أخبارنا:
2024-10-05@13:38:28 GMT

هل ستزول الغيوم بين تونس والرباط؟

تاريخ النشر: 3rd, March 2024 GMT

هل ستزول الغيوم بين تونس والرباط؟

بقلم: نزار بولحية

ربما يلوح مدّ الجسور مجددا بين المغرب والجزائر عملية معقدة وشاقة، لكن هل يمكن أن ينطبق الأمر نفسه على المغرب وتونس؟ وهل من الوارد في تلك الحالة أن يتكرر، وربما في وقت وجيز، مشهد شبيه إلى حد ما بذلك الذي حصل في الأيام التي كانت فيها علاقاتهما مقطوعة، على خلفية وقوف تونس مع استقلال موريتانيا، وأشار له السياسي المخضرم عبد السلام القلال في كتابه «الحلم والمنعرج الخطأ» حين تحدث عن تفاصيل .

زيارة وفد تونسي في تلك الفترة إلى العاصمة المغربية، بعد كارثة الفيضانات التي أصابتها ليتقدم إلى ملك المغرب بخالص عبارات المواساة قبل أن يقول له رئيس الوفد: «أخوكم فخامة الرئيس يدعوكم إلى وضع حد للجفاء، الذي اتسمت به العلاقات المغربية التونسية وإرجاع هذه العلاقة لما كانت عليه حتى نواصل التعاون من أجل بناء المغرب العربي الكبير»، فيرد العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني فورا ومن دون تردد: «سلم على والدي وقل له إني على استعداد لذلك، وقد طويت الصفحة وإني في انتظار سفيره في الرباط وسأفعل بالمثل»؟ أم أن تلك الأيام الخوالي مضت، ولم يعد كافيا اليوم لذوبان الجليد وتطويق أي نزاع، أو خلاف بين بلدين عربيين، حتى لو كان بسيطا ومحدودا، تعبير قائد أو زعيم للآخر عن أي مشاعر أو أحاسيس ودية أو أخوية نحوه أو نحو بلاده؟

المؤكد أن عدة عوامل باتت تتحكم في الأفعال وفي ردود الأفعال كذلك. كما أن الأوضاع الداخلية والإقليمية وحتى الدولية، والحسابات والتوازنات والخيارات السياسية صارت تفرض أحيانا إكراهات قد تزيد من حدة التعارض والاختلاف بشكل أكبر مما كان عليه الحال في السابق. والثابت وسط ذلك كله، أن الوضع الحالي للعلاقات بين العاصمتين التونسية والمغربية لا يسر التونسيين ولا المغاربة على السواء، لأنه يبدو شاذا وغريبا، بل حتى غير مسبوق في تاريخهما المعاصر. فمع أنها لم تُقطع تماما مثلما حصل خلال حقبة قصيرة نسبيا في الستينيات، إلا أنها فقدت ومنذ عام ونصف العام نسقها الاعتيادي والطبيعي، إذ لم يعد السفيران المعتمدان في البلدين إلى الآن إلى بعثتيهما الدبلوماسيتين في أعقاب استدعائهما للتشاور في أغسطس من العام قبل الماضي، كما أن اللقاءات الثنائية الرسمية بين المسؤولين التونسيين والمغاربة تكاد تكون منعدمة بالكامل.

من الواضح أنه مع مرور الوقت، فإن تلك الحالة باتت تطرح نقطة استفهام كبرى حول ما إذا كان بقاء الباب مواربا بين الجانبين سيتيح لهما، في غضون الأسابيع وربما الشهور القليلة المقبلة فتحه مرة أخرى من جديد، أم أنه سيجعلهما يمضيان قدما نحو غلقه بالكامل؟ وليس معروفا إن كانت المساعي أو المحاولات التي بذلت أو تبذل لتقريب وجهات النظر بينهما تسير الآن في الاتجاه الصحيح، أم أنها تواجه بعض الصعوبات والعراقيل التي تحول دون تحقيق النتيجة المطلوبة؟ ولكن اللافت أنه لم يصدر عن الجانب المغربي أي تفاعل مع أقوى إشارة صدرت عن تونس في أكتوبر الماضي، وجاءت في سياق حديث أجرته صحيفة «الشروق» شبه الرسمية مع السفير نبيل عمار، الذي عينه الرئيس قيس سعيد قبلها بفترة قصيرة، على رأس الدبلوماسية التونسية. لقد سألت تلك الصحيفة عمار في آخر حديثها معه السؤال المباشر التالي: بين تونس والمغرب الشقيق لا العلاقات مقطوعة ولا هي عادية… فمتى تعود المياه إلى مجاريها؟ وكان رده هو أن أجاب وبشكل مجتزأ ومتقطع بأنه «ليست هناك قطيعة مع المغرب الشقيق.. وليست هناك عداوة.. بالوقت سيعود السفيران إلى سفارتيهما… كلانا، أطمئن الجميع، لا نلتفت إلى الوراء.. تونس لم تغير موقفها منذ عشرات السنين.. المهم ليس هناك قطيعة بيننا وبين المغرب». غير أنه وبعد أربعة أشهر من ذلك التصريح لم يظهر في الأفق أي جديد، فهل كان الحد الأدنى الذي وضعه المغاربة لطي صفحة ما اعتبروه في ذلك الوقت «عملا خطيرا وغير مسبوق يجرح بشدة مشاعر الشعب المغربي»، وهو استقبال الرئيس قيس سعيد لزعيم البوليساريو إبراهيم غالي بمناسبة احتضان العاصمة التونسية لقمة «تيكاد» الافريقية اليابانية الصيف قبل الماضي أكبر بكثير من تلك الكلمات المبهمة والغامضة التي قالها عمار؟ وهل كانوا ينتظرون عبارات واضحة ودقيقة تشير مثلا إلى أن تونس لا تعترف بالبوليساريو، وأنها لم تغير موقفها من قضية الصحراء، الذي يقوم على الاحتكام إلى الشرعية الدولية، وحل النزاع بالطرق السلمية، وفقا لقرارات مجلس الأمن؟

من المؤكد أن حسابات عديدة حكمت ذلك التصريح، فالتوقيت كان محسوبا بدقة والدبلوماسي التونسي كان واعيا أيضا بأن أي تأويل محتمل لما قاله على أنه سعي أو محاولة من جانب بلاده لإرضاء الرباط، كان سيعني على الفور إثارة غضب الجارة الجزائر، وهو ما يتحسب المسؤولون التونسيون جيدا من وقوعه، لكن هل يعني ذلك أنه بات على التونسيين اليوم أن يختاروا بين أمرين لا ثالث لهما، وهو إما التضحية بعلاقاتهم مع الجزائر، وإما التفريط في علاقتهم مع المغرب؟ إن الخيارات والتوجهات التي انخرطت فيها بلادهم منذ ما يقارب الثلاث سنوات تجعل الأمر بالنسبة لهم على درجة بالغة من الصعوبة والتعقيد. فقد وضعوا الجزء الأكبر من بيضهم في السلة الجزائرية، وبات هامش تحركهم بالتالي داخل الإقليم ضيقا ومحدودا، وصارت أي محاولة من جانبهم للخروج عن الخط الذي يتعارض مع سياسات جارتهم الغربية غير ممكنة، بل حتى شبه مستحيلة. ولا شك في أن المغاربة يدركون ذلك جيدا، ويعرفون أنه لن يكون بمقدور الدولة التي ربطتهم بها علاقات وثيقة قبل إعلان استقلال البلدين في سنة واحدة، وبعده وبحكم عدة عوامل أن تقوم الآن على الأقل، بانعطافة حادة في سياستها الخارجية، وأن تتجاهل التبعات التي قد تترتب عن ذلك. وهنا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل يمكن لهم أن يتوصلوا إلى حل وسط، أي إلى صيغة يقبل بها المغرب ولا تثير في الوقت نفسه اعتراض أو قلق الجزائريين؟ إن اعترافا تونسيا بان استقبال زعيم البوليساريو كان خطأ دبلوماسيا فادحا، وتقديم اعتذار عنه للرباط يبدو في نظر الرئيس سعيد غير وارد. غير أن خروج تونس عن موقف الحياد في نزاع الصحراء يبدو بدوره الان غير ممكن، خصوصا مع التحولات المهمة التي يعرفها الملف بعد الاعترافات الدولية والإقليمية بمغربية الصحراء. ولعل هناك من سيقول بعدها إن كان الإسبان والألمان والفرنسيون قد جاؤوا إلى المغرب وقدموا له وبأشكال مختلفة نوعا من الاعتذار عن بعض المواقف السابقة التي أخذوها في حقه فما الذي يمكن أن يجعل الرباط إذن لا تتوقع أو تترقب خطوة مماثلة من جانب التونسيين؟ لكن إن كان المغرب قد مد يده مرات للجزائر فما المانع من أن يمدها الآن ولو لمرة واحدة إلى تونس؟

كاتب وصحافي من تونس

المصدر: أخبارنا

إقرأ أيضاً:

مجزرة قيس سعيد القانونية في تونس.. هل من أمل في انتخابات الغد؟

الآن، وقد صادق مجلس نواب الشعب في تونس على تعديل القانون الانتخابي، على الرغم من كل المواقف والاحتجاجات الميدانية لمعارضين ومحامين وقضاة وإعلاميين وسياسيين وقسم من المواطنين، ممن بدؤُوا يستشعرون بعض الخطورة في تغيير القانون الانتخابي قبيل الذهاب إلى مراكز الاقتراع.

الآن، وقد انتهى رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، إلى ما كان يرغب فيه، وهو سحب صلاحيات المحكمة الإدارية في البتّ في النزاعات الانتخابية بشكل مستقلّ ومحايد، وإحالتها إلى القضاء العدلي من خلال محكمة الاستئناف، لاستثمار ما يصفه معارضوه بـ"قضاء التعليمات"، وقطع الطريق أمام تمرير أي محاولة للطعن في نتائج الانتخابات المقبلة المقررة يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول، وفق ما صرح النائب بالبرلمان، يوسف طرشون، قائلًا: "تسريع هذا القانون (القانون الانتخابي) يأتي لحماية الدولة بعد التهديد بإبطال نتائج الانتخابات والطعن فيها"، وهي – لعمري – بدعة برلمانية؛ لأنّ الطعن في نتائج الانتخابات جزء من المسار الانتخابي، وإحدى آليات الصراع الديمقراطي.

الآن، نجح الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في هذه "المجزرة القانونية"، كما أطلق عليها أستاذ القانون والمحامي عبدالوهاب معطر، الوزير السابق، في إشارة إلى تعديل القانون الانتخابي بهذا الشكل "المتعسف"، كما يصفه البعض، واستطاع "أن يستقوي على خصومه بواسطة المؤسسة التشريعية المنتخبة (البرلمان)"، كما قال المحامي، الأستاذ سمير ديلو، في سابقة هي الأولى من نوعها في تونس، على الأقل منذ ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011.

والآن أيضًا، ولعلّ هذا الذي لا يقال ولا يراد له أن يكون جزءًا من التحليل السياسي للوضع التونسي، يستثمر الرئيس سعيّد، أيما استثمار، في ضعف خصومه وتشتّتهم وتنازع رؤاهم في عديد القضايا، وهو يستثمر بشكل واضح وبقوة أيضًا في ترهّل عديد المؤسسات السياسية، بدءًا بالقضاء، ومرورًا بالهيئات النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، ووصولًا عند ما يعرف بـ"المجتمع المدني"، من منظمات وجمعيات، بلعت ألسنتها، وخفت بريقها، وتراجعت إلى الصفوف الخلفية.

يضاف إلى ذلك الأحزاب والمكونات السياسية، التي تشهد حالة من الانقسام والوهن، ووضعًا بائسًا من المواقف والخيارات والعلاقات والتحالفات، وانقلاب المواقف، إلى حدّ أن المرء لم يعد قادرًا على التمييز بين ما هو مبدئي وما هو تكتيكي؛ بسبب تلوّن بعض هؤلاء كالحرباء، بحيث يغيّرون مواقفهم مثلما يغيّرون بذلات السموكينغ لديهم.

استحقاق انتخابي باهت

في هذه الأوقات التي تفصل البلاد وشعبها عن اقتراع رئاسي هام بكل المقاييس، وبجميع الحسابات، لا يبدو الوضع السياسي والإعلامي في البلاد يشي بوجود استحقاق انتخابي تتهيّأ له تونس.

فلا نقاشات بشأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي ازداد بؤسًا عما كان عليه في الفترة التي سبقت هيمنة القصر الرئاسي على دواليب الدولة، ولا صراع برامج بين المرشحين لـ "الرئاسية"، ولا حوارات إعلامية، من نوع تلك التي كانت سائدة في المشهد التونسي خلال العشرية السابقة، بين المرشحين وأحزابهم ومثقفيهم وسياسييهم، في تنافس، كانت الفعاليات والمِهرجانات الانتخابية تعكسه بوضوح، ويجلب اهتمام الإعلام الدولي، والنخب العربية بشكل لافت لا غبار عليه.

حُصّل اليوم ما في الصدور، وبات الرئيس التونسي يتّجه إلى عهدة رئاسية ثانية لا مندوحة عنها: عهدة، لن ينافسه عليها المرشح زهير المغزاوي (حركة الشعب)، الذي تؤكد استطلاعات الرأي أنه في أسفل سُلم نوايا التصويت، ولا المرشح العياشي زمال (رئيس حركة عازمون)، القابع في السجن في مواجهة عشرات القضايا بعنوان: "تدليس التزكيات الشعبية"، وفق التهم الرسمية الموجهة إليه، "باطلًا"، كما تقول هيئة الدفاع عنه.
وأنّى للرجل أن يحصد أصواتًا مؤثرة في المشهد، وهو خلف القضبان؟ فحتى في الدول العريقة في الديمقراطية، لم يحصل هذا البتة، فما بالك في بلد يسجل نكوصًا ديمقراطيًا منذ 3 سنوات؟

لن تكون بيعة للرئيس الحالي، قيس سعيّد، كما أرادها البعض من مريديه، ولن تكون بنسب تصويت عالية، كما قال السفير الأميركي السابق، غوردون غراي، في تصريح صحفي لافت قبل انطلاق المسار الانتخابي الحالي.. إنها عملية تصويت عادية في وضع غير عادي لمسار يطرح الكثير من التساؤلات.

لكنّ ذلك كله وجه فقط للعملة التونسية الحالية؛ وجه، أقل ما يقال عنه، إنه لا يليق بصورة تونس، والفكر السياسي لنخبها وطبقتها السياسية، ومثقفيها وإعلامييها، الذين كانوا دائمًا مصدر إلهام لعديد النخب العربية، وشكلوا طيلة الخمسين عامًا الماضية نقطة مضيئة في سماء العالم العربي والإسلامي، بفعل الحراك السياسي والقانوني والدستوري الذي أدخلوه على منظومات عربية مختلفة ومتعددة، كانت تنظر إلى هذا البلد الصغير جغرافيًا، على أنه منبع للإبداع الفكري والسياسي.

البلد الذي خرج منه المؤرخ عبدالرحمن بن خلدون، والأديب الكبير محمود المسعدي، والمفكر التحديثي هشام جعيّط، و"فقيه القرآن الكريم" محمد الطاهر بن عاشور، كما يلقب في الأوساط الجامعية والأكاديمية، إلى جانب المفكر الإسلامي راشد الغنوشي (بعيدًا عن التجاذبات السياسية والحزبية من حوله)، والسينمائي الكبير الطاهر شريعة، والمفكر السياسي محمد المنصف المرزوقي، والشاعر الاستثنائي أبو القاسم الشابي، والقائمة طويلة، بالعرض قبل الطول.

تكفي الإشارة في هذا السياق بالذات، إلى كون تونس أول بلد يكتب دستورًا في العالم العربي، ويؤسس جامعة دينية هي الجامعة الزيتونية، ويبعث منظمة حقوقية هي الأولى في أفريقيا، وهي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ويؤسس قبل ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة العربية الأعرق في العالم العربي وأفريقيا)، ويرفع من مكانة المرأة، تشريعًا وثقافة وموقعًا وحجمًا، بصرف النظر عن بعض المتغيرات والتطورات وأخطاء التطبيق، من خلال ما يعرف بـ "مجلة الأحوال الشخصية".

الزائر لتونس اليوم، للأسف الشديد، لا يكاد يعثر على ما يشير إلى هذه الرموز والمعاني والسياقات، بل يصطدم بمعارك "طواحين الريح"، التي لا تنتج سوى موجات سلبية، لا رائحة ولا طعم ولا لون فيها، سوى أنها إعادة إنتاج اللامعنى وتجريف الوعي.

بداية تعافي الجسم القضائي

لكنّ هذا الوجه من العملة التونسية، وإن أنتج حيرة واسعة لدى التونسيين حول مستقبل بلادهم وحول قيمة العيش المشترك، التي دافعت عنها أجيال وأجيال، وهم يرونها اليوم تتفكك، ليس بفعل مطلب سياسي من إحدى المعارضات، إنما بموجب خطاب الدولة والسلطة القائمة، هذا الوجه يخفي وراءه وجهًا آخر شديد الأهمية، وربما كان من الأسباب الرئيسة في نهوض جديد في البلاد.

فقد أبانت الأسابيع الماضية، وخاصة منذ اقتراح مشروع تعديل القانون الانتخابي، عن بداية تحرك صلب الجسم القضائي. بحيث رفضت جمعية القضاة، ونقابة القضاة، والمحكمة الإدارية، بل حتى المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، الذي عيّنه الرئيس التونسي ذاته كبديل عن المجلس المنتخب السابق، رفضوا جميعهم مشروع القانون واعتبروه "لا دستوريًا"، و"منافيًا للعملية الديمقراطية"، كما يشكّل "ضربًا لنزاهة الانتخابات"، و"مساسًا بحق التقاضي" و"الطعن في أحد مسارات العملية الانتخابية، عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة"، في إشارة إلى المحكمة الإدارية، كما جاء في بيان جمعية القضاة، العريقة بين المنظمات التونسية.

وهذه أوّل مرة تحصل منذ الخامس والعشرين من يوليو/ تموز 2021، وهو أمر مهم في سياق الحديث عن "تعافي" الجسم القضائي، الذي عرف تاريخيًا بالولاء للسلطة، أو الإذعان لها، ولإملاءاتها ضدّ خصومها السياسيين.. فهذا الجسم يتخذ اليوم موقفًا لافتًا، ويرفع صوته بـ "لا" الناهية، ضدّ "الأمر الواقع" الذي فرضته السلطة لتغيير "قواعد الاشتباك" بينها وبين المعارضة.

مؤشرات على حالة جديدة:

خروج بعض الفعاليات والمنظمات من قمقم الصمت، خصوصًا المنظمات الحقوقية، وجمعية القضاة، ونقابة القضاة، والمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، والمحكمة الإدارية، والجمعيات الناشطة في المجال الاجتماعي والنسوي والشبابي. وهو خروج مهم من حيث التوقيت، والموقف من السلطة، ومن تطورات المشهد ومآلاته. بداية التنسيق بين الأحزاب، خصوصًا تلك المتناقضة والمتصارعة فيما بينها؛ لأسباب سياسية أو أيديولوجية، حتى إنّ بعضها كان يضع شروطًا للجلوس مع هذا الطرف أو ذاك. صحيح أن هذا التنسيق ما يزال جنينيًا، لكنه مؤشر على إمكانية تطوره خلال المرحلة المقبلة. عودة الشباب التونسي للساحات مجددًا، بعد غياب استمر عدة سنوات، نتيجة تقييمه السلبي لمسارات الثورة ومآلاتها. لقد أظهرت الفعاليات التي نُظمت إلى الآن استماتته الواضحة في الدفاع عن الحريات، وعودة الديمقراطية، ورفض الحكم الرئاسوي. وهي مكاسب دفع هذا الشباب من أجلها الغالي والنفيس، دمًا ودموعًا وذكريات أليمة، وآمالًا كبرى في تغيير ممكن، وفي تونس أخرى. مخاضات داخل المنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل). وإن كانت تبدو بسيطة ومحدودة، إلا أنَّ سياقها والرجالَ الذين يقودونها والرافضين للخطّ الذي تقوده القيادة النقابية الحالية (خطّ التماهي مع السلطة) يؤكدون أن عملية تصويب للبوصلة تجري بطريقة جادّة.

وما يرشح من معلومات من داخل هذه المنظمة الكبيرة والعريقة حول اتجاهات المؤتمر القادم للاتحاد، والذي قد يُنظم بشكل مسبق عن تاريخه العادي، يعبر عن حراك مهم وترجمة لأفق جديد لهذه المنظمة، ومن ثمّ لدورها في السياق السياسي والاجتماعي العام.

ارتفاع منسوب الأصوات السياسية والجامعية التي صمتت منذ "انقلاب يوليو/ تموز" 2021. كانت تلك الأصوات تعتقد أن حالة التصحيح بدأت، لكنّها اكتشفت لاحقًا أن ما حصل كان جزءًا من سيناريو تم إعداده بإتقان للالتفاف على التجربة التونسية، وغلق "القوس الديمقراطي"، والنكوص عن "الثورة التونسية"، وما كانت تحمله من آمال وتطلعات شعبية واسعة.

هؤلاء استفاقوا اليوم لينضمّوا إلى الحراك السياسي المطالب بالكفّ عن حالة العبث بمقدرات الديمقراطية واستتباعاتها القانونية والدستورية والهيكلية، واستئناف التأسيس الجديد لـ "دولة المجتمع والحريات"، كما يصفونها. في إشارة إلى تلازم المسار السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، في عملية البناء الذي كان من أهداف الثورة، وتلاشى لاعتبارات كثيرة خلال السنوات العشر الماضية.

حدوث عملية فرز في المشهد التونسي، اتضح من خلالها "الأصوات المغشوشة" في علاقةٍ بالديمقراطية والحريات وحماية الدستور واحترام القانون. تلك الوجوه التي عملت على إفساد الأوضاع لغايات سياسية وأيديولوجية، ولحسابات حزبية ومصلحية ضيقة. بما يجعل الساحة اليوم تتجه لتحالفات جديدة، ستظهر إرهاصاتها بعد الاستحقاق الانتخابي القادم. وإذا أضفنا إلى ذلك المظاهرات والاحتجاجات التي طفت على السطح خلال الأسابيع الأخيرة، فقد مثلت منعطفًا جديدًا في السياق السياسي التونسي، بل شكلت مصدر إزعاج للسلطة ومكوناتها، وأعطت إشارة لافتة بأن هناك "أجسامًا" لا تموت، وبأن صمتها خلال السنوات القليلة الماضية كان محسوبًا، ولم يكن "صكًا على بياض" كما يقال للحكم ودوائره. بل هو من قبيل "صمت العقلاء"، على رأي الفيلسوف أرسطو، أو "وقفة تأمل"، كما يحلو للمثقفين أن يصفوها.

لقد اختلفت تونس اليوم عن تونس أمس، ما بعد "انقلاب يوليو/ تموز"، بفضل هذا الحراك النخبوي المدعوم شعبيًا، وإن كان بأعداد قليلة لكنها لافتة. فالناظر للمشهد خلال السنوات الثلاث الماضية يدرك أن الحالة قد تغيّرت، وأن المكونات قد تحركت، وأن "إرادة التغيير"، كما يصفها خصوم السلطة، أقوى من أي وقت مضى، سلميًا وديمقراطيًا وقانونيًا وسياسيًا.

يبقى أن العقل السياسي المناهض للحكم يحتاج إلى مشروع سياسي يليق بالمرحلة. ومطلوب منه بناء تراكم نضالي بوتيرة منتظمة، ويحتاج قبل كل ذلك إلى البحث عن مشتركات سياسية عميقة ومبدئية تجعل التغيير إمكانية وليس مجرد إرادة.

فهل ترتقي النخب التونسية، بيسارها ويمينها ووسطها، إلى مقتضيات المرحلة ومتطلباتها، خصوصًا في ضوء التغيرات التي بدأت إرهاصاتها ومؤشراتها في المنطقة بعد اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وما سوف يترتب عنها من تبدلات في موازين القوى والأدوار والتحالفات؟ أم يربح رئيس الجمهورية، ومن خلفه مكونات السلطة والأجهزة، في إخماد هذا الحراك والمضي نحو أفق أعلى، ما يزال مجهول الهوية والأبعاد والمضامين؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الجيش فرض طوقاً أمنيّاً في مُخيّم البداوي... ما الذي يجري هناك؟
  • من هو هاشم صفي الدين الذي يحاول الاحتلال اغتياله؟ (إنفوغراف)
  • مجزرة قيس سعيد القانونية في تونس.. هل من أمل في انتخابات الغد؟
  • من هو هاشم صفي الدين الذي قُتل بغارة اسرائيلية بضاحية بيروت ؟
  • الانتخابات ورؤيا من خارج السرب
  • من هو هاشم صفي الدين الذي زعم الاحتلال استهدافه؟
  • ما الذي قاله قائد أنصار الله عبد الملك الحوثي عن الضربة الصاروخية الإيرانية التي أرعبت “إسرائيل”؟
  • قائد الثورة يكشف تفاصيل حساسة بشأن الهجوم الإيراني على كيان العدو والمواقع التي تم استهدافها وما الذي حدث بعد الضربة مباشرة
  • الطقس غدا قليل الغيوم... والحرارة فوق معدلاتها جبلا وداخلا
  • من هو جعفر قصير الذي اغتالته إسرائيل؟.. صهر حسن نصر الله