جريدة الرؤية العمانية:
2025-02-08@19:58:02 GMT

غزة.. وقهر الضعيف للقوي

تاريخ النشر: 3rd, March 2024 GMT

غزة.. وقهر الضعيف للقوي

 

د. عبدالله باحجاج

عنوان المقال أعلاه يقلب العبارة المُتعارف عليها وهي "قهر القوي للضعيف"، فكيف للضعيف أن يقهر القوي؟! بمعنى كيف لغزة أن تقهر جيشًا يُقال إنِّه "لا يُقهر"، وتقف معه دول كبرى في مُقدمتها الولايات المتحدة؟

انتصارات غزة تُحتِّم علينا أن نكون في مستوى صمودها، ونقرأ نتائجها من منظور الصيرورة ودونها- أي الصيرورة- سيكون من الصعب على الأغلبية فهمها واستيعابها؛ لذلك نستنطقها ونؤطرها بهدف تعزيز الوعي العربي الإسلامي الجديد الذي يتشكل منذ السابع من أكتوبر 2023.

فمنذ ذلك التاريخ الخالد، أصبحت غزة سببًا في تحوُّل وتغيير كل المُتعارف عليه من الحقب الزمنية الماضية، وتقلب مفاهيمها ومعادلاتها، كمفهوم "القوي يقهر الضعيف"، وقد قلبتها رأسًا على عقب، وسجلت من خلالها انتصارات عظيمة، صحيح بأثمانٍ كبيرة، لكنها حاملة للصيرورات العابرة للحدود.

فكيف تمكن رجال المقاومة في غزة من قلب تلك المُعادلة، وصار ضعفهم قوةً مُرعبةً؟ سنقف هنا على مسارين مُتزامنين، يشكلان خارطة طريق لكل دولة أو مجتمع يشعر بقهر القوي أو بقوة الضعيف؛ سواءً كان هذا القاهِر دولًا أو أفكارًا وآيديولوجيات أو تحديات داخلية مهما كانت.. وهما:

أولًا: بناء القوة الإيمانية رأسيًا وأفقيًا وبنيويًا، ومن ثم أصبحت هذه القوة العامل المشترك الجامع للكل، مهما كانت الاتجاهات السياسية، ومهما كان الاختلاف في الاجتهادات الزمنية، وهي بذلك تسترشد بالحديث الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير".  وهذا الحديث من جوامع الكَلِم التي أوتيها رسولنا الأعظم، وهي نصيحة غالية، ودعوة صريحة- كما يقول العلماء- للأمة الإسلامية، أفرادًا ودولًا، وقد استرشد بها رجال المقاومة الإسلامية في غزة، وأسسوا أولًا قوتها الإيمانية من الأجيال؛ فشربوا القضية قبل أن يُفطَموا، وأصبحوا من خلالها قوة مرعبة، قوة صامدة، قوة النصر الذي لا محالة.

كل من في غزة من بشر وحجر وشجر مُبرمَج إيمانيًا ومعنويًا على أنه يحمل في داخله قوة النصر الحتمي، وإلّا، فكيف ومن يفسر لنا صمود أهل غزة رغم الإبادة الجماعية ورغم التجويع ورغم التهجير ورغم استمرار الحرب الصهيونية شبه العالمية، ورغم خذلان الشقيق بالجنب وغير الجنب؛ بل وتواطؤ بعضهم ضدهم؟ ورغم، ورغم.. فهم صامدون مُرعِبُون يخشاهم العدو وكل مُتصَهْيِن.

ثانيًا: بناء القوة المادية، وقد بُنيت بصورة متوازنة مع تأسيس القوة الإيمانية استرشادًا بمنطوق ذلك الحديث الشريف؛ فمفهوم القوة يشملُ كذلك القوة المادية، وفي غزة تلتقي القوتان: الإيمانية والمادية معًا، مع تسجيل الفارق النووي للقوة الإيمانية، التي من دونها لن تصمد القوة المادية لوحدها إذا التقت مع قوة مادية أقوى منها. وهنا الفارق بين القوتين الإسلامية والصهيونية، وهنا تكمُن الدوافع والأسباب والنتائج وراء رُعب قوة المقاومة وصمودها، وهي في شهرها الخامس، مُحتفظةً بنفس زخمها وقوتها المرعبة.

السِّرُ الأعظم يكمنُ في القوة الإيمانية في ظل النسبية المطلقة لقوتهم المادية مقارنة بقوة الصهاينة وحلفائهم الظاهرين والمستترين، لذا أحدثت القوة النسبية المادية، القوة المتفوقة على القوة المُطلقة "المزعومة" في ساحة المعارك، وكذلك على مستوى التنظيرات الفكرية التي أبرزها الانقلاب في مفهوم القوة المادية، وإظهار ضعفها كقوة، وقوتها كضعف. دليل ذلك أنه طوال الخمسة أشهر لم تحدث في قوة الضعيف المادية انهيارات معنوية وسيكولوجية لدى رجال المقاومة وحاضنتهم الديموغرافية والشعبية، على عكس ما يحدث للصهاينة وحلفائهم الذين يتخبطون في أقوالهم وتصريحاتهم واعترافاتهم. ولنا في اعترافات لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي في جلسة استماع للكونجرس ما نُوظِّفه هنا. فبعد أن أعترف أن دولة الصهاينة قتلت أكثر من 25 ألف امرأة وطفل، سارع البيت الأبيض إلى استدراك هذا الاعتراف بسطحية سياسية، وذلك عندما قال إن الوزير تبنى إحصائية وزارة الصحة الفلسطينية، وأن ذلك العدد هو إجمالي من سقط في الحرب حتى الآن! وهنا استخفاف بالعقول.

لولا القوة الإيمانية، وهي الأساس، مُعزَّزة بقوة مادية نسبية، ما صمدت غزة حتى يومنا هذا، فكيف لقلبِ بشرٍ خالٍ من الإيمان القوي أن يتحمل حربًا بربرية متواصلة منذ 5 أشهر، ارتكبت قوات الصهاينة خلالها 2581 مذبحة أسفرت عن أكثر من 36 ألف شهيد ومفقود، وإصابة ما يزيد عن 69 ألفًا آخرين. وهذه إحصائية غير نهائية، فلم تضف إليها مذبحة المساعدات التي راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد، ومئات الجرحى، ومع هذا يزداد الشعب الفلسطيني في غزة التفافًا حول المقاومة، وإقبالًا على الجهاد. وفي الوقت نفسه، تصحو ضمائر الشعوب الحرة في عواصم العالم، وتُعبِّر عن مواقفها بمختلف الوسائل.

وقوة ضعف غزة لم تعد تقتصر داخل قطاع غزة فقط، وإنما أصبحت عابرة للحدود، ومخترقة للأفكار والانتخابات، فقد تحدثنا عن تأثيرها على حرية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، والآن نقفُ عند تأثيرها على مستقبل الانتخابات في أوروبا، ومؤشرها الإيجابي  فوز السياسي المخضرم جورج جالاوي في الانتخابات البرلمانية البريطانية بنسبة مريحة، وقد وصف ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني هذا الفوز بـ"الأمر المُثير للقلق"، وكان جالاوي قد أهدى فوره إلى غزة، واصفًا الانتخابات بأنها كانت استفتاءً على غزة. وقد رحبت منظمات التضامن البريطانية والحركات المناهضة للحرب في المملكة المتحدة بهذا الفوز. والغرب بما فيه أمريكا مقبل خلال شهور على انتخابات رئاسية وبرلمانية، ومن المؤكد أن غزة ستكون مؤثرة فيها.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الأمة العربية.. من القوة إلى الهوان!

كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ وما السبيل للخلاص؟

لا يمكن النظر إلى حال الأمة العربية اليوم بمعزل عن سياق تاريخي طويل من الأزمات والتدخلات الخارجية والداخلية التي أضعفتها، حتى باتت تعيش مرحلة غير مسبوقة من التشرذم والتبعية، بعدما كانت قوة يُحسب لها ألف حساب.

أولاً: كيف سقطت الأمة في دوامة الضعف؟

1- سايكس بيكو والاستعمار:

بدأت المأساة مع اتفاقية سايكس بيكو (1916) التي قسمّت العالم العربي إلى كيانات منفصلة، لتُزرع بينهم بذور الخلافات الحدودية والهويات القُطرية، ما أدى إلى فقدان روح الوحدة.

2- اغتصاب فلسطين (1948) والتوسع الصهيوني:

إقامة الكيان الصهيوني لم يكن مجرد احتلال أرض، بل كان بداية لمشروع استعماري طويل الأمد يهدف إلى تفكيك المنطقة ومنع أي مشروع نهضوي عربي. وكان رد الفعل العربي الأولي ضعيفاً، مما أدى إلى توسع الاحتلال وتحويل القضية الفلسطينية إلى ورقة مساومة سياسية بدلاً من كونها قضية مصير عربي مشترك.

3- اتفاقيات السلام والانقسام العربي:

من كامب ديفيد (1978) إلى أوسلو (1993) ووادي عربة (1994)، تحولت القضية الفلسطينية إلى ملف تفاوضي بدلاً من كونها قضية مقاومة، مما مهد لقبول “إسرائيل” كأمر واقع، وأسقط مفهوم المواجهة العسكرية كحل وحيد لاستعادة الحقوق.

4- الربيع العربي:

ثورات تحولت إلى أزمات

اندلعت الثورات العربية عام 2011 تحت شعارات الحرية والكرامة، لكن سرعان ما تحولت إلى فوضى وحروب داخلية، مما أدى إلى انهيار دول مثل ليبيا وسوريا واليمن، وانشغال الدول العربية بمشكلاتها الداخلية بدلاً من توحيد الصفوف.

5- التبعية الاقتصادية والسياسية:

مع تصاعد النفوذ الأمريكي والصهيوني، تحولت بعض الأنظمة العربية إلى وكلاء للغرب، وأصبح القرار العربي مرهوناً بإملاءات خارجية، خاصة مع الضغوط الاقتصادية وملفات الديون والتبعية المالية.

ثانياً: كيف نواجه هذا الواقع؟ المعالجات الاستراتيجية

1- دعم المقاومة العربية كخط دفاع أول:

- المقاومة ليست خياراً بل ضرورة وجودية، فهي الحاجز الأخير أمام المخططات الاستعمارية.

- دعمها ليس دعماً لجماعة بعينها، بل هو دعم للأمة في مواجهة التفكك والانهيار.

2- إنهاء النزاعات الداخلية لدعم العمل العربي المشترك:

كيف يمكن للأمة أن تواجه التحديات الخارجية وهي غارقة في صراعات داخلية تستنزف مواردها؟ الدول العربية المتورطة في حروب اليمن والسودان وليبيا مطالبة اليوم بتحويل تدخلها من أداة صراع إلى عامل استقرار، بما يحفظ سيادة هذه الدول وأمنها واستقرارها، ويمنع استخدامها كأوراق بيد القوى الإقليمية والدولية.

• في اليمن:

دعم حل سياسي شامل ينهي الحرب ويضمن وحدة البلاد واستقلال قرارها بعيداً عن التدخلات الخارجية.

• في السودان:

وقف تغذية الصراع بين الأطراف المتناحرة، ودعم مصالحة وطنية تحفظ وحدة السودان.

• في ليبيا:

دعم جيش وطني موحد وإنهاء حالة الانقسام التي جعلت البلاد ساحة لتصفية الحسابات الدولية.

3- شطب الديون المصرية والأردنية ودعمهما اقتصادياً

بدلاً من ترك مصر والأردن تحت رحمة الضغوط الأمريكية، يجب على الدول العربية شطب ديونهما ودعمهما اقتصادياً وسياسياً، لأنهما يقفان في وجه المخططات التي تسعى إلى إفراغ فلسطين من شعبها وتهجيره إليهما.

4- تعزيز الاستقلال الاقتصادي والسياسي

•إنشاء صندوق عربي موحد لدعم الدول المهددة بالضغوط الاقتصادية.

•تقليل الاعتماد على الغرب عبر مشاريع اقتصادية عربية تكاملية.

•إعادة إحياء مشروع السوق العربية المشتركة لخلق اقتصاد عربي مستقل.

5- إعادة صياغة التحالفات الدولية:

لا تحالف دون ضمانات!

في ظل التحديات الوجودية التي تواجه الأمة العربية، يصبح إعادة صياغة التحالفات الدولية أمراً ضرورياً لكسر الهيمنة الغربية ومواجهة المشروع الصهيوني.

لكن أي تقارب عربي مع إيران وتركيا يجب أن يكون مشروطاً وواضحاً، بحيث يستند إلى المصالح المشتركة للشعوب، وليس إلى أطماع توسعية أو نفوذ بأسم الدين والطائفية.

- على إيران أن تثبت جديتها في بناء علاقات متوازنة مع العرب، بعيداً عن دعم الميليشيات الطائفية والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.

- على تركيا أن تتعامل مع الدول العربية كشركاء حقيقيين، لا كمجال لنفوذها السياسي والاقتصادي تحت أي غطاء أيديولوجي.

6- استعادة المشروع القومي العربي

•إحياء فكرة القومية العربية كإطار جامع يتجاوز الخلافات السياسية والطائفية.

•تأسيس مجلس أمني وعسكري عربي مشترك، يكون مستقلاً عن أي نفوذ خارجي، ليكون درعاً يحمي المنطقة.

•الاستثمار في الإعلام العربي المقاوم لمواجهة الحرب الدعائية والتضليل الإعلامي الذي يُستخدم لضرب الوعي العربي.

خاتمة: لا خلاص إلا بالوحدة والقوة

ما تعيشه الأمة اليوم ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة سياسات خاطئة يمكن تصحيحها، والانهيار الذي وصلنا إليه يمكن أن يكون بداية لصحوة عربية جديدة.

لكن هذا لن يحدث إلا إذا أدركنا أن مصيرنا واحد، وأن المعركة ليست مجرد صراع سياسي أو إقتصادي، بل صراع بقاء ووجود.

فإما أن ننهض ونستعيد قوتنا، أو نبقى أمة تابعة تُفرض عليها الحلول وتُرسم لها الخرائط!

اقرأ أيضاًرسالة من النائب عمرو درويش عبر «الأسبوع» للرئيس السيسي حول قضية التهجير

«اللواء رضا فرحات»: الشعب المصري يدعم «السيسي» ولن يفرط في أرضه تحت دعاوى التهجير

«النائب عمرو درويش»: ثبات موقف الرئيس السيسي أمام ضغوطات التهجير نابع من اصطفاف الشعب المصري خلفه

مقالات مشابهة

  • تعليق جوارديولا علي صيام عمر مرموش التهديفي في 3 مباريات
  • الحل الوحيد
  • الأمة العربية.. من القوة إلى الهوان!
  • سيارة تسلا Model 3 تحطم الرقم القياسي في سباق الرالي.. شاهد
  • أهمية غزة المادية!
  • حَاجَتُنا لـ"ميسـون الكلبيَّة"
  • القوي يبحث مع خوري توحيد السلطة القضائية وتعزيز استقلال القضاء في ليبيا
  • أبو جزر: الموقف الأوروبي من القضية الفلسطينية يعد محوريًا
  • خبير: الموقف الأوروبي في القضية الفلسطينية مهم لكن المواقف العربية أكثر تأثيرا
  • القوي وخوري يبحثان دور القضاء في الفصل بالمنازعات الانتخابية