المطران عودة: هل يجوز لفئة من اللبنانيين أن تقرر عن الجميع؟
تاريخ النشر: 3rd, March 2024 GMT
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "سمعنا الأحد الماضي عن العشار الذي تبرر بتواضعه، على عكس الفريسي المتعاظم الذي عاد غير مبرر. أما اليوم، فنسمع من الرب مثل الإبن الشاطر، الذي شطر أو قسم ميراث أبيه.
أضاف: "الله، المرموز إليه بالأب، يظن بعض الناس أنه غير موجود. هو يسمح لنا، بسبب تواضعه الأقصى، بأن نتساءل عن وجوده وسط مصاعب الحياة، كما يسمح بوجود الملحدين الذين ينكرون وجوده. هو يحب كل خليقته، و«يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (1تي 2: 4)، لكنه لا يفرض هذه المحبة ولا يتدخل في حرية أبنائه. بعدما أخذ الإبن الأصغر نصيبه جمع أغراضه وسافر بعيدا. هذا ما يحصل معنا. نطلب عطايا الله، فيمنحنا مواهب لا تحصى، وفجأة نقرر الإبتعاد عنه بسبب خطايانا، واعتباره غير موجود، ونتصرف بالعطايا والمواهب بأنانية تؤدي بنا إما إلى الندم أو الهلاك".
وتابع: "عندما يبتعد الإنسان عن الله تتدهور حاله بسرعة. لقد بدأ الإبن الأصغر خطأه بخطوة صغيرة، لكن خطوته الثانية، أي قراره الإبتعاد عن والده، وسعت الهوة بينهما. لقد انتقل الإبن، بسبب خطيئته، من البنوة، إلى رتبة أدنى من الخنازير التي «كان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت تأكله». الخنازير سيئة ونجسة عند اليهود الذين يحرمون تربيتها أو لمسها وأكلها. لذا، اهتمام الإبن بالخنازير يدل على الذل الأقصى. أما ابتعاده عن أبيه فيرمز إلى ابتعاد كل إنسان عن الله بسبب الخطيئة، إذ يتحول من إبن لله إلى إنسان ذليل، لدرجة فقدان كل الخيرات واشتهاء الحصول على أي نعمة إلهية. عندما أدرك الإبن حالته الناتجة عن خطيئته «رجع إلى نفسه». أفاق من غيبوبته، وتذكر حاله في بيت أبيه فقال: «كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا!». لم يقارن نفسه بأخيه الأكبر الذي ما زال يتمتع بخيرات أبيه، بل بالأجراء الذين يتمتعون بالخيرات، ولكثرتها يفضل عنهم ، فقرر أن يعود إلى أبيه ويعترف بخطئه".
وقال: "عندما يقرر الخاطئ العودة إلى الله يخجل، وإن كان تائبا حقا يعرف خطيئته ويقر بها طالبا الرحمة. نحن نخاطب الله وندعوه «أبانا»، لكن عندما نعي حجم خطايانا نخجل من أنفسنا فتصبح هذه العبارة صعبة اللفظ. لذلك، يعلن الكاهن في القداس الإلهي، قبل الصلاة الربية: «وأهلنا أيها السيد أن نجسر بدالة وبلا دينونة أن ندعوك أبا». عندما عاد الإبن، كان يريد أن يقبله أبوه كأجير، لكن أباه لم ينتظره بل بادر نحوه. لم يترك له مجالا للتفوه بما فكر به، بل قبله قبل أن يعبر عن توبته. لكن الإبن قال: «يا أبت، أخطأت إلى السماء وأمامك، ولست مستحقا بعد أن أدعى لك ابنا». هنا إشارة إلى أهمية الإعتراف بالخطيئة، الأمر المقترن بالتوبة. لهذا، تجمع الكنيسة بين التوبة والإعتراف في سر واحد، لأن التوبة مهمة، إنما يجب إقرانها بالتواضع المؤدي إلى الإعتراف بالخطأ. لقد قبل الأب ابنه بسبب توبته وتواضعه، و«القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله».
أضاف: "عندما علم الإبن الأكبر بعودة أخيه، رفض دخول البيت والإحتفال مع الآخرين. كثيرا ما نشبه الأخ الأكبر ونرفض الإحتفال مع إخوتنا، مبعدين أنفسنا عنهم بسبب حسدنا وغيرتنا أو أنانيتنا ونقص محبتنا. عندما سمع الأب أن ابنه الأكبر غاضب، ترك الإحتفال وخرج للقائه تماما كما لاقى ابنه الأصغر، ليس لتبرير ذاته أو ابنه، بل ليدعوه إلى الفرح «لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد».
وتابع: "الوطن شبيه بالبيت الأبوي، لا راحة ولا طمأنينة إلا فيه. كثيرا ما يخطئ المواطنون تجاه وطنهم ويقدمون مصالحهم على مصلحته، وما حالنا المزرية التي نعيشها إلا نتيجة انفصال بعض الزعماء والسياسيين والحكام وبعض المواطنين عن وطنهم، كما فعل الإبن الشاطر أو الضال، ولم يدركوا سواد المصير الذي يتربص بهم، تماما مثل الإبن الأصغر في مثل اليوم، الذي قسم ثروة أبيه وغادر البيت الأبوي ظانا أنه سيعيش في حرية ستجلب له السعادة، فعاش حياة سهلة ملأى بالخطايا، مبذرا مال أبيه، حتى أصبح يشتهي الخرنوب الذي يأكله الخنازير. لقد قال أحد إخوتنا، الشيخ الراحل عبدالله العلايلي، عندما كان مفتيا في جبل لبنان: «لبنان والقداسة صنوان. هكذا وسمته الكتب السماوية، فكرمته ديانة وسمت به ديانة. وكان لنا منها جمعاء ما يشبه التتويج بأكاليل الغار. فما ظنك في جبل هو في وعي السماء، قداسة موصولة بقداسة».
وقال: "ليتنا جميعا ندرك أهمية وطننا وضرورة الحفاظ عليه. لبنان بحاجة إلى اتحاد جميع المسؤولين والزعماء وكل أبنائه حول مصلحته التي هي مصلحة الجميع. إنه بحاجة إلى تضافر الجهود من أجل إنقاذه، وأول عمل على المسؤولين القيام به هو انتخاب رئيس يقود عملية الإنقاذ. إن التأخر في انتخاب الرئيس أو تعطيل الإنتخاب هو عمل مدان لأنه يمنع الإنقاذ، ويساهم في القضاء على ما تبقى من مقومات البلد ومن تبقى من أبنائه المتشبثين به. هنا لا بد من الإشارة إلى خطورة اتساع الحرب على لبنان. كلنا نعرف أننا أمام عدو شرس مجرم لا يردعه ضمير ولا إنسانية، فهل نضع أنفسنا في فم التنين؟ إذا كنا نعرف أن لبناننا لا يحتمل نتائج وحشية هذا العدو، وقد شهدنا ما حل بغزة مما أدمى القلوب، أليس من الحكمة منع انزلاق لبنان إلى ما يشبه ما حل هناك؟ «كل شيء مباح لي ولكن ليس كل شيء يوافق» يقول بولس الرسول. فكروا بمصلحة لبنان وببقائه. مصلحة لبنان وأبنائه تعلو على كل المصالح. فهل يجوز لفئة من اللبنانيين أن تقرر عن الجميع وتتفرد باتخاذ قرارات لم يتوافق عليها جميع اللبنانيين، ولا تناسب مصلحتهم؟ وهل تقبل هذه الفئة أن تبادر فئة أخرى من الشعب إلى اتخاذ مواقف أو القيام بأعمال تزج الجميع في أتون صراعات يدفع الجميع ثمنها؟ أين الدولة من كل هذا؟ على جميع اللبنانيين التأمل مليا في الوضع الذي وصلنا إليه والعودة سريعا إلى كنف لبنان كما عاد الإبن الضال إلى حضن أبيه، والعمل الحثيث على إنقاذه كي لا نبكي بلدا وهبنا إياه الله ولم نحافظ عليه، بل عبثنا به ومزقناه كما يمزق الطفل لعبته، عن جهل.
وختم: "الله أب حنون ورحوم، ينتظر عودة كل خاطئ. لذلك، دعوتنا اليوم، قبل الدخول في الصوم الكبير، أن نتوب ونرجع بقلب منسحق ومتواضع إلى الله الذي سيقبلنا، ونسمع صوته الحسن قائلا: «أدخلوا إلى فرح ربكم". المصدر: "الوكالة الوطنية للاعلام"
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
هل يجوز نشر أسرار البيوت على السوشيال من أجل التربح؟ أمين الفتوى يجيب
أجاب الشيخ أحمد العوضي، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، في سؤال حول نشر الأسرار الشخصية وأمور الحياة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأوضح أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، في تصريح له، أن الشرع الشريف يفرق بين نشر الأمور التي تدعو للتواصل الاجتماعي والتقارب مثل تهنئة العيد أو العزاء، وهو أمر جائز ومحمود ويقرب المسافات بين الناس.
وأشار إلى أنه إذا كان الشخص ينشر تفاصيل حياتية مثل نجاح ابنه في الامتحان أو مناسبة سعيدة تخصه، فهذا جائز أيضًا، لكن في حال نشر الخصوصيات أو الأمور التي تخص أسرار البيت أو العمل أو الحياة الشخصية بشكل غير لائق، فهذا مرفوض شرعًا، ويعد محرمًا، مشددا على أن الشرع نهى عن التطفل على خصوصيات الناس أو نشر ما قد يسبب لهم ضررًا أو يعرضهم للانتقاد.
وأضاف أن مبدأ الستر هو الأصل في الإسلام، حتى في العبادة، حيث يُفضل أن يظل الإنسان مستترًا في النعم التي ينعم الله بها عليه، باستثناء الحالات التي يدعو فيها الإنسان لذكر نعم الله عليه، مثلما ذكر الله في القرآن: "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ"، وفي هذه الحالة، إذا كان الأمر لا يجرح أو يفضح خصوصيات، يمكن للإنسان أن يذكر نعمة الله عليه.
وأشار إلى أن الفقهاء قد ألفوا كتبًا حول هذا الموضوع، مثل الإمام السيوطي في كتاب "التحدث بنعمة الله"، حيث ذكر كيفية شكر الله على النعم دون التفاخر أو التباهي بما يعرض الإنسان للوم أو العيب.
وأكد على أن ما يقال ويُنشر يجب أن يكون فيما لا يعرض الإنسان لانتقاد أو كشف لعيوبه أو خصوصياته، وأن الأمور التي لا يعاب الإنسان فيها مثل "اشتريت سيارة جديدة" أو "حصلت على وظيفة" هي أمور جائزة، أما ما يفضح الإنسان أو يسبب له حرجًا فهو مذموم وغير جائز شرعًا.
قالت دار الإفتاء، إن بَث ونَشر "اليوتيوبرز" المقاطع المصورة عن تفاصيل حياتهم الشخصية لهم ولأسرهم لزيادة التفاعل حولها، إن كان مما لا يجوز للغير الاطلاع عليه؛ لكونه مما يُعَيَّب به المرء، فنشره عَمَلٌ محرَّم شرعًا، ومُجَرَّم قانونًا؛ لما فيه من إشاعة الفاحشة في المجتمع… وإن كان مما يصح إطلاع الغير عليه فلا مانع منه شرعًا.
المقصود بـ"اليوتيوبرز"
"اليوتيوبرز: Youtubers" مصطلح عصري يُطْلَق على صانعي المحتوى المرئي في موقع "يوتيوب: YouTube"، وتزداد شهرة "اليوتيوبر" من خلال المحتوى الذي يُقَدِّمه من حيث نوعه، وجودة إخراجه، والمخاطَب به؛ حتى إنَّ بعض الأشخاص لشهرتهم على اليوتيوب قد امتهنوا هذا الأمر؛ نظرًا لما يدره عليهم من ربحٍ نتيجة التفاعل على ما يُقَدِّمونه بالتعليق، أو الإعجاب، أو المشاركة من الآخرين.
من المحتوى الذي لوحظ تقديمه من قِبَل "اليوتيوبرز": نَشْر بعضهم الشؤون اليومية الخاصة به وبأسرته؛ كأماكن جلوسه في بيته مع زوجته، ومواضع نومه، ومقر اجتماعه للأكل والشرب مع عائلته؛ حتى وصل الهوس لنشر كواليس نومه واستيقاظه، وتحركات أطفاله، بل ودخوله للخلاء!.
والبَثُّ والبَسْط للشؤون الشخصية ومشاركة الآخرين لمشاهدة ذلك يفرق فيه بين حالين؛ أولهما: ما يصح إِطْلاع الغير عليه. وثانيهما: ما لا يصح إِطْلاع الغير عليه.
فالأول؛ كتفاصيل الحياة العادية التي لا يَأنَف الشخص من معرفة الغير بها؛ كعنوان بيته، وشَكْله، ونوع سيارته، ونحوه مما يدل على أَنَّ ناشر ذلك له ذوق مناسب وسط البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها؛ فهذا أمر لا مانع منه شرعًا، وقد يندرج هذا الفعل تحت التَّحدُّث بنعمة الله على المرء الذي ندب إليه الشرع الشريف في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11].
وأما النوع الثاني؛ فهو ما يُعيَّب به المرء مما لا يجوز للغير الإطلاع عليه؛ ونشر ذلك رغبةً في زيادة التفاعل -بالتعليق أو الإعجاب أو المشاركة- حول ما يُنْشَر مذموم شرعًا؛ لأنَّه من قبيل إشاعة الفاحشة في المجتمع، وهي جريمة حَذَّر منها الحق سبحانه وتعالى؛ في قوله: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور: 19].
والآية عامة في الذين يَلتمسون العورات، ويهتكون الستور، ويشيعون الفواحش؛ قال الإمام الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" (23/ 184، ط. دار الفكر): [لا شك أن ظاهر قوله: ﴿إِنَّ الذين يُحِبُّونَ﴾ يفيد العموم وأنه يتناول كل من كان بهذه الصفة، ولا شك أن هذه الآية نزلت في قذف عائشة؛ إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فوجب إجراؤها على ظاهرها في العموم، ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيصها بقذفة عائشة؛ قوله تعالى في: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ فإنه صيغة جمع ولو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك].
وجعل الإسلام إشاعة الفاحشة وفعلها في الوِزْر سواء؛ لعظم الضرر المترتب في الحالتين؛ فقد أخرج الإمام البخاري في "الأدب المفرد"، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "القائل الفاحشة والذي يشيع بها في الإثم سواء"، وقال عطاء رضي الله عنه: "من أشاع الفاحشة فعليه النكال، وإن كان صادقًا" أخرجه ابن أبي حاتم.
ورَتَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جريمة إشاعة الفاحشة عقوبة عظيمة؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وأيُّما رَجُلٍ أشاعَ على رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وهُوَ مِنْها بَرِيءٌ يَشِينُهُ بِها فِي الدُّنْيا كانَ حَقًّا على الله تَعَالَى أنْ يُدْنيَهُ يَوْمَ القيامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يأْتِيَ بِإِنْفاذِ مَا قالَ» رواه الطبراني كما فى مجمع الزوائد (4/ 201)، وقال الهيثمى: فيه من لم أعرفه.
كما أَنَّ نشر وبَثَّ مثل هذه المقاطع المصورة التي لا يصح إِطْلاع الغير عليها يتنافى كليًّا مع حَثِّ الشرع الشريف على الستر والاستتار؛ لأنَّ أمور العباد الخاصة بهم مبنية على الستر؛ فلا يصح من أحد أن يكشف ستر الله عليه ولا على غيره؛ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» رواه مسلم، وفي رواية لابن ماجه: «منْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ». قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 337، ط. مؤسسة قرطبة): [وفيه أيضًا ما يدل على أن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة وواجب ذلك عليه أيضًا في غيره].
لعناية الشرع الشريف بالستر والاستتار؛ فقد حَثَّنا على أنَّه مَن ابتلي بمعصيةٍ ألا يُخبر بها، بل يُسرها ويستغفر الله منها ويتوب إليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ»، أخرجه مالك في "الموطأ"؛ حتى نَصَّ الفقهاء -بناء على ذلك- أنه يستحب لمن ارتكب معصية أن يستر على نفسه وعلى الغير، قال شمس الدين البابرتي الحنفي في "العناية شرح الهداية" (10/ 471، ط. دار الفكر): [الستر واجب والإشاعة حرام].
ويقول الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (3/ 408، ط. دار الفكر): [يجب ستر الفواحش على نفسه وعلى غيره لخبر: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ»].
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (19/ 495، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ويستحب للزاني) ولكل من ارتكب معصية (الستر) على نفسه].
وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (60/ 69، ط. مكتبة القاهرة). [ورد الشرع بالستر، والاستتار] اهـ.
إضافة لذلك: فإنَّ نشر هذه الخصوصيات بهذه الكيفية المذمومة هو مِن طلب الشُّهْرة الذي كَرِهه السلف الصالح، ويندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ» رواه أحمد.
قال المناوي في "فيض القدير" (3/ 129، ط. المكتبة التجارية): [المدح يورث العجب والكبر، وهو مهلك كالذَّبْح؛ فلذلك شُبِّه به].
وقد روى البيهقي في "الشُّعَب" عن أنس رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حَسَبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ».
وروى البيهقي والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بِحَسب امْرِئٍ من الشَّرّ أَن يُشِير النَّاس إِلَيْهِ بالأصابع فِي دينه ودنياه إِلَّا من عصمه الله -من السوء-».
إنَّ إفشاء مثل هذه الخصوصيات الشخصية بهذه الصورة المعيبة هو أيضًا جريمة قانونية يُعاقَب عليها وفق القانون رقم (175) لسنة 2018م، والخاص بـ"مكافحة جرائم تقنية المعلومات"؛ فقد جَرَّم المُشَرِّع المصري في هذا القانون نشر المعلومات المُضَلِّلة والمُنَحرفة، وأَوْدَع فيه مواد تتعلق بالشق الجنائي للمحتوى المعلوماتي غير المشروع؛ ففي المادة (25) من القانون المشار إليه نَصَّ على: [يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين: كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياة الخاصة ..].
ونَصَّ أيضًا في المادة (26) على: [يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين: كل مَنْ تَعمَّد استعمال برنامج معلوماتي أو تقنية معلوماتية في معالجة معطيات شخصية للغير لربطها بمحتوى منافٍ للآداب العامة، أو لإظهارها بطريقة مِن شأنها المساس باعتباره أو شرفه].
أفادت دار الإفتاء: بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فبَثُّ ونَشرُ "اليوتيوبرز" المقاطع المصورة عن تفاصيل حياتهم الشخصية لهم ولأسرهم لزيادة التفاعل –تعليقًا أو مشاركةً أو إعجابًا- حولها؛ إن كان مما يصح إطلاع الغير عليه فلا مانع منه شرعًا، وإن كان مما لا يجوز للغير الإشعار به مما يُعَيَّب به المرء؛ فنشره عَمَلٌ محرَّم شرعًا، وهو مُجَرَّم قانونًا أيضًا؛ وذلك لما فيه من إشاعة الفاحشة في المجتمع، وهي جريمة أناط بها الشرع الشريف عقوبة عظيمة؛ إضافة لما يحويه هذا النشر بهذه الكيفية من التعارض الكلي مع حَثِّ الشرع الشريف على الستر والاستتار.