(6-6)
د. قاسم نسيم
ونصل اليوم إلى المقالة الأخيرة عن هذا الكتاب، وما نكاد نوفيه، إنما عملنا هنا إضاءات هنا وهناك، تعين القارئ على إدِّراك فحوى الكتاب. يرى المؤلف أن الحدود الإقليمية للسودان الإنجلو مصري رسمت على الخرائط قبل أن يكون لدى الحكومة فهم واضح للجغرافيا والطبغرافيا والديمغرافيا، حيث أن هذه المسائل جوهرية في ترسيم أي حدود، وإن كان قد روعيت لما ذهب الدينكا لكردفان، ولما رسم نهر كير/ بحر العرب منطقة رعي للرزيقات، ويردف قائلًا يمكن السماح للرزيقات أو أي قبيلة أخرى بالرعي في أرض الدينكا، دون رسم حدود للرعي، شريطة أن يكون هناك اتفاق مجتمعي لشرعنة الممارسة، ويمضي بالقول: إن جهل الإدارة الاستعمارية بالجغرافيا والطبغرافيا لأهل السودان خلق أزمة سياسية بعد الاستقلال.

وفي عملية نقل السلطة إلى السودانيين سنة 1955 لم توضع في الاعتبار قضايا الصراعات المختلفة التي ستتسبب في المشاكل، فلم يتم القيام بأي مسوحات على الأرض. ويضيف إن تنقيب واكتشاف البترول ضاعف من المشاكل على الحدود بين الشمال والجنوب، فقد جعل هذا الأمر الحكومات في الخرطوم تغير من الحدود نحو الجنوب، كلما كانت حقول النفط في الجنوب، ويردف أن التنقيب عن البترول في أبيي هو سبب النزاع في المنطقة مما جعل الوصول إلى حل بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية مستحيل.
الفصل السابع: وهو عبارة عن دراسة تطبيقية حول دينكا ملوال والرزيقات، في هذا الفصل أجرى المؤلف دراسة تطبيقية عن تأثير السياسات الإثنية التي تمارسها الحكومات المتعاقبة ضد المجتمعات في الجنوب والشمال، متخذًا دينكا ملوال والرزيقات كحالة، وقد استخدمت الدراسة التطبيقة استبانة شملت أسئلة عن أسباب الصراع ، الحلول المقترحة، نتائج الاستفتاء، ومدى فرضية احترامها.
وخلصت الدراسة إلى أن غالب رأي الرزيقات هو أن غياب التنمية هو الذي يقف خلف النزاعات، وأن توفير المشاريع التنموية سيساهم في تخفيف حدة هذه النزاعات، بينما يرى مجتمع دينكا ملوال أن أسباب الصراع سياسية، وأن الانفصال هو الخيار لوضع حد للنزاعات.
الفصل الثامن: تمظهرات سياسة التمييز الإثني، كما جرى التكهن بها: تنبأ الكاتب أن أكثر من 94% من الجنوبيين سيصوتون للانفصال، وهو ما تحقق بزيادة طفيفة؛ إذ بلغت نسبته 98%، والنبوءة الثانية أنه سيكون ثمة صراع حدودي بين السودان وجنوب السودان بعد الانفصال، حدث هذا أيضا، في أبيي وفانطو، وراجا سنة 2012 ، وتنبأ ثالثا أنه سيكون هناك صراع إثني داخليا بين السودانيين الجنوبيين، وقد حدث هذا سنة 2013. وثمة نبوءة رابعة إشار إليها المؤلف بطرف خفي، وهي أنه ستطال السودان تغيرات أو انقسامات، إن ظل على ما هوعليه من صراع الهويات، وهي ما نعيشه اليوم من حرب، لا يدري إلا الله مآلها.
تحت عنوان العقبات التي وضعها حزب المؤتمر الوطني، تحدث الؤلف عن استخدامه لمجموعات جنوبية مسلحة متحالفة معه لزعزعة استقرار عملية الاستفتاء، وكيف استطاعت حكمة الجنوبيين تجاوزها، وقد تناول الفصل الحرب الأهلية بالتفصيل
كان الكاتب شجاعا في تناوله الأحداث بعد الانفصال، ووجه نقدا للمكونات الجنوبية واتهمها بتكرار ما حدث بين الشمال والجنوب في مجال التمييز الإثني.
في تناوله الصراع الحدودي بين السودان وجنوب السودان- وكان قد تنبأ به-ذكر أن اتباع المنطقة إلى كردفان سنة 1905كان لصعوبات إدارية، وطالبت الحركة الشعبية بضمها بقرار إداري في مفاوضات السلام، لكن الحكومة رفضت المقترح، وحسم الأمر بالنص على إجراء استفتاء لدينكا نقوق ، ويرى أن صمت اتفاق مشاكوس عن وضعية المناطق الثلاث (أبيي، جبال النوبة، النيل الأزرق) عزز موقف الحكومة السودانية.
في خلاصته خلص الكتاب إلى: أن القضايا المجتمعية بين دينكا ملوال والرزيقات، ومشاكل الرعي تم استغلالها من قبل السياسيين، وتم تحويلها إلى صراع على مستوى الوطن من الطرفين، لكن ذات القضايا ساهمت في حدوث صراع في جنوب السودان لاحقًا. وأن الصراع بين دينكا ملوال والرزيقات بدأ كتنافس حول الموارد، فتناوله السياسيون لتحقيق مرام سياسية، فجذب الفاعلين الدوليين. وأكد أنه لم يكن للدين دور في الصراع في الماضي، لكن صار دوره محوريا بعد الاستقلال، وأن الإنقاذ زادت من دوره، وأن كثيرا من مجتمع دينكا ملوال يعتقد أن الجنوب تم دفعه دفعا للانفصال من قبل الأصوليين الإسلاميين، ويخلص إلى أن الانتماء الإثني له دور في الحصول على المكاسب السياسية، وأن التوتر الزائد بشأن قضية الحدود حديث عهد مع أن قضية الحدود قضية قديمة، وصارت أكثر أهمية بعد ظهور البترول.
دعا الكتاب إلى اصطناع هوية جنوبية غير تقابلية، وهي دعوة لإعمال فكر المثقف الجنوبي لاصطناع هوية سودانية جنوبية لا تعرِّف الجنوب تعريف تقابلي أي أنهم أفارقة مسيحيون في مقابل الشمال العربي المسلم، وأظن أن الهوية التقابيلة كان لضرورة مرحلة ولن تصمد الآن وقد استقل الجنوب وانهدم التقابل. هذه دعوة كأنها تنظر لدعوة السودانوية للبطل علي عبد اللطيف، وعندي أنها تكون مستقلة كل الاستقلال عن هوية الشمال الذي سقطت هويته المصطنعة الآن ، بل سيتأسس على هوية جديدة، تشبه تلك التي كان ينادي بها دعاة التحرر الوطني، بالتالي سيغترف السودان الآن مما سيصطنعه مفكرو الجنوب، سيكونون له مصدر إلهام، كما كانت تلعب مصر هذا الدور، وهذا أمر سيسري أيضا في قضية الثقافة والأدب.
ذكر المؤلف أن العروبة والإسلام أو (الهوية العربية الإسلامية) التي تبنتها الأنظمة الحاكمة في السودان كانت وراء اختيار الجنوبيون للاستقلال، كان الجنوب رؤوفا بنا إذن حينما نادى بهوية سودانية جامعة، هذه السياسة التنافسية حفزت قادتنا على استجلاب عرب غرب إفريقيا لتعزيز العروبة في السودان، فطمعوا في حكمه، فكانت هذه الحرب. بالتالي لكي يستقر السودان عليه تبني ذات السياسات التي نادى بها الجنوبيون سابقا، وتسري الآن فيه، فانظر كيف خسر السودان وأعسر لكي يصل إلى هذه النقطة.
والكتاب يعد دراسة جادة شاملة للصراع الذي وقع بين جنوب السودان والمركز، بين أسبابه ومساراته التي أدت إلى الانفصال، والتملي فيه قد يعصم الوطن من حدوث صراعات أخرى تؤدى إلى ذات المصير خاصة وأنه ما تزال بؤرٌ منه تعيش صراعات مشابهة لذلك الصراع.انتهى.

gasim1969@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

خبراء دوليون يحذرون: 755 ألف شخص يواجهون المجاعة خلال الأشهر المقبلة في السودان

حذر خبراء دوليون في تقرير صدر اليوم الخميس من أن "755 ألف شخص يواجهون المجاعة خلال الأشهر المقبلة وسط اشتباكات شرسة في السودان" بين الجيش وقوات الدعم السريع.

الأمم المتحدة تكشف عدد اللاجئين السودانيين المهجّرين إلى تشاد

وجاءت أحدث النتائج ضمن تقرير "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي"، وهي مبادرة أنشئت لأول مرة في عام 2004 أثناء المجاعة في الصومال والتي تضم الآن أكثر من اثنتي عشرة وكالة تابعة للأمم المتحدة وجماعات إغاثة وحكومات وهيئات أخرى.

وقال التقرير إن "8.5 مليون شخص يواجهون نقصا حادا في الغذاء بعد 14 شهرا من الصراع في السودان".

وأضاف أن "الأشخاص الذين يواجهون أعلى مستوى من المجاعة في الأشهر المقبلة يتواجدون في 10 محافظات بينها الخرطوم ودارفور وكردفان وولايتي النيل الأزرق والجزيرة". 

وأشار التقرير إلى أنه: "لم يتسبب الصراع في نزوح جماعي وتعطيل طرق الإمداد وأنظمة السوق والإنتاج الزراعي فحسب، بل أدى أيضا إلى صعوبة الوصول إلى المساعدات الإنسانية الأساسية مما أدى إلى تفاقم الوضع المزري بالفعل".

ومنذ 15 أبريل 2023، تتواصل اشتباكات عنيفة وواسعة النطاق بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في مناطق متفرقة بالسودان، حيث يحاول كل من الطرفين السيطرة على مقار حيوية.

وأسفر الصراع المدمر عن مقتل "أكثر من 14 ألف شخص وإصابة 33 ألفا آخرين" وفقا للأمم المتحدة، لكن نشطاء حقوق الإنسان يقولون إن "عدد القتلى قد يكون أعلى من ذلك بكثير".

وصرحت منظمة الهجرة الدولية قبل أيام بأن "أكثر من 10 ملايين شخص قد نزحوا داخل وخارج السودان منذ 15 أبريل 2023".

وقال خبراء حقوق الإنسان العاملون لدى الأمم المتحدة إن "كلا الطرفين المتحاربين استخدما الغذاء والجوع كسلاح حرب".

المصدر: "أسوشيتد برس"

 

مقالات مشابهة

  • خبراء دوليون يحذرون: 755 ألف شخص يواجهون المجاعة خلال الأشهر المقبلة في السودان
  • تعليق مهم للجامعة العربية بشأن حرب جنوب لبنان
  • المرصد الدولي للجوع: السودان تواجه أسوأ مستويات النقص الحاد بالأمن الغذائي
  • د. عنتر حسن: صراع في غير معترك!!!
  • دراسات توضح أسباب أزمة انقطاع الكهرباء وتداعياتها على العالم.. بينها روسيا وأمريكا
  • صدور كتاب جديد للدكتور سمير مراد
  • وزير الري ونظيره الجنوب سوداني يفتتحان مركز التنبؤ بالأمطار في مدينة جوبا
  • وزير الري ونظيره الجنوب سوداني يبحثان موقف مشروعات التعاون الثنائي بين البلدين
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «3- 5»
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (3- 5)