هي مذبحة جديدة، تقع بموازاة المذابح التي تَجري في غزّة، وضحيتُها هذه المرّة الأمم المتحدة. القذيفة التي أصابتها هي الفيتو الأميركي الذي أقبر مشروع الإيقاف الفوري للحرب الذي تقدّمت به الجزائر العضو غير الدائم في مجلس الأمن.

الغاية التي من أجلها قامت الأمم المتحدة، وهي تحقيق السلم واستتباب الأمن، تترنّح بعد اليوم، إذ تحولت غاية الأمم المتحدة إلى نقيضها، وأصبح وقف إطلاق النار جُرمًا، واستمرار العدوان على الأبرياء والعُزّل ومواصلة الدمار "فضيلة" من قِبل أعلى هيئة للأمم المتحدة وهي مجلس الأمن.

يُفهم استعمال الفيتو لقرار يُسوِّغ استعمال القوّة، لكن أن يُستعمل الفيتو ضد قرار يدعو لوقف الحرب، هو السريالية بعينها. نحن حقًا في عالم أورويلي بامتياز، حيث يفيد الشيء نقيضَه، وحيث يقوم انفصام ما بين القول والفعل؛ الزعم بوقف الحرب، في الخطاب، وتغذية نارها فعليًا. أما النظام العالمي الجديد الذي بشّرت به الولايات المتحدة ويقوم على احترام القانون الدولي، فهو في حقيقة الأمر شِرْعة القوي، وعالمٌ خالٍ من خطر الدمار الشامل، يستند إلى أكذوبة قوّضت بُنى دولة، وهلهلت نسيج شعب، وأشعلت فتيل الإرهاب، أما محور الشر والدول المارقة، فليست ما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما ما وصمته الولايات المتحدة بذلك.

العدو الأكبر للعالم العربي، هو وضع الفُرقة التي هو فيها، وهو أهم سلاح يستعمله خصومه ضده، ولن يكون لهذا العالم الفسيح مكانٌ تحت الشمس إذا استمر "النظام" العربي على ما هو عليه

أولى الضحايا في الحروب هي الحقيقة، كما يقول كلوسفيتيز، ولكن الحقيقة كما لو كانت جسم قتيل، يعلن عن مكنونه من خلال الرائحة التي تفوح منه. تنبعث في شبح القتيل غيلة، كما في مسرحية هاملت تُحدّث عما يريد المتآمران التستر عنه.

وأولى الحقائق التي فضحها الفيتو الأميركي على مُقترح الوقف الفوري للحرب على غزّة، هي أن الولايات المتحدة طرف في التقتيل الذي يجري في غزة، وأن كل تمارين الخطابة عن شجب الغلو في التقتيل، واستياء الإدارة الأميركية من شطط إسرائيل، كلها ذرّ الرماد في العيون، ذلك أن التقتيل يتم بسلاح أميركي، وبمَدَد مخابراتي منها، وتغطية دبلوماسية، بل وتعاون ميداني.

أمّا حلّ الدولتين، وحقُّ الفلسطينيين العيشُ في كرامة، فهي تقديم خدمة الشفتين لشعوب تؤمن بالخطابة، من منظور الولايات المتحدة، وبشكل الخطاب، دون مضمونه، ولها قدرة فائقة على النسيان، وردود أفعال شعوبها فقاقيع عابرة تنتفش مع الزمن، أو نار الهشيم، ما تشُبُّ حتى تنطفئ… وفي جميع الأحوال، يمكن تعطيل عناصر العالم العربي، من خلال توظيف تناقضاتها الداخلية أو البينية.

وثانية الحقائق هي أن الأمم المتحدة محفل للخطابة، فقط. لا تمثل ضميرًا، ولا هي أداة قانونية زجرية، وليس لها قوة ردعية رغم النوايا الحسنة لمسؤوليها، والعمل الجبار الذي تضطلع به بعض مؤسساتها. لكن الغاية ليست هي مجرد تضميد جراح ومواساة مكلوم، بل منع أن يُجرح الجريح، أولًا، وإمكانية معاقبة المعتدي ثانيًا، وفي هذين الأمرين، الأمم المتحدة عاجزة، لا تستطيع إيقاف عدوان، ولا معاقبة معتدٍ.

هاتان الحقيقتان تقوداننا إلى نتيجتين: الأولى أن القاطرة الأميركية التي قادت العالم منذ سقوط حائط برلين باسم الأحادية القطبية، كانت جائرة، والنور الذي خبا، حسب بيت لروديار كيبليتغ، ويحمله بعض التبشيريين في ركاب أميركا، هو في حقيقته نار تلظّت به شعوب عدة، أو كما يقول إيمانويل طود، كانت الولايات المتحدة الحل لمشاكل العالم، بعد الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وأضحت مصدر المشاكل بعد سقوط حائط برلين.

أما النتيجة الثانية، فهي ضرورة تشريح حالة الأمم "المتحدة" التي هي أبعد ما تكون عن كونها "متحدة". هي مجرد منظومة تُكرس توافق القوى المنتصرة بمقتضى لقاء يالطا، عقب الحرب العالمية الثانية، حيث كانت أغلب دول العالم تحت الحجر، في أفريقيا وفي آسيا، وكان الفيتو إثابة لدول حفظت النظام الدولي من الانزلاق الذي كانت تمثله دول المحور، ولكنه لم يكن مجرد حق، بل مسؤولية قانونية وأخلاقية لا يمكن استعماله إلا في الحالات القصوى التي يتم فيها تهديد الأمن والسلم العالميين.

هل يمكن الخضوع لمنظومة ظهرت في سياق معين، والأخذ بقواعد تكرس واقعًا ولّى؟ نظريًا، ممكن، ما دامت المنظومة تحقق الأهداف التي قامت من أجلها، أما إذا فشلت وأضحى فشلها بنيويًا، فيتوجب إعادة النظر فيها. والحال أن الأمم لم تعد أداة لتحقيق السلم والأمن، وحق الفيتو لم يعد مسؤولية أخلاقية بل أداة حرب، ولم تتورّع دول دائمة العضوية في مجلس الأمن في الاعتداء على دول من دون مظلّة الأمم المتحدة.

العالم أرحب من خمسة أعضاء، كما يقول الخطاب الرسمي التركي، والحاجة ماسّة إلى إعادة هيكلة للأمم المتحدة وليس مجرد ترميمها، أو إرساء نظام عالمي جديد، بمؤسّسات جديدة.

ينبغي حفظ تاريخ استعمال حق الفيتو من قِبل الولايات المتحدة، في الذاكرة، في نازلة غزة، كما تواريخ حاسمة في مسار عصبة الأمم، حين ضمت اليابان منشوريا (1931)، وحين غزت إيطاليا الحبشة (1935)، مما عجل بانهيار عالم ما بين الحربين.

ولسوف يجد المؤرخون الأميركيون في الزمن المقبل الجواب على فشل خطابهم التبشيري عن البيت فوق التلة الذي ينبعث منه النور، ولماذا انطفأ النور، من خلال الفيتو الأميركي على وقف الحرب في نازلة غزة. لن يحتاجوا لإلقاء اللوم على الآخر، الذي يغبطهم على حريتهم وتعدديتهم وديمقراطيتيهم، كما في زعم الخطاب الأميركي الرسمي.

أما النتيجة الثالثة، فهي أن العدو الأكبر للعالم العربي، هو وضع الفُرقة التي هو فيها، وهو أهم سلاح يستعمله خصومه ضده، ولن يكون لهذا العالم الفسيح مكانٌ تحت الشمس إذا استمر "النظام" العربي على ما هو عليه.

نعم، هناك شيء عفِنٌ في مملكة (المنتظم الدولي)، كشفه الفيتو الأميركي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الفیتو الأمیرکی الأمم المتحدة ة الأمم

إقرأ أيضاً:

نساء على رأس حكومات العالم.. تقدم متواصل رغم التحديات

تتولى النساء حاليا منصب رئيس الحكومة في 13 دولة فقط من بين 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، مما يبرز التحديات المستمرة التي تواجههن في تحقيق التوازن في القيادة السياسية.

ومن بين هذه الدول، تتصدر المكسيك المشهد حيث تولت الرئيسة كلوديا شينباوم، هذا الأسبوع منصب أول رئيسة في تاريخ البلاد.

ويشير تحليل لمركز بيو للأبحاث إلى أن المكسيك تعد واحدة من تسع دول يعتبر فيها اعتلاء امرأة رأس الحكومة، سابقة في تاريخ البلاد.

"انتصار نسائي"

عبر العالم، خدمت النساء كرئيسات للحكومة في 60 دولة عضو في الأمم المتحدة، ما يعادل 31 في المئة من إجمالي عدد الدول.

وبحسب تحليل "بيو" يعود أول "انتصار نسائي" في هذا السياق إلى سريلانكا، التي شهدت تولي سيريمافو بندرانيكا منصب رئيسة الوزراء لأول مرة في عام 1960، تلتها الهند في عام 1966 وإسرائيل في عام 1969.

ومنذ عام 1990، شهدت الدول التي تتولى فيها النساء القيادة زيادة مطردة.

وكانت سنة 2010 علامة فارقة، حيث قادت النساء لأول مرة خمس دول بشكل متزامن، وهي أستراليا وكوستاريكا وقيرغيزستان وسلوفاكيا وترينيداد وتوباغو.

تجدر الإشارة إلى أن ميا موتلي، رئيسة وزراء بربادوس، هي المرأة التي شغلت المنصب لأطول فترة بين النساء الحاليات في السلطة، حيث تتولى الحكم لأكثر من ست سنوات.

في المقابل، تحمل رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة، شيخة حسينة، لقب أطول فترة خدمة لرئيسة حكومة في التاريخ الحديث، حيث قضت أكثر من 20 عاما في السلطة.

لكن حسينة استقالت وغادرت بنغلاديش في وقت سابق من هذا العام، إثر احتجاجات جماهيرية ضد نظام الحصص في الوظائف الحكومية التي تحولت إلى حركة عنيفة ضد حكومتها.

بعد تصريحات الشيخة حسينة.. مقتل العشرات وإحراق مبنى التلفزيون في بنغلاديش واصل الطلاب في بنغلادش تظاهراتهم، الخميس، في معظم أنحاء البلاد احتجاجا على قواعد التوظيف في سلك الخدمة العامة، رافضين غصن الزيتون الذي رفعته رئيسة الوزراء، الشيخة حسينة، بتعهدها إحقاق العدالة للقتلى الـ16 الذين سقطوا في مواجهات مع الشرطة. زعيمات على هامش التاريخ

لا تزال هناك بعض الزعيمات البارزات غير المدرجات في تحليل "بيو". على سبيل المثال، تحكم كوسوفو رئيسة وهي فيوزا عثماني، لكنها استُبعدت من التحليل لكون بلدها ليست دولة عضو في الأمم المتحدة.

أيضا، استُبعدت زعيمات سابقات مثل تساي إنغ وين، في تايوان، وأونغ سان سو تشي، من ميانمار لأسباب تتعلق بعدم العضوية في الأمم المتحدة وعدم وجود سيطرة واضحة على الحكومة.

في النهاية، تُبين هذه الإحصائيات الحاجة المستمرة لدعم مشاركة النساء في السياسة وتعزيز دورهن القيادي، مما يعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تحدث في العديد من الدول حول العالم.

مقالات مشابهة

  • كيف ينعكس التوتر في الشرق الأوسط على الولايات المتحدة مع اقتراب الانتخابات؟
  • كيف تنعكس التوترات في الشرق الأوسط على الولايات المتحدة مع اقتراب الانتخابات؟
  • تهديدات بضرب منشآت نفطية.. تبعات التوترات في الشرق الأوسط على الولايات المتحدة في عام الانتخابات
  • ما الذي تنوي الولايات المتحدة فعله في الشرق الأوسط مع زيادة التوتر؟
  • السنيورة: الفيتو الأمريكي أبرز معضلة تواجه العالم العربي والقضية الفلسطينية
  • الولايات المتحدة الأمريكية تعلن عن تقديم مساعدات إلى لبنان بقيمة 157 مليون دولار
  • الولايات المتحدة تعلن عن تقديم مساعدات إلى لبنان بقيمة 157 مليون دولار
  • نساء على رأس حكومات العالم.. تقدم متواصل رغم التحديات
  • باحثة سياسية: الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تسير الأمور في الشرق الأوسط
  • مجلس الأمن الدولي يدعم غوتيريش بعد قرار إسرائيلي