لم تضع الحرب الباردة أوزارها في يوم من الأيام على الأقل في نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حسب اعتقاد مؤرخ وباحث أميركي مهتم بعوالم الاستخبارات والجاسوسية.

ولعل أوضح مؤشر على ذلك أن قصر الكرملين ما فتئ يواصل صراعه المرير ضد الغرب حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو ما يتجلى في أنشطة أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية، وفقا لكالدر والتون مساعد مدير مشروع التاريخ التطبيقي ومدير بحوث الاستخبارات بكلية كينيدي التابعة لجامعة هارفارد.

ويقول والتون -في مقاله بمجلة "فورين أفيرز" (Foreign Affairs) الأميركية- إن المخابرات الروسية انخرطت في أنشطتها من حيث توقفت الاستخبارات السوفياتية، وظلت منذ عام 1991 مدفوعة بإستراتيجية "انتقامية" تهدف لجعل روسيا دولة عظمى مرة أخرى والانقلاب على النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة.

ويعتقد الكاتب أن حرب بوتين ضد أوكرانيا ما هي إلا محصلة لتلك الإستراتيجية.


تحالف بلا حدود

أما الصين فتسعى هي الأخرى إلى قلب النتائج التي تمخضت عنها الحرب الباردة بإعلانها "تحالفا بلا حدود" مع روسيا غداة الحرب الروسية على أوكرانيا، ويعول الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ بشدة على أجهزة مخابراتهما من أجل الوصول لتلك الغاية.

وقد فعلت المخابرات الروسية والصينية ذلك لتعزيز أهدافهما مع استغلال "انشغال الولايات المتحدة بالحرب على الإرهاب للإضرار بالأمن القومي الأميركي، وتقويض الديمقراطيات الغربية، وسرقة أكبر قدر ممكن من الأسرار العلمية والتكنولوجية"، على حد تعبير الكاتب.

وطبقا لمقال فورين أفيرز، فإن الاستخبارات الروسية تعتبر نفسها الوريث المباشر لجهاز المخابرات السوفياتية -التي كانت تُعرف في السابق باسم "كي جي بي" (KGB)- حيث انتقل إليها العديد من ضباطه، واستحوذت منه على جميع الملفات وحتى عملائه في الغرب.

وتناول المقال بشيء من التفصيل الأساليب التي استخدمتها الاستخبارات الروسية في إدارة عملاء "كي جي بي" السابقين في الدول الغربية.

وأشار أيضا إلى الدور الذي اضطلع به بوتين عندما كان ضابطا في فرع المخابرات الخارجية السوفياتية، وكيف أن الأمر لم يتطلب جهدا كبيرا لإقناعه بأن حلف شمال الأطلسي (الناتو) -بكل تأكيد- هو "العدو الرئيسي" لموسكو.


عملاء روس

على أن المخابرات الأميركية لم تقف مكتوفة الأيدي بطبيعة الحال، فإثر تدهور الاقتصاد الروسي أواخر تسعينيات القرن الماضي تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) من تجنيد بعض العملاء الروس المهمين الذين "خانوا" رؤساءهم من أجل المال وأعاقوا عمليات للمخابرات الروسية ضد الغرب.

لكن بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن، تعاونت أجهزة الاستخبارات الروسية في بادئ الأمر مع نظيرتها الأميركية في مكافحة "الإرهاب"، إلا أنه وفقا لمسؤولين في "سي آي إيه"، فإن شهر العسل بين الطرفين لم يدم طويلا بعد 11 سبتمبر/أيلول، مما أفسح المجال لحقبة من عداء روسي "مكتوم".

ويمضي المؤرخ الأميركي في مقاله إلى الزعم بأن "عبقرية" بوتين تمثلت في إيهام القوى الغربية بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001 أنه يتعاون معها في مكافحة الإرهاب، بينما كان يستغل مخابراته لتكريس سلطة نظامه "الاستبدادي"، وجعل روسيا قوة عظمى مرة أخرى، وفي سبيل ذلك ظل يدير بلاده على نمط "المافيا العسكرية" مما أحال أجهزته الأمنية والاستخباراتية إلى دولة "فعلية" داخل الدولة.

وعلى الرغم من أن بوتين ظل يروج لنفسه على أنه "جاسوس بارع" -حسب وصف المقال الذي نحن بصدده- فإنه كان مسؤولا في الواقع عن سلسلة من الإخفاقات الاستخباراتية المتلاحقة، ولعل أبرزها فشله في إدراك أن المخابرات الأميركية والبريطانية كشفت خططه الحربية للعالم قبل إقدامه على "غزو أوكرانيا".


مصالح

وعلى غرار روسيا، استغلت الصين أيضا الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على ما يسمى الإرهاب لتعزيز مصالحها. وينقل الكاتب عن ضباط في الـ"سي آي إيه" -ذوي دراية عميقة بالصين- قولهم إن جهاز المخابرات المدنية الرئيسي في بكين المتمثل في وزارة أمن الدولة أعلن الحرب على الاستخبارات الأميركية عام 2005.

ويرى والتون -في مقاله- أن الصين في عهد زعيمها الحالي باتت "اللص الإلكتروني الرئيسي في العالم"، على حد تعبيره، زاعما أنها "سرقت" بيانات شخصية وتجارية من الأميركيين أكثر من كل الدول الأخرى مجتمعة، وفقا لمكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" (FBI).

واستطرد الكاتب قائلا إن مهمة المخابرات الصينية تتمحور حول تنفيذ الإستراتيجية الكبرى للرئيس شي جين بينغ الرامية لجعل الصين القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في العالم، وتغيير المشهد التكنولوجي الراهن بما يجعل الدول الأخرى تعتمد على التكنولوجيا الصينية بدلا من الأميركية.

ويعتقد المؤرخ الأميركي أن أجهزة المخابرات الصينية تتبنى نهجا يقوم على تسخير المجتمع برمته لجمع معلومات استخباراتية باستخدام البالونات وربما قاعدة للتنصت في كوبا.


حرب باردة جديدة

ويمضي المقال ليؤكد أن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قبل انهياره قاما -إبان الحرب الباردة- بجمع معلومات استخباراتية صناعية باستخدام أجهزة الكمبيوتر لاستهداف أنظمة التشفير الخاص ببعضهما بعضا، وانتقلت عمليات التجسس من الأرض وأعماق البحار إلى طبقات الجو العليا (الإستراتوسفير)، ثم إلى الفضاء.

واليوم، تخوض الحكومات الغربية -حسب والتون- حربا باردة جديدة مع روسيا والصين بغية تغيير طبيعة التجسس مرة أخرى.

إن ما تحتاجه الحكومات الغربية أكثر من أي شيء هو الخيال عندما يتعلق الأمر بجمع المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالدول البوليسية "المنغلقة"، كما يرى كاتب المقال.

فيرى والتون أن الخيال هو ما دفع الـ"سي آي إيه" إلى تطوير طائرات "يو-2" (U-2) قادرة على التحليق عاليا واستطاعت التجسس خلف الستار الحديدي للدول المنغلقة عندما تعذرت طرق الجاسوسية الأخرى.

ويخلص المقال إلى تأكيد الحاجة إلى خيال مماثل اليوم في مناطق تعد في طليعة اهتمامات الأمن القومي، بما في ذلك جمع معلومات استخباراتية مفتوحة المصدر، واستخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، "وهذه ستكون أسلحة الحرب الباردة في هذا القرن والتي من شأنها أن تحدد نتائجها".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الاستخبارات الروسیة الولایات المتحدة الحرب الباردة سی آی إیه

إقرأ أيضاً:

وحدة تجسس جديدة تقود حرب روسيا الخفية ضد الغرب

كشفت مصادر استخباراتية غربية أن أجهزة الاستخبارات الروسية أنشأت وحدة سرية جديدة تُعرف باسم "إدارة المهام الخاصة"، والتي تستهدف الغرب بسلسلة من الهجمات السرية عبر أوروبا وأماكن أخرى، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال".

تتمركز هذه الوحدة في مقر الاستخبارات العسكرية الروسية، وهو مجمع ضخم من الزجاج والصلب في ضواحي موسكو يُعرف باسم "حوض السمك".

وتشمل عمليات هذه الوحدة، التي لم يتم الإبلاغ عنها سابقاً، محاولات اغتيال، وأعمال تخريب، ومؤامرات لوضع عبوات حارقة على الطائرات. خلفية إنشاء الوحدة وفقاً لمسؤولين استخباراتيين أوروبيين وأمريكيين وروس، تم إنشاء هذه الوحدة في عام 2023 رداً على دعم الغرب لأوكرانيا. وتضم الوحدة قدامى المحاربين من بعض أكثر العمليات السرية الروسية جرأة في السنوات الأخيرة.
ترى موسكو أن الغرب متواطئ في الهجمات الأوكرانية على روسيا، مثل التخريب الذي طال خطوط أنابيب نورد ستريم واغتيال مسؤولين رفيعي المستوى في موسكو، إضافة إلى الهجمات الأوكرانية باستخدام صواريخ غربية بعيدة المدى.
وقد نفت أوكرانيا تورطها في تخريب خطوط الأنابيب. دور إدارة المهام الخاصة

ووفقاً لمسؤولين استخباراتيين غربيين، تتولى هذه الوحدة، المعروفة بالاختصار الروسي "SSD"، تنفيذ عدد من العمليات، من بينها:
الاغتيالات والتخريب في الخارج.
التسلل إلى الشركات والجامعات الغربية.
تجنيد وتدريب عملاء أجانب.
وتسعى الوحدة إلى تجنيد عملاء من أوكرانيا والدول النامية والدول الصديقة لروسيا مثل صربيا.
كما تدير مركزاً خاصاً للعمليات الخاصة يُعرف باسم "سينيج"، حيث يتم تدريب بعض القوات الخاصة الروسية.

Intelligence officials have identified a new Russian unit, the SSD, responsible for sabotage, assassinations and espionage across Europe and beyond.

SSD was created in 2023 in response to Western support for Ukraine. It is based in Moscow's GRU headquarters. It absorbed Unit… pic.twitter.com/iPNUZXo6Xr

— Clash Report (@clashreport) February 15, 2025 قيادة الوحدة يشرف على عمليات "SSD" كل من الفريق أول أندري فلاديميروفيتش أفريانوف ونائبه الفريق إيفان سيرجيفيتش كاسيانينكو. يُعد أفريانوف من قدامى المحاربين في الحروب الشيشانية، وهو مطلوب من قبل الشرطة التشيكية لدوره المشتبه به في تفجير مستودع ذخيرة عام 2014، والذي أسفر عن مقتل شخصين.
وقد منحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلى وسام في روسيا، "بطل روسيا"، لدوره في احتلال وضم شبه جزيرة القرم.
أما كاسيانينكو، الذي يُعتقد أنه نسق عملية تسميم سيرجي سكريبال وابنته يوليا في المملكة المتحدة عام 2018، فيشرف على العمليات السرية في أوروبا والسيطرة على عمليات مجموعة "فاغنر" في أفريقيا بعد مقتل مؤسسها، يفغيني بريغوجين، في عام 2023.

كما كان له دور في نقل المهارات والتكنولوجيا من روسيا إلى إيران، التي تزود موسكو بالطائرات المسيرة والصواريخ للحرب في أوكرانيا.
في ديسمبر (كانون الأول)، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على وحدة تابعة لـ"SSD" بتهمة تنظيم "انقلابات واغتيالات وتفجيرات وهجمات إلكترونية" في أوروبا وأماكن أخرى.
كما وجهت الولايات المتحدة اتهامات ضد أعضاء في الوحدة، وعرضت وزارة الخارجية الأمريكية مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن خمسة أعضاء متورطين في هجمات إلكترونية على أوكرانيا. التصعيد والتراجع في العمليات بلغت الأنشطة العدائية لـ"SSD" ذروتها في الصيف الماضي، لكنها تراجعت مؤخراً، وفقاً لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين. ويرجح أن يكون هذا التراجع محاولة لتهيئة الأجواء الدبلوماسية لموسكو للتفاوض مع الإدارة الأمريكية الجديدة.

‘A New Spy Unit Is Leading Russia’s Shadow War Against the West:
The operations of Moscow’s Department of Special Tasks have included attempted killings, sabotage and a plot to put incendiary devices on plan’https://t.co/XHyGrSfnXO

— Alex Plitsas ???????? (@alexplitsas) February 15, 2025 في مايو (أيار)، قالت الاستخبارات الأوكرانية إنها أحبطت مؤامرة روسية لإحراق عدة متاجر ومقهى، وزعمت أن العملية نسقها الرائد يوري سيزوف، الضابط في وحدة "سينيج" التابعة لـ"SSD". وبعد أيام، أشرف سيزوف على محاولة إحراق مركز تسوق في العاصمة البولندية وارسو. مؤامرة الأجهزة الحارقة في يوليو (تموز)، اندلعت حرائق في مراكز نقل في لايبزيغ بألمانيا وبرمنغهام في المملكة المتحدة بسبب عبوات حارقة أُرسلت عبر شركة "دي إتش إل". وكشف مسؤولون أمنيون أن هذه الحوادث كانت بمثابة تجربة لاستخدام أجهزة مماثلة على طائرات متجهة إلى أمريكا الشمالية. دفع التهديد الولايات المتحدة إلى إصدار تحذيرات للشركات الكبرى وشركات الطيران لتعزيز إجراءات الأمن.

حث بعض المسؤولين الأمنيين والمشرعين الغربيين على تكثيف الجهود السرية لمواجهة العمليات الروسية.
دعا نيك طومسون، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إلى توسيع الأنشطة السرية في وحول روسيا لردع مزيد من العدوان من الكرملين.

A standoff in the Baltic Sea shows how the region is a new flashpoint in Russia’s shadow war with the West https://t.co/wAyJHPlRet

— The Wall Street Journal (@WSJ) December 15, 2024 كما طالب السيناتور توم كوتون وكالة الاستخبارات الأمريكية بأن تكون "أكثر جرأة وابتكاراً" في عملياتها السرية.
وحذر جيمس أباتوراي، نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي لشؤون الحرب الهجينة، من أن على الولايات المتحدة وحلفائها تبني "عقلية الحرب" في المجتمع بأسره لمواجهة العدوان الروسي المتزايد، معتبراً أن التقاعس عن ذلك سيكون خطيراً للغاية.

مقالات مشابهة

  • العودة إلى الميدان.. خيانة في المخابرات المركزية الأميركية
  • بمشاركة 30 دولة بينها أمريكا وروسيا والصين.. انطلاق مناورات دولية في إندونيسيا
  • أول اتصال بين وزيري خارجية أميركا وروسيا
  • أول اتصال بين وزيري خارجية أميركا وروسيا.. هذا ما جاء فيه
  • وحدة تجسس جديدة تقود حرب روسيا الخفية ضد الغرب
  • الكشف عن الوحدة السرية الجديدة التي ستقود حرب الظل الروسية ضد الغرب
  • بوتين يسعى لنظام عالمي جديد يخدم مصالح روسيا
  • "فورين بوليسي": حروب ترامب التجارية تلحق ضررا كبيرا بحلفاء وشركاء واشنطن
  • الحرب الروسية الأوكرانية تدخل منعطفا جديدا بعد هجوم نائب ترامب على أوروبا.. مكالمة هاتفية بين رئيسي أمريكا وروسيا تثير القلق
  • الاستخبارات الأميركية تحذر من ضربة إسرائيلية لمنشآت إيران النووية