الجبل والكهف: هل السودان قابل للقسمة؟ (1/2)
تاريخ النشر: 4th, March 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
بوقوع انفصال جنوب السودان الذي صار دولة جنوب السودان في 2011 لم يعد يحر جواباً من سئل إن كان السودان قابلاً للقسمة. وهو سؤال خيم على الفكر السوداني منذ ميلاده في خضم حروب أهلية لا تكاد تنتهي لتبدأ.
وبدا أننا ربما أنفقنا في الإجابة شفقة كثيرة، وحدساً مجازفاً، ومقارنات غير مدروسة أكثر مما أنفقنا في النفاذ إليه بفكر نقدي غير رحيم.
فصح، إذا كانت الأمة، في قول المؤرخ الفرنسي أرنست رينان، هي إرادة العيش معاً، أن نخضع فكر حركات الهامش وممارستها لمعيار امتثالها لهذه الإرادة. وسنجد أنه اعتور إرادة هذه الحركات في إرادة الأمة عارضان أبطلا كثيراً من فاعليتها. أما العارض الأول فهو قيامها من فوق سياسات الهوية العرقية أو المناطقية. فالقضايا التي دفعت بها مناطقية، دارفور مثلاً، أو عرقية، عرب وزرقة (أفارقة)، أو قبائلية في مثل نزاعات الحواكير (ملكية الأرض). وجعل هذا من المركز خصماً عرقياً قبائلياً بأكثر مما هو سياسي. وتصبح الزهادة فيه واعتزاله خياراً مفتوحاً.
وأما العارض الأخير فهو حملها السلاح لتحصل على مطلبها بفوهة البندقية في مواجهة نظم ديكتاتورية عسكرية حكمت مركز الخرطوم لأكثر من 50 عاماً في عهده المستقل منذ 1956. ولم تكن المواثيق التي مهرها الهامش مع المركز بالنتيجة عهوداً استراتيجية طويلة المدى في بناء الأمة، بل أشبه بالصفقات اشتهرت بنقضها أكثر من حملها إلى غاياتها.
بجعل الهوية الإثنية والمناطقية دون هوية الوطن الجامعة مبلغ همها وقعت حركات الهامش فيما يمكن أن نطلق عليه، جرياً وراء الفيلسوف الأميركي مارك ليلا، بالتراجع عن الجبل، الوطن، إلى الكهوف، أي الهويات الأصاغر فيه.
مفهوم الجبل والكهف ربما استفاده "ليلا" من الفيلسوف الأميركي الآخر ريتشارد روتري في نقده لنظرية العرق النقدية. وهي النظرية التي تقول إن العرقية ليست نتاج حزازة شخصية للفرد في جماعة ما ضد جماعة أخرى فحسب، بل هي ضغينة متوطنة في النظام القانوني والشوكة السياسية والثقافية. ودخلت الجماعات المغلوبة على أمرها للسياسة من باب الهوية. وعلى توفيق الناشطين بهذه السياسة في رفع ظلم كثير عن هذه الجماعات، إلا أنها، في قول روتري، تحللت من فكرة الأمة نفسها من فرط تركيزها على هوية الجماعات الأقلية فيها والتظلم من نير الجماعة الغالبية أو المتسلطة.
وعلى رغم نفع النظرية لهذه الجماعات المغلوبة، مما جرى وصفه بـ"الآخر" أي آخر الجماعات الغالبة، فإنها في قوله كرست لهذا الآخر على حساب التاريخ المشترك والرغبة في العيش معاً التي من وراء أي أمة.
وهي نفس شكوى الفيلسوف ليلا في نعيه الليبرالية الأميركية. فقال إنه لا دونالد ترمب ولا شيعته مما يسوؤه فيسهد به. فما يحز في نفسه حقاً أن النظرية العرقية النقدية وغيرها منعت الليبراليين من تنشئة رؤية طموحة لأميركا ومستقبلها تلهم سائر المواطنين. فما عجز الليبراليون عن الإتيان به، في قوله، هو صورة لما سيكون عليه عيشنا المشترك.
ولأنهم تنكبوا طريق هذه الرؤية الجامعة هرعوا إلى سياسات الهوية، وقد "غاب عنهم الحس عما يواثق بينا كمواطنين وما يربطنا حزمة كأمة". وباءت بالفشل المساعي لأخذ الناس المختلفين عنك للتضامن معك حول جهد مشترك لغاية.
وقال ليلا، إنه قد تتعدد أسباب إخفاق الليبرالية، إلا أن فشلها في حفز الرغبة للعيش المشترك في سائر الناس في الأمة هو أم الأسباب. وعليه خسر الليبراليون رهان الأمة لأنهم "تراجعوا إلى كهوف كانوا حفروها لأنفسهم فيما كان جبلاً عظيماً"، أي في أمة كبيرة.
وكانت آراء روتري وليلا هي مأخذ النقد الليبرالي لنظرية العرق النقدية الذي غلب في نقده الفكر المحافظ في أيامنا هذه. وسطع حاكم فلوريدا رون دي سانتوس في سمائه حتى بث عيونه في مكتبات المدارس للتبليغ عن كل كتاب ينهج نهج العرقية النقدية ليصادره. وحجته أن مثل هذه الكتب، بحملها على العرقية البيضاء وتاريخها في الرق والتفرقة العنصرية، تزج بالأطفال البيض في هوان الذات بدلاً من أخذهم برفق إلى مدارج العيش لمشترك في الأمة.
ومن أوضح مظاهر "الاستكهاف" عن الأمة في أميركا ما ذاع باسم "الفرز العرقي والسياسي" في كتاب لبل بيشوب. والفكرة من ورائه أن استقطاب المحافظين والليبراليين تفاقم للحد الذي لم يعد واحدهم يعيش بجوار الآخر. فصار الواحد منهم يرتحل إلى موضع جيرته فيه من شاكلته في المزاج السياسي والثقافي. وهذا هو الفرار الكبير من الجبل للكهف.
وسنأخذ فيما تبقى من حديث اتفاق سلام جوبا الموقع في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بين غالب حركات دارفور المسلحة والحكومة السودانية كشاهد عيان على استعصامه، بتركيزه على الهوية المناطقية، بالكهف دون الجبل.
بروف مارك ليلا بحامعة كولمبيا نيو يورك.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الجبل السحري.. توماس مان وتتبع تاريخ الجنون قبل ميشيل فوكو
قبل أن يحل عام 1971، الذي انطلقت فيه فعاليات "المؤتمر الاقتصادي العالمي"، كانت مدينة دافوس السويسرية مصحة للمصابين بمرض السل، الذي كان قد انتشر في أوروبا منذ أوائل القرن الماضي.
وقبل أن ينتظم هناك نحو 500 مشارك من كبار السياسيين والاقتصاديين في العالم، سعيا إلى تبادل الآراء، والوعود، والعقود الآجلة، كان توماس مان الروائي الألماني الحائز جائزة نوبل قد استخدم دافوس مسرحا لأحداث رواية كلاسيكية، تتجاوز صفحاتها الألف في طبعتها العربية، والتي تتناول فيها موضوعا يدور حول ذلك المرض الفتاك، الذي كان قد أصاب ألمانيا، في مطلع القرن العشرين، ووضع السكان تحت سلطة المرض والموت.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بالغونكور الفرنسيةlist 2 of 2الاستلزام الحواري.. أحد أبرز معالم النظرية التداوليةend of listكتب توماس مان هذه الرواية، بعد أن قام طبيب مستشفى الأمراض الصدرية في دافوس بفحصه، ليكتشف أن قد باتتا في حال سيئة، وأنهما تتطلبان العلاج والإقامة الطويلة، غير أنه فضل الرجوع إلى مسقط رأسه، والتفرغ تماما، هناك لكتابة روايته "الجبل السحري"، التي تخيل بطلها هانس كاستورب خاضعا لنفس الفحوص الطبية، قبل أن يقبل فيما بعد بإقامة طويلة في المستشفى، تواصلت علي مدى 7 سنوات.
وكانت تلك هي الرواية التي اعتبرها الناقد الأدبي الشهير مارسيل رايش "قمة لم يصل إليها أحد من قبل في تاريخ الأدب والفكر والثقافة بألمانيا". وهو الرأي نفسه الذي خلص إليه كثيرون في العالم، معتبرين أن توماس مان نجح فعلا في أن يجعل هذه الحقيقة تنتشر في العالم قبل أن تعود إلى بلده مجددا.
"توماس مان" الكاتب الألماني الحائز جائزة نوبل (شترستوك) عوارض عبقريةتأثر توماس مان بشوبنهاور ونيتشه، لدرجة أنهما كان لهما دور كبير في تكوينه الفكري والثقافي. وتبنيه لفلسفة متشائمة، ترى أن الحياة رهيبة وأن العالم سيئ، وتتغنى بالموت وبسحر العدم. حتى في الوقت الذي بات فيه توماس مان يميل إلى الموسيقى، نتيجة لتأثره وإعجابه بالموسيقار الكبير فاغنر، وهو الأمر الذي كان سببا في جعل معظم رواياته تعنى بالموسيقى والموسيقيين.
وقد دفعه ذلك إلي جعل معظم أبطاله، من بين الذين يفكرون بعمق، ويطيلون التفكير في شتى المشاكل التي تُطرح أمامهم، حتي أن كل روايات مان تميزت بالحوارات الطويلة والعميقة، التي ظلت تدور بين الأبطال، وتمس أعمق المشاكل الإنسانية والفكرية، للدرجة التي بات توماس مان معها يعد من ألمع ورثة الرومانسية الألمانية التي آثرت وصف الوجود الإنساني منغمسا في معاناة الألم والشقاء والموت، وقد تجلت فيها عوارض العبقرية المبدعة.
فهناك ثمة نظرية في الإبداع العبقري استمدها مان من تأمله في سيرة نيتشه الذاتية المبنية على اغتراف الإبداع من صميم الإنهاك الجسدي والتحلل النفسي، الذي عني في النهاية أن المصير المأساوي الذي نزل بالأدباء الرومانسيين الألمان كان يرمز، في وعي الأديب، إلى التحول الخطر الذي أصاب وطنه ألمانيا، وقد انتابته محنة اضطهاد المفكرين والفنانين وإرهاقهم بحتمية التاريخ، لذلك كان توماس مان كان يعتقد حتى آخر رمق من حياته أن ألمانيا مصابة بلعنة دهرية، جعلت عظماءها يعانون الغربة والقلق الوجودي وانفصام الوعي، بيد أن اللعنة أنتجت لألمانيا تفوقها الموسيقي والشعري، وأيضا في كارثتها المتمثلة في النازية.
وقد أعلن توماس مان، دون تردد، أنه أقرب إلى فكر نيتشه وأسلوبه، ذلك بأن فكرة العظمة التي كان يتيه فيها نيتشه، والتي تجلت في الكيان، وفي الوجود وفي الحياة، وفي الفكر والأسلوب والتعبير، قد باتت تستهويه، حتى أنها أثرت في ولاءاته القومية، لدرجة أنه كان يتصور، أن همه الأول هو أن يحرر نيتشه من الاستغلال النازي. وهو الأمر الذي دفعه إلى إعلان ذلك بوضوح في كتابه بتأكيده أن نيتشه "ليس من صنع الفاشية، بل الفاشية هي التي صنعت نيتشه".
توماس مان أعلن، دون تردد، أنه أقرب إلى فكر نيتشه وأسلوبه (مواقع التواصل) الجنون مجسداقبل أن يتجه ميشيل فوكو، باعتباره واحدا من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، نحو دراسة وتحليل تاريخ الجنون، في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، ويقوم خلال ذلك بتتبع هذا التاريخ في العصر الكلاسيكي، ثم يخلص إلى نتيجة، مفادها أن الحجز والاستشفاء، منفصلان عن عالم الطب، وأنه لا تواصل حقيقيا في الطب بين النظرية والعلاج الذي كان يعطى للحمقى على يد الحراس لا على يد الأطباء. منطلقا في شكل نظام صارم لتتبع هذا الأمر يوميا.
كان توماس مان قد جسد جنون العالم الحديث في عمله الروائي الضخم "الجبل السحري"، قبل أن يفعل ميشيل فوكو ذلك. وهو العمل الأدبي الذي قام بول ريكور بدراسته في أحد أجزاء أطروحته الثلاثية "الزمان والسرد" ضمن 4 روايات مهمة، نظرا لما فيها من حيز سحري خاص بين الواقع والزمان، تعامل من خلاله الكاتب مع العالم المجنون بشكل مبتكر من خلال مصحة بيرغهوف المخصصة لمرضى السل القاتل، ليقوم بدمج الأبعاد الثلاثة "المرض والثقافة والموت" في التجربة الفريدة التي خاضها الشاب هانس كاستورب بطل الرواية بعد مروره بالمصحة، ليجد نفسه في الوقت ذاته، وبين ليلة وضحاها، واحدا من نزلائه، حتي أنه عاش فيه بعد ذلك 7 سنوات مأساوية، كان مصيره خلالها معلقا بين الحياة والموت، تلك السنوات التي لاقى فيها كثيرا من الأهوال اللاإنسانية. وقد أفقده القلق المتواصل على حياته الشعور بقوته، كما حولته مراقبته المتواصلة لدرجة حرارة جسده إلى شخص شاحب، بات طريحا للفراش.
تشخيص وعلاجومن قبل أن يتم منحه درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة من جامعة بون عام 1919، ثم حصوله من بعد ذلك عام 1929 على جائزة نوبل للآداب، والتي أعقبها عام 1935 منحه مع ألبرت آينشتاين درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة هارفارد. كان مان قد اعتاد التصريح -حتى وهو في أوج شهرته- بأنه لو لم يكن قد امتهن الكتابة الروائية، فإنه كان سيختار السير على طريق الجراحة الطبية.
بيد أن الطب في رواية "الجبل السحري" لم يكن من ذلك النوع الذي يفضي إلى الشفاء، بل يقوم بالتشخيص والعلاج ثم ترقب النتائج، ويؤكد توماس مان عبر ذلك أنه ما من أحد خرج حيا من المكان الذي أمضى فيه بطل الرواية 7 سنوات مراقبا لتلاشي جسده المصاب بالسل، والذي لم يكن له من شفاء في الحياة، ولا في الرواية، مهما تألقت عبارات وصفه، لأن المرض هو مصنع التسمم الخلاق. أما الحياة كلها، فهي مثلما اعتبرتها الرواية، مجرد مصحة للعلاج، لا مكان للشفاء.
توماس مان نشر رواية "الجبل السحري" عام 1924، بعد عمل متواصل استمر 12 سنة (شترستوك)وهنا تؤكد الرواية، أنه ليس هناك فارق بين المصحة وسكانها المجانين، وبين المدينة وسكانها العقلاء، سوى أن الأولى على قمة الجبل، والأخرى في أسفله، وإن الرواية في نهايتها سوف تكشف عن الذكاء الكبير في هذا التوظيف المكاني للجبل، لأن التوافق سوف يكون عجيبا بين الزمان والمكان، من خلال الانفجار، الذي ضرب أسفل الجبل، فانهار أعلاه.
وهو ما يشير إلى أن قارئ رواية "الجبل السحري" سوف يدرك أنه يحتاج إلى جهد خارق، لمواكبتها من البداية إلى النهاية، سواء من جهة الموضوع أو الأبطال أو أسلوب الكتاب، وأنه سيكون عليه أن يكون بطيئا في القراءة، بنفس درجة بطء الكتابة ذاتها.
فقد نشر توماس مان هذه الرواية عام 1924، بعد عمل متواصل استمر 12 سنة. وتصوّر للمرضى في مصحة للعلاج، خلال وجودهم الذي استطاع فيه تجسيد اتجاهات المجتمع الأوروبي المتناقضة، قبل الحرب العالمية الأولى. وفي الوقت الذي تعيدنا فيه هذه الرواية إلى زمن الكلاسيكيات، قبل أن يتجه هذا الجنس الأدبي نحو فضاءات مختلفة ومواضيع مشتتة فكرية وشعرية وتجريبية، فمئات الصفحات القائمة على السرد والوصف تبيِّن أن كاتبها كان صبورا ويعيش في عزلة.
قراءة رمزيةكان الفيلسوف الهنغاري جورج لوكاتش (1885-1971)، وهو من أكثر من كان لديهم معرفة بشخصية توماس مان وفكره، يردد أن ألمانيا لن تشفى من أسقامها إلا حين يقرأ الشاعر الألماني هيلدرلين أعمال ماركس. فإذا بتوماس مان يجيبه بأنها تستطيع أن تبرأ من أمراضها حين يكب ماركس على قراءة قصائد هيلدرلين. ومن الواضح أن هذه القراءة رمزية، إذ إنها تتجاوز التفاوت التاريخي الذي يفصل الأزمنة بعضها عن بعض.
أما لوكاتش فيعقد مقارنة مفيدة في كتابه "الواقعية النقدية في دلالتها الراهنة" بين تفاؤلية توماس مان وسوداوية فرانز كافكا. ويحلل لوكاتش شخصية بطل "الجبل السحري" هانس كاستروب، ويعاين فيه تجسيد تصورات الكاتب الفلسفية، التي تجلت في مناصرة الليبرالية التي تستنكف من التوحش الرأسمالي ومن الثورات اليسارية الراديكالية العنفية. ومن ثم، يستجلي لوكاتش في موقف توماس مان بعضا من المثالية البريئة التي استطاعت، مع ذلك، أن تفضح مساوئ الثقافة المضطربة المأزومة. خلافا لتشاؤمية كافكا وإحباطاته، فتوماس مان يتصدى للدفاع عن فكر إنساني مستنير، يسعي لخلاص الإنسان في جميع الأبعاد التي يتشكل منها وعيه.
وقد أخذ مان يتقرب من الحركة العمالية الاجتماعية الاشتراكية، ويستحثها على مقاومة الانحراف النازي، بيد أن الأوساط الاشتراكية لم تفهم معنى هذا الانقلاب، فراحت تعيب عليه تحوله المفاجئ وتنتقد سرعة التغيير في مواقفه الأساسية، على غرار الهجاء الذي وجهه له برتولت بريخت، مع أن هذا الأخير كان يعشق "الجبل السحري"، على الرغم من نفوره الحاد من شخصية توماس مان. التي وصل الأمر معها إلى درجة القطيعة، وكانت خلفية ذلك تشير إلى أن برشت لم يكن يرضى بالتشبيه بين ألمانيا والنازية، وكان يجد العذر من خلاله للجنود الألمان الذين اضطروا إلى خوض الحروب خوفا من الإعدام العسكري، في حين أن توماس مان "كان يعتقد أن ألمانيا لن تستعيد دعوتها الحضارية، إلا إذا أفنى الحلفاء آلافا من الجنود الألمان المؤدلجين".
لذلك كان من مفارقات آرائه السياسية أنه في أثناء الحرب العالمية الأولى ناصر ألمانيا في صراعها المرير ومحنتها المصيرية، وأفصح عن تصوره في بحث وجيز عنوانه "استبصارات رجل لا سياسي"، ولكنه ما لبث أن ناهض النازية مناهضة شرسة أفضت به إلى المنفى من بعد أن عمد الحزب النازي إلى حرق كتبه في الساحات العامة وتجريده من جنسيته الألمانية.
عندما أرق توماس مان سؤال الزمن، وحيرته أسرار البدايات المبهمة، راح يعلن أن الأصول نسبية في كل شيء، وأنه ما أن نعاين هضبة أو ربوة حتى نظن أنها القمة الأصلية المنشودة. لكننا نكتشف فيما بعد أن هناك أفقا ممتدا في اللانهاية يحتجب وراءها، ومن ثم فانه يستحيل على الإنسان أن يقنع بجواب شافٍ يكشف له أصل الأصول، بسبب تكاثر الربوات المحتجبة وراء بعضها بعضا. عندئذ، لا غرابة، من أن تنشأ بين أهل "الجبل السحري" روابط الأخوية المصيرية التي تنعقد على رموز كلامية وشعائر مسلكية وطقوس حياتية.
مستشفى طوارئ عسكري في ولاية كنساس الأميركية في أثناء انتشار وباء الإنفلونزا الإسبانية (مواقع التواصل)فالطاولات السبع الموضوعة أمام المرضى تجعلهم يجلسون في حلقات منتظمة، ويتبادلون بينهم الكلمات الرمزية التي تشير من بعيد إلى أوضاعهم الصحية. من الواضح أن السردية الوصفية المقترنة بالأوضاع المرضية الطبية كانت تطبع أعمال توماس مان، وما "الجبل السحري" سوى النموذج المثالي الذي يكشف لنا هيمنة التصور الطبي العلاجي على مخيلة الكاتب، ذلك بأن تشخيص الطبيب يشبه في وجوه شتى معاينات الروائي التحليلية، إذ إنهما يغوصان في أعماق بنية الكائن الإنساني الجسدية والنفسية.
انطباعات أن المقاطع التي اشتهرت من "الجبل السحري" حول جو المصحة الاستشفائي فيه، ومدى الصدق في تصويرها والتعبير عنها، لم يكن من باب المصادفة ولا الخيال، بل كانت نموذجها الواقعي، عندما كتب هو عن مصحة في دافوس بسويسرا، أمضت فيها زوجته كاتيا بعض الوقت، بسبب إصابة مرضية خفيفة في رئتيها آنذاك. لقد اكتسب توماس مان هناك انطباعات عن الجو والبيئة، انعكست من بعد إلى أقصى درجات التفصيل والدقة في كتابه. ومن بينها تلك التي يشير فيها إلي أن قوانا العقلية مباشرة أو حاجاتنا الغريزية من أجل إعطاء أحكام أخلاقية، والتي يري فيها أنه قد خُطط لها أن تخاطب ذكاءنا وتحسسنا بالتناقض الإنساني الظاهري. فبدون هذه المزايا من المحتمل ألا نسيء قراءة أعمال مان فحسب، بل القسم الأكبر من الأدب المعاصر الصادق.
هنا تنتهي الرواية الضخمة التي نشرت عام 1924 بالتزامن مع ما كان العالم يشهده من ظهور وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، الذي أودى بحياة أكثر من 4 ملايين أوروبي، وكان يصيب في المقام الأول الشباب الأصحاء، وكان تفاقمه يؤدي إلى الإصابة بالالتهاب الرئوي، ليكون هذا المرض الكارثة الطبية الأقوى في تاريخ البشرية.
ما أرادت الرواية تأكيده هو أن المرض ليس وحده الذي يفتك بالبشر، بل سوء التفكير في المرض وتردي التعامل المعيشي، هذا فضلا عن أهمية الثقافة، التي لها علاقة عكسية بالمرض، فكلما ارتفع معدل الثقافة قلت مخاطر انتشار المرض. والرواية خير أداة في الحض على التفكير، وعلى غرس التثقيف، وتعميق الوعي الميتافيزيقي بالوجود، وبما بعد الوجود أيضا.