التداعيات السياسية بعد قرار المحكمة الاتحادية
تاريخ النشر: 3rd, March 2024 GMT
بقلم : د.محمد نعناع ..
مثلما هي الأوضاع السياسية والتوترات الإقليمية التي سادت مطلع العام 2012 وامتدت إلى منتصف العام 2014 تعود الأن في العراق والمنطقة، مفاوضات مستمرة من أجل جدولة الوجود الأجنبي في العراق وبالتحديد وجود القوات الأمريكية ضمن التحالف الدولي أو بمعزل عنه، وانسحاب تام للتيار الصدري من معادلة السلطة، واستهداف وتهميش للرموز السياسية السُنية، أو بشكل أوضح، تفريقُ للاجماع السُني من أجل إضعاف الموقف العام للسنة، بغية عدم تحقيق مطالبهم ضمن ورقة الإتفاق السياسي التي تأسس على أساسها ائتلاف إدارة الدولة وتشكلت حكومة محمد شياع السوداني، ومن أهم هذه المطالب تشريع قانون العفو العام وإعادة النازحين والمهجرين إلى سكناهم بعد توفير الخدمات لمناطقهم المدمرة، ويرافق هذه الأوضاع في العراق تصعيد دولي وإقليمي جديد، بعض تمظهراته مميتة وخطيرة جداً، كما يجري في غزة، وكما جرى من استهدافات متبادلة بين القوات الأمريكية والفصائل العراقية المسلحة، وإذا كانت الأعوام من 2012 إلى 2014 غذى توترها موجة الربيع العربي، فأن الوضع الحالي تغذيه الحروب المباشرة في أوكرانيا وغزة، وتبرز في كلاهما رغبة إيران في الاستفادة من التصعيد لصالحها، رغم إنها ووكلائها وحلفائها تكبدت خسائر كبيرة، مما دعاها ومن بمعيتها الى خفض التصعيد والكف عن استهداف القواعد والمصالح الأمريكية منذ أكثر من شهر، بعد تهديدات أمريكية مباشرة بالرد في الداخل الإيراني في حال استمرت عمليات القصف بالمسيرات والصواريخ، إن هذا الواقع المترع بالتأزم يتحمل الداخل العراقي إحدى أكبر ضرائبه، وتقف الحكومة العراقية حائرة بين ارتباطها بالقوى السياسية التي شكلتها وهي قوى راديكالية يأتمر جزء كبير منها بأوامر إيرانية، وبين توازنها من أجل تطبيق الإتفاقات السياسية والبرامج الحكومية، وهذه الحيرة تزداد كلما طمحت القوى الراديكالية بتضخيم دورها على حساب الشركاء، وكلما زاد التوتر الإقليمي والدولي، ولكن الضغط الأعلى الذي تواجهه الحكومة في الداخل هو رغبة المشاركين في تشكيلها باضعاف مراكز القوى العراقية الأخرى بشتى الطرق، ومن هذا المنطلق يُفكر القادة الكرد في قرارات المحكمة الاتحادية التي يرونها قرارات مدفوعة بمواقف سياسية، حتى لو كانت قانونية من الناحية الشكلية، لأن المهم بالنسبة لهم هو المصالح العليا للإقليم والمكاسب القومية التي تحققت بعد العام 2003، وهذا ما تهدده تلك القرارات التي يؤيدها من يريد تفكيك الإقليم، واللعب على خلافاته الداخلية التي تقوض تقدمه وتُعين خصومه على تحقيق أهدافهم العدوانية ضده، ومن هذا المنطلق جاءت تصريحات رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، فهو يرى بأن ما يحيط بالعراق وبالاقليم وبالمنطقة عموماً يتجه نحو انتاج عراق آخر غير الذي تُشكله التحالفات والإتفاقات السياسية، وفي هذا المسار تكمن عملية تقويض الشراكة، بل وتقويض الديمقراطية، وتتصاعد هنا لغة التحذير من سيناريو جديد لربما يجتاح العراق بسبب المخرجات السياسية السلبية للقرارات القانونية، فلا يُخفي البارزاني أي تحفظات على طبيعة إدارة الدولة، لا في مجال تلبية معادلة السلطة لحقوق المكونات واحترام الإتفاقات، ولا في مسار استغلال المؤسسات الدستورية والقانونية للضغط على الشركاء المتوافقين او الخصوم، ولا في استخدام مقدرات الدولة العراقية عبر قوى مسلحة في قضايا اقليمية ودولية، ويرى إن هذا التوصيف لوضع العراق –كما قال في مقابلة مونتي كارلو- تم إنتاجه عند الشعور بمنع قوى سياسية داخل الاطار التنسيقي حكومة السوداني من تطبيق الإتفاقات السياسية، وهذا العجز الحكومي سينعكس بالضرورة على الاستقرار السياسي، ولم يخفي البارزاني إتهامه للمحكمة الاتحادية بأنها ضد الاقليم بامتياز، على حد وصفه، ولم يخفي عدم ارتياح الكُرد وقلقهم من جمع المحكمة الإتحادية عدة سلطات في يدها، فقراراتها حسب هذا النسق تعطيها مهمات التشريع والقضاء والتنفيذ، وهذا ما يقوض الفصل بين السلطات، وهو كذلك ينسف الاتفاقات السياسية التي على أساسها تتشكل الحكومات المتعاقبة، أو يجعل هذه الإتفاقات في مصلحة جهة سياسية واحدة، وهنا بالضرورة سيتم التذكير بالحقب التاريجية الديكتاتورية التي تضرر منها الكُرد على طول تأريخهم السياسي والاجتماعي.
إن قرارات المحكمة الاتحادية الأخيرة التي بتت بتوطين رواتب موظفي إقليم كردستان بقدر ما هي عملية قانونية من الناحية الشكلية، إلا أنها بالنسبة للقيادة الكردستانية ذات أبعاد تدميرية على الإقليم في ظل الخلافات السياسية بين القوى الفاعلة في السليمانية واربيل، فتلك القرارات تغذي الخلافات التي تنحو منحى استراتيجي لا يمكن المساومة عليه، فمن يحاول تفكيك الإقليم وتجزئته إلى جزأين أو أكثر لا يمكن التشارك معه أو الموافقة على تقوية نفوذه، ومن هذا المنطلق يتجهز قادة الإقليم لمواجهة تحديات جديدة، فهم يعتقدون بأن صناعة أزمة جديدة مع الكُرد للتغطية على أزمات مقبلة في جسم الدولة العراقية ليس بعيداً في ظل العقلية الإقصائية التي تتحكم بمؤسسات الدولة، لذلك أوفِدَ رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليُجري محادثات عميقة ويقوم باجتماعات متعددة لاستشراف المرحلة المقبلة، ويستطلع هو ووزير البيشمركة إمكانية تحصين الإقليم عسكرياً وأمنياً واستخبارياً بعد إنسحاب القوات الأمريكية والتحالف الدولي.
لقد أفرزت قرارات المحكمة الإتحادية وضعاً سياسياً يستبطن تداعيات سلبية، من وجهة نظر كوردستانية، وهكذا هو تفكير بعض المراقبين أيضاً، ومن هذه التداعيات إشغال حكومة السوداني عن العمل في بيئة سياسية مريحة، وفتح المجال أمام التدخل الخارجي في الشؤون العراقية، وما زيارة مسرور بارزاني إلى واشنطن إلا بابُ للمزيد من التعاملات السياسية الداخلية مع القوى الاقليمية والدولية بدون التنسيق مع الحكومة الإتحادية، وما هو أخطر من كل ذلك هو إمكانية تحريض قوى داخل الإطار التنسيقي لقوى كردية للمطالبة بانفصال السليمانية وحلبجة وتكوين إقليم جديد يكون تحت السيطرة الإيرانية. د. محمد نعناع
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات
إقرأ أيضاً:
قرار الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغالانت.. التداعيات والمواقف الدولية
لحظة غير مسبوقةفي خطوة قد تُعيد تشكيل مفهوم العدالة الدولية وتجدد الثقة بالمؤسسات القضائية العالمية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارًا طال انتظاره، يقضي باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني. هذه الخطوة، إذا ما تم تنفيذها، ستكون نقطة تحول تاريخية في مسار المحاسبة على الجرائم الدولية، مما يضع قادة دولة إسرائيل في قلب معركة قانونية قد تمتد تبعاتها إلى مستويات غير مسبوقة.
يُنظر إلى القرار باعتباره استحقاقًا قانونيًا وإنسانيًا طويل الأمد، حيث يعيد تسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة التي طالما أُهملت في الساحة الدولية. ومع ذلك، فإن الخطوة لا تقتصر على تداعياتها القانونية؛ بل تمتد آثارها إلى المشهد السياسي العالمي، محدثة زلزالًا دبلوماسيًا يفرض تساؤلات ملحة حول حصانة القيادات السياسية، حدود السيادة الوطنية، وإمكانية إنصاف الشعوب المضطهدة عبر الآليات الدولية.
بينما يُثني أنصار العدالة على هذه الخطوة باعتبارها انتصارًا للقانون الإنساني الدولي، تُثار تساؤلات حول العقبات التي قد تعيق تنفيذ هذا القرار، ومدى استعداد المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته في مواجهة الضغوط السياسية والإقليمية التي تفرضها هذه القضية.
التداعيات القانونية للقرار :
قرار المحكمة الجنائية الدولية اليوم باعتقال بنتنياهو ووزير دفاعة السابق لحظة تاريخية للعدالة الدولية ويضع سابقة يمكن أن تؤثر على النزاعات المستقبلية في الشرق الأوسط، بينما سيستمر نتنياهو وغالانت بالدفاع عن موقفهما على الساحة الداخلية، سيواجهان تحديات قانونية ودبلوماسية غير مسبوقة على الساحة الدولية أهمها:
إن الخطوة لا تقتصر على تداعياتها القانونية؛ بل تمتد آثارها إلى المشهد السياسي العالمي، محدثة زلزالًا دبلوماسيًا يفرض تساؤلات ملحة حول حصانة القيادات السياسية، حدود السيادة الوطنية، وإمكانية إنصاف الشعوب المضطهدة عبر الآليات الدولية.1 ـ القيود القانونية على الحركة الدولية لنتنياهو وغالانت بموجب نظام روما الأساسي، يمكن لأي دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية اعتقال الأفراد الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف لجرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. قرار المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق أو إصدار مذكرات توقيف سيضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت أمام قيود صارمة على حركتهما الدولية. الدول الأعضاء في نظام روما (عددها حاليًا 123 دولة) ملزمة قانونًا بتنفيذ مذكرات التوقيف، مما يعني أن نتنياهو وغالانت قد يواجهان خطر الاعتقال في أي من هذه الدول.
على الصعيد السياسي، هذا الإجراء يمكن أن يؤدي إلى تقليص مشاركتهما في المؤتمرات الدولية والاجتماعات الرسمية، مما يعزل القيادة الإسرائيلية عن المحافل الدبلوماسية المهمة.
ـ تعزيز المطالب بالعدالة الدولية: يُعتبر أي قرار من المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، خصوصًا في غزة، خطوة كبيرة نحو المساءلة الدولية. القرار ليس فقط إدانة ضمنية للأعمال العسكرية الإسرائيلية، بل يُعطي زخماً قانونياً وسياسياً للحقوق الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بإنهاء الاحتلال العسكري. خاصة في ظل وجود آليات دولية تسعى إلى محاسبة المسؤولين الإسرائيليين على انتهاكات حقوق الإنسان، ستزداد الدعوات لمزيد من الشفافية حول الأنشطة العسكرية الإسرائيلية، خصوصًا في المناطق المحتلة، مما يضع الاحتلال الإسرائيلي تحت المجهر الدولي بشكل غير مسبوق.
ـ تقويض صورة إسرائيل الدولية: التحقيقات الدولية المتعلقة بجرائم الحرب ستؤدي إلى تقويض شرعية إسرائيل على المستويين السياسي والأخلاقي. يمكن توقع تصاعد موجات من الانتقادات الدولية ليس فقط من الحكومات، بل من المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية العالمية. القرار يرسل إشارة قوية إلى أن الانتهاكات الموثقة في الأراضي الفلسطينية المحتلة لن تمر دون مساءلة. الدول التي تسعى إلى تعزيز احترام القانون الدولي ستشدد مواقفها ضد إسرائيل، مما يؤدي إلى ضغوط دبلوماسية واقتصادية متزايدة. إضافة إلى ذلك، سيزيد القرار من عزلة إسرائيل في الأمم المتحدة والمحافل الدولية الأخرى، مع تزايد مطالب فرض عقوبات أو قيود على التعاون العسكري والدبلوماسي معها.
ـ تآكل الدعم الدولي: الإدانة، خاصة إذا صدرت عن منظمات دولية كبرى أو دول حليفة، قد تؤدي إلى تدهور العلاقات الثنائية مع شركاء رئيسيين مثل الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية. هذا التوتر قد يضع إسرائيل في موقف دفاعي، مما يعقد جهودها للحفاظ على مكانتها في النظام الدولي.
ـ تصاعد العزلة القانونية والسياسية: في حال تصاعدت الإدانة إلى خطوات ملموسة مثل فرض عقوبات أو إجراءات قانونية في المحافل الدولية، ستواجه إسرائيل تحديات كبيرة في الدفاع عن شرعيتها في قضايا مثل المستوطنات أو العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية.
ـ إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية: التوترات مع الغرب قد تدفع إسرائيل للبحث عن تحالفات جديدة أو تعزيز العلاقات مع دول في آسيا أو إفريقيا لا تعطي أهمية كبيرة لحقوق الإنسان في سياستها الخارجية، مما قد يؤدي إلى تحولات جيوسياسية طويلة الأمد.
ـ قرار المحكمة العلاقات الدولية : قرار المحكمة الجنائية الدولية الصادر أمس سيشكل اختبارا حقيقيًا لمدى التزام المجتمع الدولي بمبادئ العدالة وسيادة القانون ، فالمواقف المتباينة حيال ما يحدث في غزة ، يعكس صراعات أعمق حول المصالح الاستراتيجية والسيادة الوطنية في عالم تسوده تحالفات متشابكة وأهداف متضاربة.
ولا شك أن القرار الحالي لن يكون معزولا عن هذه المصالح والتشابكات في العلاقات الدولية ، خاصة وان هذا التبيان بدي جليا وواضحا ، وربما لأول مرة حيال حرب غزة ، والاصطفاف امام محكمة العدل الدولية مع جنوب افريقيا ، وبالتالي فهذا القرار سيشكل تحولًا في مقاربتها للعدالة الدولية، تتفاوت المواقف الدولية بين تأييد القرار ورفضه، وهو ما يعكس مصالح متشابكة وديناميكيات متغيرة في العلاقات الدولية ، يمكن ان نري مواقف متباينة علي ضوء تحكمها العلاقات الاستراتيجية والمصيرية وبيان ذلك علي النحو التالي
الولايات المتحدة.. التحديات القانونية والتحالفات الاستراتيجية
باعتبارها الحليف الأبرز لإسرائيل، ويمكن وصفها من قرارات المحكمة بأنها “منحازة سياسيًا”،فقد ترى الولايات المتحدة أن هذا القرار يهدد مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ويفتح الباب أمام مساءلة حلفائها عن انتهاكات مزعومة للقانون الدولي.
الدول الأعضاء في نظام روما (عددها حاليًا 123 دولة) ملزمة قانونًا بتنفيذ مذكرات التوقيف، مما يعني أن نتنياهو وغالانت قد يواجهان خطر الاعتقال في أي من هذه الدول.ولذا يتوقع ا١ن قد تلجأ واشنطن إلى الضغط على المحكمة الجنائية الدولية بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد تستخدم أساليب دبلوماسية واقتصادية للتأثير على الدول الأعضاء في المحكمة لعرقلة تنفيذ القرار.
حيث هناك بعض تصريحات سابقة أدلى بها مسؤولون أمريكيون تجاه تحقيقات المحكمة في قضايا أخرى. على الصعيد القانوني، يتعارض هذا مع التزامات الولايات المتحدة السابقة تجاه النظام الدولي، مما يعكس ازدواجية في التعامل مع القانون الدولي بناءً على الحلفاء والمصالح.
الاتحاد الأوروبي بين المبادئ والمصالح
بالرغم من دعم الاتحاد الأوروبي لحل الدولتين واعترافه بالدور المحوري للقانون الدولي، فإن الموقف الأوروبي قد يشهد انقسامات نتيجة المصالح الوطنية المختلفة ، حيث من المرجح أن تدعم دول مثل النرويج وإيرلندا القرار، استنادًا إلى مواقفهما المؤيدة للعدالة الدولية والحقوق الفلسطينية
.
بينما دول ألمانيا وفرنسا قد تعبران عن تحفظات خشية تأثير القرار على استقرار المنطقة. هذا التحفظ يعكس القلق الأوروبي من تقويض أي جهود دبلوماسية سابقة لتحقيق السلام ،في حين اعتقد ان موقف الاتحاد الأوربي سينضم الي جانب القانون الدولي دون موقف سياسي معين .
الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل بين الشارع والمصالح الدبلوماسية
الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، مثل الإمارات والبحرين، تجد نفسها أمام معضلة قانونية وسياسية، فقد تسعى هذه الدول إلى اعتماد خطاب عام يدعو إلى احترام القانون الدولي دون الإضرار بعلاقاتها الثنائية مع إسرائيل. على النقيض، من المحتمل أن تواجه ضغوطًا داخلية من شعوبها التي ترى في القرار خطوة نحو تحقيق العدالة، مع استمرار العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في ظل هذا القرار قد يُضعف موقفها أمام الهيئات الدولية ويعرضها لاتهامات بعدم الالتزام بمبادئ العدالة والشرعية الدولية.
انعكاسات القرار على إسرائيل
لاشك أن للقرار تداعيات مزدوجة علي الكيان الصهيوني المحتل، علي المستوي الداخلي، الذي يعيش حالة انقسام غير مسبوق، وشعور أكثر من أي وقت مضي أن كيانه الوجودي في خطر ، وخارجيا، في ظل خسران الصورة الذهنية التي عمل على رسمها في الذهنية العالمية من ٧٠ عاما، كدولة ديمقراطية، ملتزمة بحقوق الإنسان، وأهم هذه الانعكاسات على المستوى الداخلي
1 ـ الآثار السياسية الداخلية في إسرائيل
الإدانة الدولية التي قد تواجهها إسرائيل نتيجة تصعيد سياساتها تجاه الفلسطينيين من شأنها أن تحدث تغييرات جذرية داخل المشهد السياسي الإسرائيلي:
ـ تعميق الاستقطاب الداخلي: قرار الإدانة سيعزز الانقسامات بين معسكرات اليمين واليسار في إسرائيل. قد يستخدم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو القرار لتصعيد خطابهم تجاه الفلسطينيين والمجتمع الدولي، متهمين إياه بالتحيز ضد إسرائيل. مثل هذا الخطاب، إذا تبناه قادة الحكومة، قد يخلق توترات أكبر بين الإسرائيليين الذين يدعمون سياسات أكثر اعتدالًا والذين يفضلون مواقف أكثر تشددًا.
ـ إضعاف الحكومة الحالية: مع تزايد الانتقادات الدولية، قد يجد نتنياهو وحكومته أنفسهم تحت ضغوط محلية من المعارضة وحتى من داخل ائتلافهم. إذا أثرت العزلة الدولية على الاقتصاد أو المصالح الأمنية، قد يرتفع مستوى الدعوات لاستقالتهم أو لإعادة النظر في السياسات التي تسببت في العزلة.
ـ تعزيز الخطاب اليميني: التيار اليميني المتشدد قد يستغل الإدانة للتأكيد على رفض التدخل الدولي في شؤون إسرائيل السيادية، مما قد يؤدي إلى حشد دعم داخلي أوسع لسياسات تتسم بمزيد من الانغلاق تجاه المجتمع الدولي. قد تكون هذه الخطوة محاولة لإعادة توجيه السخط الداخلي نحو الخارج، وتعزيز الشعور القومي لصد الضغوط الخارجية.
تأثير القرار على الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي
لا شك أن القرار ستكون له انعكاسات على الصرع الإسرائيلي الفلسطيني ، خاصة وأن البعد القانوني والدولي ، كان حاضرا منذ البدايات الأولي للاحتلال ، واتخذ منه الاحتلال شماعة لقضم الأراضي الفلسطينية وخاصة بعد ٤٨ ، ولذا سيظهر أثر هذا القرار في الصراع على النحو التالي:
ـ تعزيز الضغط على إسرائيل دوليًا
قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين، مثل بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، يشكل تحولاً نوعيًا في طبيعة التفاعل الدولي مع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. إذ يعزز هذا القرار بشكل كبير الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية، ويدفع نحو تعزيز الشرعية الدولية للمطالب الفلسطينية بالاعتراف بحقوقهم الوطنية.
ستستغل السلطة الفلسطينية القرار للدعوة إلى محاسبة إسرائيل على ممارساتها التي وصفت مرارًا بـ"جرائم حرب" وفق القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك التوسع الاستيطاني، التهجير القسري، وفرض الحصار على غزة. القرار، إن نُفذ، يمكن أن يخلق سابقة تُجبر إسرائيل على مواجهة عواقب قانونية على أفعالها، مما سيزيد من التحديات أمامها في أي محادثات مستقبلية.
الآثار الرمزية والمعنوية للقرار
القرار سوف يحمل رسالة تتجاوز حدود إسرائيل وحب غزة، وسيعزز دور الناشطين في مجال الانسان، والثقة في الجهود المبذولة في ملاحقة مجرمي الحرب، حيث ان القرار من الناحية الرمزية يعمل علي إضعاف الإفلات من العقاب، حيث أن فتح التحقيق يُعتبر رسالة واضحة بأن الجرائم ضد الفلسطينيين لن تمر دون محاسبة، مما يُضعف هيمنة الرواية الإسرائيلية القائمة على الحصانة الدولية ، ثانيا يُمكن للقرار أن يُعزز الثقة لدى الشعب الفلسطيني في المؤسسات القانونية الدولية، على الرغم من التحديات المتعلقة بالتنفيذ.
سيكون لهذا القرار تأثير مزدوج: رمزياً، سيمثل خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة للفلسطينيين، وسيكشف عيوب النظام الدولي في مواجهة المصالح السياسية للقوى الكبرى. وعملياً، سيضع صعوبات كبيرة أمام إسرائيل، سواء على المستوى السياسي أو القانوني.ـ إعادة الاعتبار للعدالة الدولية: يُمثل القرار اختبارًا لقدرة المحكمة الجنائية الدولية على تجاوز الضغوط السياسية الدولية والوفاء بالتزامها بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم الخطيرة، إذا تم تنفيذه بفعالية، قد يُعزز القرار دور العدالة الدولية في النزاعات الممتدة مثل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
التحديات القانونية والسياسية لقرار المحكمة الجنائية الدولية
في ظل اختلال موازين القوي، وعودة الهيمنة الاستعمارية بأساليبها القديمة، سيواجه القرار بعدد من التحديات أهمها:
رفض إسرائيل تنفيذ القرار
إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، وتؤكد باستمرار رفضها الاعتراف بولايتها القضائية. يشكل هذا تحديًا كبيرًا من حيث تنفيذ قرارات المحكمة، حيث يعرقل التعاون اللازم لإجراء تحقيقات فعّالة أو محاكمات عادلة. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقويض قدرة المحكمة على فرض إجراءات حقيقية على الأرض.
الضغط على المحكمة الجنائية الدولية
الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة التي تعد حليفًا وثيقًا لإسرائيل، قد تستخدم نفوذها السياسي والدبلوماسي للضغط على المحكمة من أجل تعليق التحقيقات أو إلغائها. هذه التدخلات قد تعكس ازدواجية المعايير الدولية وتثير تساؤلات حول قدرة المحكمة على الحفاظ على استقلاليتها في مواجهة الضغوط الجيوسياسية.
ازدواجية المعايير الدولية
القرار يفتح بابًا للانتقادات بشأن الانتقائية في العدالة الدولية. فبينما تواجه إسرائيل تحقيقات دولية، لا تخضع دول أخرى يُزعم ارتكابها جرائم مشابهة لمثل هذه الإجراءات. هذا قد يعزز الشعور بعدم التوازن ويؤثر على مصداقية المحكمة في أعين بعض الدول.
عدالة تتحدى المصالح السياسية
في نهاية المطاف، سيكون لهذا القرار تأثير مزدوج: رمزياً، سيمثل خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة للفلسطينيين، وسيكشف عيوب النظام الدولي في مواجهة المصالح السياسية للقوى الكبرى. وعملياً، سيضع صعوبات كبيرة أمام إسرائيل، سواء على المستوى السياسي أو القانوني.
إن نجاح القرار يعتمد بشكل كبير على الدعم الدولي للعدالة وسيادة القانون، ولكنه يثبت مجددًا أن الحقوق الفلسطينية حاضرة على أجندة العالم، حتى في ظل الواقع السياسي المعقد.
*محامي وناشط حقوقي يمني