في ذكرى ميلاده.. إبراهيم أصلان يصف لقائه الوحيد بالعقاد في "خلوة الغلبان"
تاريخ النشر: 3rd, March 2024 GMT
تحل اليوم الأحد ذكرى ميلاد الكاتب والروائي الراحل إبراهيم أصلان، الذي يعد واحدا من الكُتاب البارزين من جيل الستينات الذي كتب عددا من الروايات لا تزال عالقة في أذهان القراء حتى الآن ، ومنها ما تحول إلى أفلام سينمائية وأشهرها "مالك الحزين" التي تحولت إلى الفيلم السينمائي الشهير "الكت الكات" لمحمود عبدالعزيز.
وكان من ضمن كتب إبراهيم أصلان كتابه "خلوة الغلبان" الذي يتضمن عددا من المقالات له حكي فيه عن لقائه الوحيد الذي جمعه بالأديب عباس محمود العقاد في قال له تحت عنوان" لقاء وحيد مع العقاد" فقال أن العقاد يمثل بالنسبة له حالة من حالات الرعب الذي لا ينتهى ، حتى بعد أن قرأ له بعضا من أعماله دون أن يتحول إلى واحد منقرائه المولعين، ولا الكارهين .
فلقد حدث أننى الآخر لم أحصل إلا على الابتدائية القديمة، ثم كنت أروح وأرجع أمام الأهل والأصدقاء محملا بمزيد من الكتب مما جعلنيمعرضاً بين حين وآخر إلى سماع هذه العبارة المؤذية :حضرته فاكر نفسه العقاد، وهكذا تحول الرجل الذي مثل مع طه حسين جناحي الأسطورة التي هیمنت على حياتنا الفكرية والروحية إلى هولة رهيبة لا فضيلة لها إلا الزراية بي. وكان أبي عندما تأتى سيرة العقاد، يقول وهو قاعد على الكنبة
يعبث بمسبحته :"یا بای. ده جبار" مع أنه - رحمه الله - لم يكن قد قرأ له حرفًا واحداً ، ولكن ذلك زمن كان الكتاب يتحولون فيه إلى جمل من المعاني الكبيرة التي تكتسب حياتها المستقلة عن حياة أصحابها والتي تشيع بين الناس وتؤثر فيهم أكثر مما تؤثر كتاباتهم ذاتها .
ذكر أصلان أنه لم يكن قد رأى العقاد حتى كان يوم من أيام ١٩٦٣، فكنت في زيارة الصديق والكاتب الراحل ضياء الشرقاوى بشركة الأسمدة التي كان يعمل بها في عمارة الإيموبيليا)، وما أن غادرته وتقدمت في شارع شريف ، حتى فوجئت بالعقاد يأتي على الرصيف عينه، وأمامي تسمرت في مكاني استوعبته كله دفعة واحدة : القامة المديدة، والبدلة الفاتحة المقلمة ، والنظارة، والكوفية الرفيعة الطويلة والطربوش القصير المائل هل كان يرتدى الطربوش حقا أم أن خيالي هو الذي يضيف الآن؟، ومثل كل أسطورة جليلة يمكن لها أن تدب على قدمين، احتل هو الإطار المهيأ له في روحي احتلالا كاملا، دون زيادة ولا نقصان. وعندما اقترب وواجهنی، رفعت وجهي ورأيت العينين الصافيتين، ولما عبرني استدرت ومشيت وراءهن تملكني الإحساس، وأنا أتبعه، أن العقاد لو كان أطول من ذلك، أو أقصر، بإصبع واحدة، لما أمكن له أن يكون العقاد أبدا .
وتابع أصلان قائلا: لم يمر وقت حتى توقف أمام واحدة من المكتبات الصغيرة التي تباعدت مداخلها على رصيف نفس الشارع .
ولم تكن هناك كتب معروضة، بل أدوات كتابية على أرفف من الزجاج النظيف المعلق، رأيته ينحنى وهو على مبعدة من عتبة المكتبة، بسبب طوله ، ويتأمل قلما في علبة مفتوحة على واحد من هذه الأرفف، فعل ذلك لفترة ثم مد يده إلى جيب سترته الداخلي وأخرج قلمه، وانحنى أكثر وهو يمسكه بين يديه ، تأمله هو الآخر، وعاد يتأمل القلم المعروض، واستغرق طويلا في المقارنة بين القلمين.
يقول أصلان : اقتربت وجلاً وقد ظننته وجد قرينا لقلمه، ووقفت على بعد خطوتين عن يمينه، ورأيت القلم المعروض، ورأيت القلم الذي بين أصابعه، واستغربت لم يكن هناك وجه للشبه أو المقارنة ،لا في الحجم، ولا في اللون.
هكذا وقفت ساكنا أحدق في الأدوات المعروضة شأن أي زبون آخر وشعرت أنه أحس بي دون أن يلتفت حينئذ ألقى نظرة أخيرة بين القلمين، وأعاد قلمه إلى جيبه وهو يعتدل، ويبتعد أمامي متمهلا على
الرصيف العريض، ويستدير هناك مع ناصية المبنى الكبير، ويختفى مضت شهور قليلة، ومات .
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: إبراهيم أصلان عباس محمود العقاد العقاد
إقرأ أيضاً:
معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية في مضارب الكبابيش
عبد الله علي إبراهيم
1. قال لي حسن نجيلة اندمج بينهم تنجح
في ١٩٦٦ انتدبتني شعبة أبحاث السودان بكلية الآداب جامعة الخرطوم (معهد الدراسات الأفريقية) لعمل ميداني لنيل درجة الماجستير عن تراث شعب الكبابيش الرحل حتى ناظرهم. وأراد مدير الشعبة، أستاذنا بروف يوسف فضل حسن، أن يردف بهذا الشغل في أدب الكبابيش عملاً أنثروبولوجياً كاد طلال أسد (ابن محمد أسد العالم الإسلامي المعروف من منيرة حسين الشمري السعودية) أن يفرغ منه للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة هل ببريطانيا. وصار طلال نجماً أكاديمياً ثاقباً في الولايات المتحدة ذا كتابات في العلمانية لا مهرب منها. ومن أسف أنه لم يعد لمباحثه عن السودان بعد نشر كتابه "عرب الكبابيش" (١٩٧٠).
وما وقع التكليف عليّ حتى كان لقاء المرحوم حسن نجيلة، المعلم، أول مهامي لأفهم منه عن العالم الذي سيطرقه هذا الفتى المديني ممن اقتصرت علاقته ب"العرب، البادية" على التربص بهم في شارع المدينة ومشاغبتهم. وكان كتاب نجيلة "ذكرياتي في البادية" قد صدر وقتها وأشعل خيال الجيل عن أمة منا وليست فينا.
فسعيت إليه في ٢٧ نوفمبر ١٩٦٦ في مكتبه بصحيفة الرأي العام التي عمل فيها بعد تقاعده. وسألته فأجاب بسخاء. كان رحمه الله واحداً من أشرق أبناء جيله. ولا أعرف من ساقنا مثله بكتابه "ملامح من المجتمع السوداني" إلى أن نرتع في عشرينات الوطن وثلاثيناته مثله.
حواري معه:
سؤال: ما منزلة الغناء عندهم؟
• يطغى على كل أجه الحياة. خلال بناء المنازل بواسطة النساء. في ورود الماء. في لقيط القرض. في تقديم المعزات للرعي. وغناء خلال نشل الماء، وحين يجلس الرجال للشراب.
• -وأماكن رقصهم؟
• في الأعياد.
• الأغاني؟
• لهم غناء رقيص. وغناء هسيس. ودلوكة، ودوباي على ظهور الجمال.
سؤال: ما يضايق الكباشي في المدينة؟
• كيف يقضي الحاجة. فلا يطيق الكنيف ويراه قذراً. فيركب جمله كي يقضي حاجته. كما يضايقهم الأكل. فلا يحبون الأكل في المطاعم. فشراء الأكل عيب. فيشترون التمر بدلاً عنه. وأكلهم الدخن وإدامهم لحم شرموط.
سؤال: ما هي جوانب الحياة التي يسعدون بها؟
• النشوغ (وهو موسم بدء الخريف والرحلة) وهو موسمهم المثالي. وله تمجيد في أغانيهم. فحسهم بهذه الرحلة رفيع القدر ومحبب.
سؤال: ما زينتهم؟
• يحبون الريحة بنت السودان والصابون المعطر.
سؤال: ما انطباع الكبابيش عن مدرستك التي أقمتها بينهم؟ (كانت أوفدته مصلحة المعارف في الثلاثينات ليفتح مدرسة في فريق الشيخ علي التوم، النوراب، تترحل معهم(.
• المدرسة حيرتهم فهي خلوة وما خلوة. فالجديد فيها السبورة على شجرة أو حائط. وللتلاميذ كراسات بدل ألواح الخشب. وأقلام الرصاص والريشة والحبر. وباقي المظهر خلوة. وكانوا يتحلقون حولنا أحياناً يسمعون ما نردده في دهشة.
سؤال: من الفقراء بينهم؟
• أغلب الكبابيش على طريقة إبراهيم الكباشي ومن هؤلاء الشيخ علي التوم. وبعضهم على طريقة راجل أم مرح. ولا تجد بينهم طقوس الصوفية المعروفة. كما أن الزار غير معروف بينهم.
سؤال: من رواة التاريخ بينهم؟
• كان إبراهيم الفحيل. وقد توفي. وقد أخذ عنه المؤرخ محمد عبد الرحيم. وبعث مفتش دارفور (من كان المؤرخ محمد عبد الرحيم ضمن موظفيه) ما كتب المؤرخ إلى مفتش الكبابيش والناظر على التوم. وراجعته عليهم. وهو مرجع هام. (لاحقاً وجدت أن الفحيل تحدث إلى مفتش ما ونشر الحصيلة في مجلة السودان في رسائل ومدونات).
سؤال: هل توجد مجموعات بأغان الكبابيش؟
• جمع خواجة اسمه وات جملة منها وعرضها عليّ للمراجعة. ولمحمد التوم التجاني (معلم ووزير للتربية في دولة نميري) بحث في تحليل أصول اللهجة الكباشية احتفظ بنسخة منه.
• ما صدى كتابك "ذكرياتي في البادية" بينهم؟
• سعدوا به. ودعوني لتكريمي في مهرجان قبلي. ونشروا هذا في جريدة "كردفان". وتخلفت. شعرت بخجل أنه ربما يساء فهم حضوري المهرجان.
ونصحني في نهاية اللقاء بالاندماج التام في الحياة البدوية بلا ترفع. فهنا يكمن في رأيه ما أصيبه من نجاح وسطهم.
وهذا نصح كتب فن العمل الميداني ذاته. فتراني مثلاً لبست القميص والتوب طوال اقامتي بينهم.
ibrahima@missouri.edu