لا أعرف لماذا طاوعتنى نفسى وهرول عقلى خلف قدمى يلبى نداء: «فاضى كرااااسى.. حصرى.. أكتوبر.. فاضى كرااااسى»، فهل جاء هذا الانصياع تأثرًا بنظرية العقل الجمعى وسلوك القطيع، أم كان ذاك الانسياق تعايشًا مع فلسفة اقتناص الفرص واغتنامها، واتباعًا لوجدان عشش فيه «اللى سبق أكل النبق»!!
كانت الأجواء ليلية هادئة، أو هكذا ظننت، حتى وجدتنى بقوة الدفع الذاتى داخل الأتوبيس الكبير، تقودنى نظرات خاطفة نحو أجساد ملأت مقاعده واستقرت فوقها، متأملًا وجوهاً غمرتها لذة نصر ونشوة فوز بعد حرب، فاقت غنائمها مكاسب «الكبار» فى معارك طاحنة، تقدمت خطوة تلو أخرى، وصوت الرجل يخترق أذنى: «فاضى كراسى.
دقائق معدودات وامتلأت المساحات الشاغرة، وبدأت الرؤية تضيق شيئًا فشيئًا، واستمر الناس فى الصعود والسباق والركون، وبدأت الحكايات تنسال مع انسياب «الكمسرى» بين الجدران المتشققة، وتحول صوته الحماسى إلى نبرة استجواب ومدافع وجهت فوهاتها نحو أهل الشر.
«الكمسرى»: بقولك الكارنيه لو سمحت.
الرجل:.. وأنا بقولك هيئة.
«الكمسرى»: بقولك ده شغلى.. البطاقة أشوفها لو فيها الوظيفة.
وبعد أمواج من المد والجزر، قال له الرجل يائسًا خجلًا: نزلنى هنا، وكان له ما أراد وغادرنا، وصعد آخرون، ومرت لحظات من الهدنة الصامتة، حتى عادت طلقات المدافع ودوى إطلاق النيران مع رجل تجاوز الستين، لم يجد سوى درجات سلم الباب مكانًا يستقر عليه.
«الكمسرى»: تذكرتك؟
الرجل بحدة وغضب: أنا قطعت.. إنت لازم تكون شوَّاف.. ده شغلك لازم تكون عارف قطعت لمين ولسه مين!!
أصر«الكمسرى» على تنفيذ «فرمانه»: تذكرتك؟!
احتد الحوار وتدخل «أهل الأتوبيس» يطالبون صاحب الفرمان بترك العجوز، ولكنه أبى واستمر فى العناد والاقتراب، وبدأت الأيادى تساند اللسان، وانتقلنا إلى مرحلة «نزل إيدك»، وكاد الحوار ينقلب «لعركة كبيرة»، ووجدت سيدة كريمة تلفت انتباهى لما يحدث: طب ما يطلَّع التذكرة والموضوع يخلص.. هو فيه إيه يا أستاذ.. ده شغله برضه!، أجبتها: عند حضرتك حق.
ترك الرجل الستينى الأتوبيس والتفت لكلام السيدة، وانهال بالسباب واللعنات على الجميع دون تفرقة بين «بتوع الأتوبيس» و«بتوع الميكروباص» وصولًا إلى أصحاب المرسيدس، واستمر غضبه فى التصاعد: إنتوا عليه ليه يا جدعان.. مش كفاية الغلا اللى إحنا فيه.. ربنا أعلم باللى جوانا مش عارفين نعيش.. أرمى نفسى تحت عجلات الأتوبيس عشان أستريح!!
تم منعه من تلك المحاولة الجادة قولًا وفعلًا، وبدأت دموعه تتساقط، بعد شهادة سيدة قد احتلت مقعد «الكمسرى»، وانتقلت إليها آلياً هيبة الكرسى، وأصبحت فى مركز قوة!!، وقد أنطقها الله بعد هذا العراك الطويل وقالت إنها رأت العجوز «قطع» التذكرة، ثم أخرجها الرجل أخيراً وسط دموعه التى انهالت بعد «طبطبة الكمسرى» الذى جبر بخاطره، وأخرج «ورقة بعشرة» رفض العجوز أن يأخذها، وجلس يبكى: أنا مش شحات.. والله مش شحات ومش عايز فلوس.. سيبونى بس.. أنا فيا اللى مكفينى.
مرت دقائق ثم تركنا العجوز ذاهباً مع دموعه وهمومه، وبدأ «أهل الأتوبيس» فى الدعوات بأن يكون الله فى عون الناس.. ودارت الأحاديث حول «الناس فيها اللى مكفيها»، واستمرت الرحلة بين همهمات وصمت، واستمرت الحكايات واحدة تلو أخرى، واستمر قائد الأتوبيس فى طريقه، لا يلتفت لحوار، ولا ينتبه لصرخات، ولا تشغل باله دعوات.
أخيرًا.. كنت أعددت نفسى ليكون هذا المقال عن «مجزرة الطحين» التى ارتكبها الكيان المحتل فى شارع الرشيد بغزة، فوجدتنى أكتب مشهداً مألوفًا للبعض عن «بتوع الأتوبيس»، دون سبب واضح عن هذا التحول وتغيير المسار.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
نداء حمدوك.. هل هو أصلاً الخطة الدولية لإيقاف الحرب؟
نداء حمدوك.. هل هو أصلاً الخطة الدولية لإيقاف الحرب؟
صلاح شعيب
فجأة بدأ الإعلان الكثيف قبل يومين عن خطاب جديد يقدمه رئيس تحالف صمود د. عبد الله حمدوك للأمة السودانية. واليوم استمعنا لخطة متكاملة يضطلع بها الرجل، وقبل الإجابة على سؤال العنوان دعونا نتلمس ماضي حمدوك القريب في علاقته بالمجتمع الدولي لتبين ما إذا كان الذي نطق به اليوم هو بالفعل الخطة القادمة لتعامل المجتمع الدولي بشأن السودان وحربه:
دخل حمدوك عتبة القيادة السياسية، وهو يستحسن الظن في أطراف الوثيقة الدستورية بأن يعينوه عوضاً عن وضع المتاريس أمامه. فالرجل الهادي الطبع واجه أعضاء مكون عسكري معظمهم ملطخون بالدماء. وكأنهم يضحكون بعضهم بعضاً حين يسمعونه يجدد الحديث دائماً عن تقديم شراكة سودانية مميزة في التآخي بين العسكر والمدنيين للعبور نحو كمال الديمقراطية.
فالعسكر في عالمنا الثالث يدركون نقاط ضعف المدنيين في أوطان يتغلب فيها صوت السلاح على صوت العقل في كل الحالات، وبالتالي تبدو فرصهم للانقضاض على السلطة في أي لحظة توازي عدداً من العقود في الكفاح المدني حتى يفرض إرادته.
جاءت وزارة حمدوك للسلطة، وهي خلو من مخالب قوية للأجهزة النظامية الفاعلة التي ورثها المكون العسكري. بل إن كل أعضائه ترقوا في السلم الوظيفي نتيجةً لذبحهم المهنية. فالوثيقة الدستورية، التي هي حكم وقتها بسبب التوازن في القوة الذي دخل به الوسطاء لتجاوز الأزمة، كانت تحمل جرثومة فنائها. ذلك بسبب ضعف الضمانات بأن يلتزم المكون العسكري – وعلى رأسه البرهان – بتعزيز خطى الشراكة الانتقالية بما يجعلها مثمرة حتى تقود إلى الانتخابات. ومن مكمن غياب الضمانات تلك كانت فكرة حمدوك للاستعانة بالبعثة الدولية التي جاءت بفولكر.
ومن ناحية أخرى كان حظ المدنيين المتشاكسين مع حمدوك أن يُسير كل طرف الانتقال بناءً على منظوره السياسي، أو الأيديولوجي. ولما انقسم المدنيون بدافع أنانيتهم السياسية ضعفت حظوظ حمدوك في الحفاظ على قاعدة الثورة. وبدا أن المطلوب إسقاط حكومته بواسطة الحزب الشيوعي مقابل دفاع مستميت من أحزاب ضعيفة القاعدة، وهروب مبكر لحزب الأمة من تحمل المسؤولية. وفي هذا الوضع وجد حمدوك نفسه بين اصطراعات قاعدته التي سهلت تآمر المكون العسكري، ومن خلفه الدولة العميقة التي يتولاها الفلول الإسلاميين. وقريب من هذه المشاهد كانت الحركات المسلحة الموقعة على إعلان الحرية والتغيير قد مثلت خصماً من الرصيد القاعدي لرئيس الوزراء الطموح، وفضلت تهيئة الأوضاع للانقلاب على حكومة الثورة التي منحتها السلطة عبر اتفاق جوبا.
لكل هذه الأسباب المختصرة، وهناك أخرى، ترنحت حكومة حمدوك الأولى التكنوقراطية، وفشلت الثانية الحزبية في إنقاذ خطط حكومته للإصلاح السياسي، والاقتصادي، والدبلوماسي، والتربوي، والخدمي، والإعلامي، والزراعي، إلخ. ومع ذلك حافظ حمدوك على الدعم الإقليمي والدولي كنصير يتيم أمام تآمرات بني شعبه للحيلولة دون إنجاح مهمته الشديدة التعقيد.
الآن يطرح الدكتور حمدوك حلاً للحرب عبر منصة “صمود” بعد مجهودات مكوكية للسلام بذلها مع تنسيقية القوى الديمقراطية “تقدم”. وللأسف فقدْ فقدَ حمدوك عون معظم القاعدة التي دعمت إعلان الحرية والتغيير. بل إن تداعيات الاتفاق الإطاري ثم انقلاب البرهان فالحرب ضاعفت التصدعات وسط التيارات التي أسست ذلك التحالف المنتصر الذي زف حمدوك للوزارة. ضف إلى هذا أن الرجل واجه حملات مسعورة من الشيطنة، والوصف بالعمالة، والخيانة، في محاولة لقبر شخصيته العامة، بجانب تثبيت أهداف الحرب المعنية بطي صفحة ثورة ديسمبر، ومن ثم تدشين مرحلة استبدادية جديدة بعد التعديلات الدستورية التي أجراها البرهان لحيازة الحكم المطلق في أراضيه المحررة.
وعلى كل حال فإن الأسباب الموضوعية التي منعت حمدوك من إنجاز مهامه كرئيس للوزراء، وقائد لتقدم، تكثفت أكثر فأكثر، وتناسلت للدرجة التي يصعب معها القول إن الرجل قد أخطأ التقدير في تنمية حلمه الوطني لخلق اختراق مع جماعته الضعيفة القاعدة الآن لإيقاف الحرب.
مهما يكن من أمر قبول أو عدم قبول رجاءات ومناشدات حمدوك الأطراف الداخلية المعنية بإيقاف الحرب، فإن حديث حمدوك الجديد رسم خطة للمجتمع الدولي للتعامل بشأن الحرب، وما بعدها. ولا أتخيل أن الرجل تحرك في الفراغ ليطرح مبادرته دون التشاور مع اصدقائه في الاتحاد الأفريقي، والمحيط الإقليمي، والدولي.
نداء حمدوك الأخير مهم للغاية فهو يحوز على علاقات إقليمية، ودولية، لا نجد قيادياً سياسياً في مشهدنا السوداني يماثله في هذه الحظوة التفضيلية. فضلاً عن ذلك فإنه مؤهل علمياً، وعملياً، ومدرك لفداحة أوضاعنا السياسية الداخلية، والإقليمية، والدولية، وتعاريجها من خلفية اكتسابه التجربة خلال تقلده منصبه الانتقالي السابق. لا أتخيل أن الأطراف الفاعلة في المشهد الآن مستعدة للاعتبار بنداء حمدوك في ظل الانقسام المجتمعي الحاد. وحسب الرجل فقط ألا يقنط من رحمة تأتي لمساعيه الدولية النبيلة، وهو محاط بالتحديات الموضوعية التي تمسك بتفاصيل راهن الشأن السياسي. وفوق كل ذلك فإن الملعب السياسي جامد أمام قبول أي مبادرات خيرية لإيقاف الحرب خصوصا في ظل إصرار قادة الموتمر الوطني المنحل على مواصلة الحرب.
بعيداً عن ضعف قاعدة تحالف صمود فإن تحركات رئيسها في المشهد الدولي ستظل موثرة في محصلة التوجه الإقليمي والدولي نحو السودان أكثر من تأثيره على محصلة توجه السودانيين مجتمعين للتقرير بشأن بلادهم. ولكل هذا أرى أن نداء حمدوك الجديد مدفوع بدعم من الاتحاد الأفريقي، ومباركة إقليمية ودولية لدفع الأطراف المعنية بحالة السودان لإنقاذه من استمرار الحرب.
الوسومالأمم المتحدة الاتحاد الأفريقي التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الحرب السودان المجتمع الدولي تنسيقية تقدم د. عبد الله حمدوك صلاح شعيب نداء السودان