بأنّ يتّسع لكل ما قرأتُه يومًا، وكانت مخيلتي جاهزةً لإنتاج ذلك كله بتحفيزٍ من حكايات "الرجل المكتبة". إلا أنني بادرت مُتهورًا بالتصريح لألبرتو بأن أساس علاقتي ببلدِه الأرجنتين هو كرة القدم، محاولًا استفزاز أرجنتينيَّتَهُ نحو حديثٍ عن شعرية كرة القدم، وعن فوز الأرجنتين بكأس العالم 2022، وعما فعله الأرجنتينيون إبان ذلك في الدوحة، واختتمتُ بتأكيدٍ على أن كرة القدم قادرة على صناعة نشوةٍ أصيلةٍ، إنسانيّةٍ، وحقيقيّة. فقال: "لليلة واحدةٍ فقط، ثم يعود كل أولئك إلى منازلهم، حيث لا طعام على الطاولة" وأردف مقتبسًا عن الشاعر الروماني جوفينال بسخرية يائسة: "أعطهم الخبز والسيرك، ولن يثوروا أبدًا"، ليؤكد بذلك على أن المتعة التي تحققها كرة القدم ليست في النهاية إلا إلهاءً، وستارًا يتخفى الساسة الفسدة وراءه، كما آمن من قبله معلّمه؛ خورخي لويس بورخيس.
أستعيد المشهد أثناء قراءة كتاب "الظاهرة مارادونا" بعدها بأسبوع، متسائلًا: إلى أي مدىً يمكن تحميل كرة القدم وحدها المسؤولية؟ هذا الكتاب الذي شارك في تأليفه عددٌ من الفلاسفة والمفكرين والصحفيين، وقَدّمَهُ فرناندو سينيوريني، وهو المدرّب البدني لمارادونا في سنوات مجده، يُختَتَمُ بمقابلة صحفيّة مع "علي بناكور" الحكم التونسي الذي خانته عيناهُ أمام هدف مارادونا غير الشرعي، الذي يُعرف اليوم في كل العالم باسم "يد الرب". الكتاب الصادر عن مكتبة مُبتدأ في مصر، مكون من 8 فصول في المجمل، سأتناول اثنين منها.
يثيرني هذا النوع من الكتب التي تتناول موضوعًا معينًا في سياقات لا يبدو -على السطح- أنها ترتبط بالموضوع، فما الذي يجعل فيلسوفًا سياسيًّا أمضى حياته ينبش في فلسفة "هايدغر" يهتم بمارادونا، وما هو الرابط الذي قد يدعو مختصًّا مثل سانتياغو زابالا - وهوأستاذ بالمعهد الكتالوني للبحوث والدراسات المتقدمة في جامعة "بومبيو فابرا" في برشلونة- لاستدعاء هايدغر لفهم "الفلسفة الكامنة وراء تمرد مارادونا"؟ يقول زابالا في الفصل الثاني من الكتاب: "لا يجمع بين هايدغر و مارادونا الكثير من القواسم المشتركة، باستثناء أنهما ارتكبا خطأً فادحًا"، وبينما اعتذر هايدغر عن خطأه الفادح –الانتماء للحزب النازي- بحجة أن من يفكر كثيرًا، يُخطئ كثيرًا، قال ماردونا: "يحلو لي الغرق في هذا البحر"، مشيرًا إلى حياته في الملعب وخارجه، في الشخصي والعام، بحلوها ومرّها وكثير فضائحها. ينطلق زابالا من اشتغالات هايدغر ومن تأثروا به لاحقًا في الهيرمونيطيقا والتأويل، لينتهي إلى تأكيد أن تمرّد مارادونا الاجتماعي والسياسي قد لا ينبع بالضرورة من حقيقة أنه أوجد نموذجًا جديدًا، بل ينبع من تأويل جديدٍ يتيح له رؤية الظلم الذي يرزح تحته الضعفاء. ولا ينظر زابالا إلى نضالات هايدغر ومارادونا بوصفها نضالات الأقوياء التي يُقدمّها التاريخ لنا مُنتصرةً وعقلانيّة، بل بوصفها نضالات المضطهدين والضعفاء الذين يبدو ماضيهم هشًّا ومن ثمّ كثيرًا ما ينسى. في نهاية هذا الفصل ربما نستطيع فهم تمرّد مارادونا بشكلٍ أفضل عبر اشتغال هايدغر على ربط التأويل بالوجود؛ فبحسب زابالا كان التقاطع الأهم بين الاسمين متعلقًّا بتوسيع البعد الوجودي لعملهما، حيث لم تعد كرة القدم "مجرد لعبة" بعد مارادونا، ولم يعد التأويل اختصاصًا لاهوتيًّا بعد هايدغر.
في الفصل الثالث، يطوف بنا براد إيفانز -أستاذ الجماليات والعنف السياسي في جامعة "باث" بإنجلترا- وهو الفيلسوف السياسي والناقد النظري المختص في دراسة العنف، حول لحظات مختلفة من حياة دييغو مارادونا، بأسلوب يُفصح عن الحمولات الشعرية للعبة، عابرًا بوعي القارئ العاشق للكرة حول مفاهيم وقضايا مختلفة تتعلق بالعالم في ظل لهاثه التقني الاقتصاديّ، وأخرى تتعلق بالاجتماع والسياسة، مرورًا بتاريخ الأرجنتين السياسي المظلم، ومفاهيم حول الجمال والشغف والحياة. المحور الرئيس في هذا الفصل المعنون بـ "لحظة اللحظات" هي تلك اللحظة التي طار فيها مارادونا ليضرب الكرة برأسه أو بيده -لن نعرف أبدًا ما كان ينوي قبل القفز- إلا أنه ضربها بيده وأدخلها في شباك الإنجليز، مسجّلًا أشهر هدف في تاريخ كرة القدم. يتفرع إيفانز من هذه اللحظة تحديدًا عبر شبكة شديدة التعقيد إلى نواحٍ عدّة تتعلق باللعبة والحياة والعالم. فبهدفٍ غير شرعيّ في عام 1986 تحققت -مرةً أخرى- رؤية هايدغر فيما يتعلق بالتكنولوجيا؛ حيث يرى إيفانز أن دخول التقنية على اللعبة لا يهدف إلى مزيدٍ من الشفافية، بل في الواقع إلى تجريدها من أهمّ ما يُميّزها؛ وهو الإنسان. وبذاتِ الهدف/اللحظة تمكن الأرجنتينيون من الانتصار في حربٍ كانوا قد هُزِموا فيها قبل أعوام أربعة، وانطلاقا من ذاتِ اللقطة/اللحظة، يتناول إيفانز فكرة الفوتوغراف (أو الصورة) وما يُمكن لها أن تعطي، والأهم، أن تأخذ. وفي نهاية الفصل الثالث يتحقق القارئ من ادعاء سانتياغو زابالا في الفصل الثاني حول أخذِ مارادونا البعدَ الوجودي لكرة القدم إلى "ما وراء الملعب"، وقد يتساءل، هل أخذ المستطيل الأخضر الوجودَ أجمع -بطريقة أو أخرى- إلى "ما وراءٍ" آخر؟ كأن يكون "مارادونا هو الاستثناء، وكرة القدم هي القاعدة"؟
بالنسبة لي، يمثل الانتهاء من قراءة كتابٍ كهذا، لحظة من لحظات القراءة المُثلى، فقد وجدت نفسي في حضرة نصٍّ واحدٍ يجمع اهتماماتي كلّها ويصبّها في نسيج معقّد شديد الوضوح يمكنني رؤيته بعقلي وقلبي في آن. لحظاتٍ كهذه هي ما أصبحت قارئًا من أجلها. وبالمثل فيما يتعلق بالشغف باللعبة، يدفعك هذا الكتاب نحو التساؤل عما إذا كان ممكنًا لأي "لهوٍ" آخر أن يكون أكثر شعريّة من كرة القدم. وإن استخدم الساسة الفسدة كرة القدم لإلهاء الشعوب، فذلك لأنها تقدّم بالفعل مردودًا عاطفيًّا أصيلًا، يمكن استثماره في فهم العالم والوجود، ويمكن بالتالي استثمارهُ في الخداع. ثُمّ وبكل الممكن من اللاعقلانية أعود لأتساءل: ما الذي لن يستغله الساسة أصلًا؟