يدهشنى هذا التكلس والعقم الذى ترزح فيه كل القوى السياسية يميناً ويساراً ووسطاً. فالكل متزمت متمترس سجين للماضي البعيد والقريب… الكل يدور ويدور ويدور لينتهي إلى ذات النقطة التى بدأ منها… ليعود مرة أخرى ليدور ويدور حتى ملّ الدوران من دورانه.
والله إنى لأعجب..كيف لم تهز هذه الحرب الكارثية طريقة تفكيرنا ونمط حياتنا.
هل توقف أي تنظيم سياسي ليطرح أسباب هذه الكارثة على عضويته لإعمال العقل والفكر ثم الخروج برؤية جديدة للتعايش في بلادنا..؟
من نافلة القول أن الأفكار والأطروحات القديمة التى تحملها القوى السياسية يساراً ويميناً ووسطاً هى التى أفضت بنا إلى ما نحن فيه من مهلكة وذلة وهوان.
يخطيء من يظن أن الكارثة بدأت في ١٥ أبريل! ماذا فعلنا لقرابة ال٧٠ عاماً الماضية لنتجنب ما حدث! أيدولوجيات تالفة وصراعات عقيمة و (ركوب رأس) جهلول و حرص على إقصاء الآخرين وحرمان المخالفين من حقوقهم الأساسية والزج بهم في السجون دون ذنب حتى صار تمضية سنين العمر في سجن كوبر أكثر ما يفتخر به الساسة… وهو في حقيقته شهادة بعارنا الوطنى وأننا لا نتحمل بعضنا البعض وإن أطنبنا ترديد المستهلك من القول أننا ديمقراطيون !
أنظر فقط إلى أسماء مئات الأحزاب التى تمور بها الساحة وستجد أن كلها تدعي الديمقراطية…تدعي ذلك أحزاب اليسار وتدعيه قوى اليمين وقوى الوسط فالكل ديمقراطي رغم أن الديمقراطية أندر سلعة فى بلادنا… بل معدومة تماماً…! لكن أحزابنا على كل حال تدعيها..(واللى ما يشتري يتفرج)!
الكل يتربص بالآخر لتسوية حسابات تاريخية وكلما تمت تسوية حساب قديم فتح حساب جديد..! إلى متى نعيش في تسوية الحسابات وتسديد الضربات تحت الحزام!
لماذا ننافق بعضنا البعض! تتحدث الأحزاب عن الديمقراطية وهى كاذبة…!
فمثلاً جماعة قحط حالياً – بعد (النيولوك)- (تقدم) مضت إلى ما لايمكن أن يتصوره مواطن سوي للتحالف مع مليشيا مجرمة تدمر الدولة والمجتمع حد السواء. كل ذلك من اجل تسديد حسابات ( carried over) مع الجيش ومع من تسميهم الفلول! و بالطبع من سخف القول ومن السذاجة المفرطة أن تتوقع (تقدم) أن قادة الجيش وضباطه ومن تسميهم (الفلول) سيسلمون أعناقهم لها لتنصب لهم المشانق في الساحات! هذا إمعان مفرط في السذاجة.
فالكل يعلم أن تقدم تسعى للعودة للحكم – دون وجه حق- على حصان المليشيا الأعرج الذى تعلفه القوى الأجنبية. ترى لماذا يطلبون ما ليس لهم، حتى إن دمرت البلاد وتشرد سكانها في فجاج الأرض!
إلا أن الأنكى من ذلك زعمهم بأنهم ديمقراطيون يسعون لإقامة الديمقراطية في بلاد دمرها شططهم وشبقهم للسلطة وما هم ببالغوها حتى يلج الجمل في سم الخياط! لقد أدخلوا أنفسهم في تحد مع الشعب السوداني وسيخسرونه. لن تنفعهم تقارير أمريكا ووساطاتها ولا الإمارات وأموالها وعتادها وحصانهم الأعرج يترنح ولن يكمل السباق!
غير أن كل المشهد يدهش لدرجة ينعقد لها لسان المرء..! فالكل يدور في ذات الأفكار القديمة التى ذرتها رياح التغيرات العالمية وطوتها حقب التاريخ… ولكنها عندنا خالدة وباقية كنهر النيل لا نتزحزح عنها قيد أنملة وإن تزحزح جبل توتيل! (يموت الزمار وأصابعه بتلعب) كما يقولون!
إن لم تخرجنا هذه الحرب – وما ارتكبته المليشيا من جرائم يندى لها الجبين في حق المواطنين والبلاد – فلن نخرج قط مما نحن فيه وستذهب ريحنا وستتكالب علينا الأمم تلتهمنا يساراً ويميناً ووسطاً. تلك هي حتميات التاريخ… ويجب ألا يستخف شخص بهذا القول وهذه الحتمية.. فتاريخ البشرية كله محصلة لالتهام القوي للضعيف؛ ونحن اليوم – شعب ودولة – في أضعف حالاتنا. شفاه كثيرة من حولنا تتلمظ في انتظار سقوط الثور .. وإذا سقط الثور كثرت السكاكين!
إن المخرج الوحيد لبلادنا هو تجميع الأفكار والممارسات القديمة كلها وتوضيبها وحرقها وذر رمادها في نهر النيل، فقد جربناها جميعها وانتهت بنا إلى ما نحن فيه.
لا حل – إذن- سوي البحث عن فكرة جديدة تماماً، فكرة توحدنا تجمع شعثنا، تقرب صفوفنا توحد إرادتنا تذكرنا أن الطريق الذي سلكناه أوشك أن يضيع بلادنا وقد أضاع أجيالاً مسبقاً في صراع أغلب أسبابه مفتعلة حتى نسينا أننا مواطنون يجمعنا وطن واحد أولى مهامنا الحفاظ عليه كما ورثناه، وأن حق الأجيال القادمة علينا يقتضي أن نترك لها وطناً تبنيه وتعيش فيه إن فشلنا في بنائه فلا يجب علينا التفريط في جغرافيته.
ما يدهشنى أن الحرب تدور بشراسة والوطن يتآكل ومازال البعض يتحدث عن الاشتراكية (الله يطراها بالخير) أما الآخر فيترنم جزلاً بشرع الله، أما شتات السواد الأعظم فلا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب.
قال تعالى : “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ” الشوري
وقال تعالي:
” إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ”! الرعد
وقال دريد بن الصمة:
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد..
هذه الارض لنا
علي عسكوري
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: إلى ما
إقرأ أيضاً:
الرئيس اللاجىء
بقلم: دانيال حنفي
القاهرة (زمان التركية)ــ كيف يتحول الرئيس فى بلد ما إلى لإجراء سياسى فى بلد آخر؟ ربما هربا من الاضطهاد، أو خوفا من التعرض للتعذيب، أو تحسبا للملاحقة السياسية من الخصوم؟ من الغريب أن تتوافر تلك الأسباب مجتمعة أو منفردة، حيث أن طالب اللجوء هو الرجل صاحب السلطة وصاحب أعلى سلطة فى بلده أصلا، وهو القائم على التعذيب وعلى اضطهاد الناس وعلى سلب أموالهم أيضا!.
إنما أريد باللجوء السياسى للرئيس المخلوع توظيفه أفضل من غيره من الأوضاع المتاحة أمام رئيس مخلوع وهارب. وأفضل ما قد يقدم اللجوء السياسى من مزية هو ربما التمتع بحماية القانون ضد المطالبة الوطنية بتسليمه الى سلطات بلده ليواجه التحقيقات والحسابات الوطنية. وبعد ذلك، يبقى اللجوء السياسى لرئيس مخلوع هارب بثروات كبيرة من الأموال السائلة والعقارات -وغير ذلك من صور الثروات- مكسبا للبلد المضيف الذى سينتفع بالثروات التى هبطت عليه من السماء.
بهذا الكم المحترم من المال المتدفق الحاضر فى شرايين اقتصاد حرب طويلة منهكة قد تتاح فرص عمل جديدة لأيد عاملة وطنية ، وقد يتيسر بناء المزيد من المصانع الصغيرة قى طول البلاد وعرضها الرانى الى المزيد من الاستثمارات المباشرة ، ولا سيما اذا كانت استثمارات قد لا تستطيع الخروج وقد لا تجد لها مهربا جديدا . بل ، من المتوقع أن تتجه تلك الثروات الهاربة مع الرئيس المخلوع الى التوطين بالحصول على الجنسية والاستقرار وبناء حباة جديدة فى بلد متقدم ومترام الأطراف ولا ينقص المقيمين فيه شىء من رفاهية أو من أساسيات الحياة الحديثة بصفة عامة . لقد جاءت اذا خطوة اللجوء السياسى محسوبة دقيقة -من جانبى التعامل- ولم تقع محض تفكير لحظى أو فى لحظة اضطراب وعجلة.
بل تم ترتيب كل شىء للحظة الرحيل التى سبقها مغادرة العائلة الى بلد اللجوء السياسى لتبقى فى أمان ريثما يلحق بها كبيرها الهارب من شعبه ومن الحقيقة ومن مسؤولياته – تجاه بلده وشعبه – التى ألقى بها الى الشارع . وبذلك ينضم الرئيس المخلوع الهارب الى قائمة الهاربين – من الجواسيس ومجرمى الحروب وغيرهم – لينعم بحياة سعيدة هو وأسرته ولو لفترة وجيزة . فربما تغيرت الأيام وجاءت – من جانب الهارب ذاته أو من جانب آخر من الجوانب – بما يجعل من الهارب ضيفا ثقيلا يتعين عليه الرحيل الى بلد آخر أو يلزم تسليمه إلى بلده الأم التى سلب أموالها وهرب بها تاركا خزائن الدولة خاوية على على عروشها . وهكذا ، كسبت روسيا فى كل مراحل التعامل من البداية الى هذه اللحظة .
أما ما قد يبدو من الخروج العسكرى من القاعدتين العسكريتين الروسيتين فله من الظروف ما يبرره بالتأكيد فى إطار الأحوال الجديدة، وهو الأمر الذى ستجليه الأيام بوضوح قريبا ، خاصة وأنه ليس بخروج من المنطقة .
دانيال حنفى