لو انتصرت النازية.. كيف سيكون حساب أميركا؟
تاريخ النشر: 3rd, March 2024 GMT
ماذا لو انتصرت النازية، لا سمح الله، ولو ضحّت بهتلر؟
سؤالي عن وجود «الحقيقة» مهما تتقادم، لا أقصد تقييم الشخصيات، مثل أخناتون الذي يختلف فيه الرأي، بين نبي مثالي، وملك ضعيف.
الحقيقة أن ملكه تداعى، وكادت الدولة تسقط، لولا قبضة قائده العسكري حور محب. ما عدا «حقيقة» سقوط أخناتون يظل التاريخ مطية المنتصرين، يُملونه على الكَتَبة، ويقدسه المغفلون.
من كان يظن، في ربيع 2011، أن يطول عمر بشار الأسد، ويشارك في القمة العربية في جدة، في مايو/أيار 2023، وفي القمة العربية والإسلامية المشتركة بالرياض، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023؟
الملايين من الضحايا في القبور والمنافي، طوال هذا النزيف، تخيلوا له مصيرًا آخر، ولا بدّ أن «حضوره» يؤرق أرواح أبرياء رأوا مصير صدام حسين، إذ سقط أسيرًا في يد الاحتلال الأميركي، فأخرج له من الأضابير قضية الدجيل، جواز مرور إلى المشنقة. فكيف ستُؤرخ فصول المأساة السورية؟
الطغاة يخشون الحقيقة. في فيلم «عمر المختار»، قال ضابط صغير لقائده، وهما يمارسان القتل، لتأديب الثوار، «المتمردين»:
رد القائد: الخوف أن تنسانا روما.
وقد نسيتهما روما، ونسيهما تاريخ احتفظ بصفحة مجيدة لعمر المختار والذين معه. هيكل ومبارك وبينهما الفقي
واقعة قريبة رواها طرفان بصيغتين. في كتابه: «مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان» (2012)، ذكر محمد حسنين هيكل أنه كان يجهز لكتابه: «حرب الخليج» (1992)، واتصل به حسني مبارك، بعد انقطاع طويل، وسأله مباشرة عن صحة ما نشرته الصحف عن سفره، لمقابلة الملك حسين؛ «لأنك تكتب كتابًا عن حرب الخليج!».
أجاب بأنه سيقابل الملك وغيره، فقال مبارك: «الملك سوف يكذب عليك». وبعد عودته إلى القاهرة اتصل به مبارك، وسأله بالمباشرة نفسها: «هل كذب عليك، وروى لك ما يشاء لكي يبرر موقفه؟!!». وبادر مبارك بإطلاع هيكل على ملفات الرئاسة السرية الخاصة بحرب الخليج، «شرط عدم تصويرها»، وإرسالها على مراحل مع مصطفى الفقي سكرتير الرئيس للمعلومات. وكلما اطلع هيكل على جزء وافاه بآخر.
فتح الفقي الدفعة الأولى، وانهمك هيكل في القراءة، وصارح الفقي بالاكتفاء بما قرأ؛ فالملفات تبدو «مكتوبة بأثر رجعي»، بعد الحرب، «محررة بتوجيه، لكي ترسم صورة معينة قد لا تكون موافقة لحقيقة ما جرى!!».
خبرة هيكل بقراءة الوثائق دفعته إلى العزوف عن استكمال قراءة ما سيحمله إليه الفقي «غدًا وبعد غد»، وآثر أن يكتب استنادًا إلى ما يتوصل إليه، لا ما يُقدم إليه مما يشكّ فيه؛ فقراءته للملفات ستقيّده، وربما تلزمه بما لا يقتنع به. وأعاد الفقي الأوراق إلى الحقيبة، وقال بإيجاز: «لا تعتمد فيما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألني أكثر من ذلك!!».
وصدر الكتاب، فأغضب مبارك. وفي عشاء عند صديق مشترك همس الفقي إلى هيكل: «لا تجعل شيئًا مما يقال يضايقك، الحق كان معك، والواقع كما أعرفه من موقعي أفظع بكثير من أي شيء قلته في كتابك!».
انتهت رواية هيكل لواقعة شغلت أكثر من خمس صفحات، في كتاب صدر في حياة مبارك. وبعد وفاة هيكل ومبارك، روى الفقي الواقعة في سيرته: «الرواية.. رحلة الزمان والمكان» (2021)، في أقل من سبعة سطور. قال: إن هيكل طلب إليه الاطلاع على الرسائل المتبادلة بين مبارك وصدام، فاستأذن مبارك وأقنعه بأن هيكل، بعد لقائه بالملك حسين، «من غير المستحب أن نحجب عنه ما لدينا، فوافق الرئيس… والطريف أنني عندما ذهبت إلى هيكل، تصفحها في دقائق قليلة، دون اعتناء، وأعادها لي شاكرًا، وقال ليس فيها جديد».
أيهما نصدق؟ في حياة مبارك، نشر هيكل رواية محددة، طرفاها هيكل ومبارك، ويشهد عليها الفقي الذي انتظر موت هيكل؛ ليكتب رواية يضع فيها نفسه في جملة مفيدة، جسرًا بين هيكل والرئيس.
السياق أكبر من مجرد الاطلاع على «وثائق»، رواية هيكل تمثل علاقة ندية بين صحفي ورئيس يبادر بالاتصال، ولعله يخشى رواية من خارج الحدود تنقُض ما أمر بكتابته بعد سكوت المدافع، وما أراد الإيعاز به إلى كاتب مرموق تتسع دوائر قرّائه فتتجاوز حدود العالم العربي، ثم يعاود الرئيس الاتصال بالصحفي؛ للسؤال عن الرواية الأخرى.
لم يردّ مبارك أو الفقي على رواية هيكل عام 2012، لكن الرواية الأقل من سبعة سطور، في «السفر الأمين» للفقي، تجاهلت هذه التفاصيل، وأسقطت همس الفقي عن واقع «أفظع بكثير» مما كتبه هيكل.
بين كتابة التاريخ ومحاسبة صناعهلا اتفاق على رواية واحدة لواقعة عصرية، فكيف نصدق رواية كتبها صنّاعها المنتصرون؟
الجنون الأميركي في فيتنام كافٍ لمحاكمة المسؤولين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، يذكر المؤرخ الأميركي هوارد زِن، في كتابه: «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة»، أن المخابرات الأميركية أعدمت في برنامج سري يسمى: «عملية العنقاء» أكثر من عشرين ألف مدني فيتنامي، لشكوك في انتمائهم إلى منظمات شيوعية سرية.
وأن أميركا أسقطت سبعة ملايين طن من القنابل، «وهو ما يفوق أكثر من مرتين إجمالي ما أُلقي من قنابل على أوروبا وآسيا في الحرب العالمية الثانية؛ أي قنبلة تزن خمسمئة رطل لكل إنسان في فيتنام… أُلقيت غازات سامة بالطائرات لتقضي على الشجر… منطقة باتساع ولاية ماساشوستس قد غطيت بهذه الغازات»، فضلًا عن تشوهات الأطفال.
ويسجل هوارد زِن، في الكتاب الذي ترجمه الدكتور شعبان مكاوي (1963 ـ 2005)، أن جنودًا أميركيين أحاطوا في 16مارس/ آذار 1968 بسكّان قرية ماي لاي، وفيهم العجائز والرضع، وأمروهم بالنزول إلى خندق كبير، وقتلوهم. ثم قال الجندي جيمس دورسي، في شهادته أثناء المحاكمة: «كان الناس يغطسون تحت بعضهم البعض، وكانت الأمهات يحاولن حماية أطفالهن»، وإن الضابط كاللي أمر الجندي بول دي ميدلو بإطلاق النار، وهو نفسه «الجندي الذي كان يطعم الأطفال الشوكولاتة قبل أن يطلق الرصاص عليهم»، كان الجندي يطلق النار ويبكي.
وينقل هوارد زِن عن الصحفي الأميركي سيمور هيرش، الذي تقصّى مذبحة ماي لاي، أنهم عثروا على مقابر جماعية في ثلاثة مواقع، فضلًا عن خندق مكدس بنحو 500 جثة «معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن»، وينقل هيرش قول جندي أميركي في خطاب إلى أسرته: «كنا اليوم في مهمة وأشعر بالخزي من نفسي ومن أصدقائي ومن بلدي. لقد أحرقنا كل كوخ وقعت عليه عيوننا. كانت هذه شبكة صغيرة من القرى، وسكانها فقراء فقرًا شديدًا. قامت وحدتي بحرق ممتلكات هؤلاء الفقراء وسلبها… كان الكل يبكي ويتوسل إلينا بألا نفصل بينهم بأخذ الآباء والأزواج والأبناء والأجداد. وكانت النساء تبكي وتنوح. كانوا ينظرون إلينا في رعب ونحن نحرق منازلهم وممتلكاتهم الشخصية وطعامهم. نعم كنا نحرق الأرز ونقتل الماشية».
النسخة الصهيونية من الجريمة الأميركية ذكر جانبًا منها رئيس وزراء إسرائيل موشي شاريت. في كتاب: «إرهاب إسرائيل المقدس» تدرس الكاتبة الإسرائيلية ليڤيا روكاش يوميات شاريت، وفيها شهادة لجندي شارك، عام 1948، في احتلال قرية الدوايمة الفلسطينية: «قتلت ما بين 80 إلى 100 عربي، من النساء والأطفال. لقتل الأطفال، كانوا يقومون بتحطيم رؤوسهم بالعصي. لم يكن هناك منزل واحد بلا جثث… أمر قائدنا بإحضار امرأتين إلى المنزل الذي كان على وشْك تفجيره… جندي آخر افتخر بأنه اغتصب امرأة عربية قبل إطلاق النار عليها وقتلها. أمر الجنود امرأة عربية أخرى معها رضيعها بتنظيف المكان لمدة يومين، وبعد ذلك أطلقوا النار عليها وعلى طفلها».
من البريرية إلى الاضمحلالأعود إلى سؤال البداية: ماذا لو انتصرت النازية، لو ضحّى النظام بزعيمه لتستمر النازية؟
كنا سنرى مشهدًا آخر، ومحاكمات أخرى، وتفاصيل مختلفة على خريطة العالم. لكن النازية سقطت والحمد لله، وصعد نازيون جدد. ولم تُحاسَب إسرائيل على جرائمها ضد الإنسانية، ولا الولايات المتحدة التي قتلت نحو خمسة ملايين فيتنامي، وحرقت 37 مليون فدان من الزروع والغابات، وخلفت 55 ألف قتيل أميركي، لتأكيد القوة، وخدمة لرأس المال، وهو ما عبر عنه كيسنجر بقوله: «على الولايات المتحدة أن تقوم ببعض الأفعال في مكان ما بالعالم لتأكيد استمرارها كقوة عالمية».
كان لأميركا أن تتجنب إلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان الموشكة على الاستسلام. وكان لها وللحلفاء ألا ينسفوا مدينة دريسدن الألمانية، تلك جريمة استعراضية ارتكبوها بلا داعٍ، والحرب تكاد تنتهي ومعها هتلر. يذكر هوارد زِن أن درجة الحرارة الناتجة عن القصف قتلت مئة ألف ألماني.
خلاصة السلوك الأميركي الإمبريالي يؤكد مقولة أنها الدولة الوحيدة التي ستنتقل من البربرية إلى الاضمحلال، من دون المرور بالحضارة. تلك مقولة يرجح أن قائلها أوسكار وايلد. أما إسرائيل فليست إلا جيشًا يحيط به مجتمع، كعائلات جنود الاحتلال البريطاني في مصر. في البدء جاءت العصابات الصهيونية المسلحة إلى فلسطين، قبل استقدام «الشعب»، والتقاطه من الشرق والغرب. الكيان الوحيد في التاريخ الذي يستجدي «مواطنين»، لا بقاء للقطاء.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: هوارد ز ن أکثر من
إقرأ أيضاً:
ثلاث فتيات وامرأة غامضة.. ننشر الفصل الأول من رواية «البوشّيه»
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق تنشر «البوابة نيوز» الفصل الأول من رواية «البوشّيه»، للكاتبة السعودية نوف أنور، والتي تصدر قريبا عن مؤسسة «الباشكاتب للسيناريو والنشر والسينما». وتتناول الرواية الواقعة في 140 صفحة تقريبا، بغلاف للفنان التشكيلي المصري محمد الشيمي، حكاية عن شبح امرأة غامضة يحيط بامرأة رقيقة -لكنها بائسة- تعافر من أجل إيجاد سلامها النفسي، في وقت تتعرض فيه لابتعاد الحبيب والغربة وخيانة أقرب صديقاتها. فيما تتشكل حولها حكاية صديقتي عمرها، واللتين لا تبدو حياتهما أفضل حالا.
يقول الناشر: في روايتها الأولى، تقدم نوف أنور قصة ثلاث فتيات تبدأ في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، سحر وحصة وميسون، تربطهن صداقة قديمة بدأت منذ حرب الكويت واستمرت لسنوات مليئة بالتفاصيل والأسرار. سحر، التي تملك حدسًا قويًا، تعيش في فوضى بسبب امرأة غامضة تلاحقها، وتقلب حياتها إلى جحيم مليء بالألغاز. حصة تخفي سرًا كبيرًا يجعلها تبني عالماً من الأكاذيب، بينما ميسون، رغم حياتها الفوضوية وسعيها وراء الرفاهية، تمثل الأمان لصديقاتها.
ومع مرور الوقت، تتشابك أحداثهن، حيث تتداخل خيوط الخوف والحب والصراعات. مما يدفعهن لمواجهة تحديات قاسية، تكشف أسرارًا، وتغير مسار حياتهن إلى الأبد.
1
ارتفعت أصوات النساء بالأغاني والزغاريد، وهن يملأن المكان بالضجيج، تفرقن في ساحة منزل «بو علي» في مجموعات صغيرة يربطها الذهاب والمجيء والضحكات المرحة. يُزيدهن تألق تلك الأنوار التي تفترش النخيل، وأشجار اللوز. وتتلألأ على البيت أفواج من النساء، يلتحفن أجسادهن بـ«العباءة السوداء»، وهن في كامل زينتهن وأثوابهن المزرية بالخيوط الذهبية، والفتيات بأثواب النشل الملونة. بينما تفوح من المنزل رائحة الطيب من الدخون، والعود المخلوط برائحة المشموم، والياسمين والحناء.
امتلأ المكان بالأغطية المزخرفة بالزهور الملونة، وجلست صفوف من النساء بمواضع مختلفة بشكل منتظم، وخصص الوسط للرقص. وعلى الواجهة، كانت الجدران مغطاة بقماش أخضر من الزري، والأرائك الخضراء، وصينية دائرية تقليدية، مزينة بالمشموم والياسمين والنثور، ومعاصير الحنة الملفوفة بإحكام وتفوح منها الرائحة الخنينة.
كانت الفتيات قد صنعن دائرة حول المرأة العجوز التي ترسم الحناء ليُشاهدن الرسوم التي تُزيّن يد العروس، وتختلط أصواتهن ما بين الإعجاب والمطالبة بأن تكون كلٌ منهن هي التالية. وأخريات من النساء الكبار، الجالسات في وجود أم العروس وهي تتباهى بعطايا من سيصير في الليلة التالية زوج ابنتها. وطائفة ثالثة انهمكت في الغناء والرقص، صانعة أكبر قدر من الضجيج.
بكامل زينتها، كانت حصة تتوسط الجميع بجمالها الدافئ، ورغم رغبة والدتها الملحة بتغطية وجهها هذه الليلة -حتى لا يذهب نورها يوم زفافها- إلا إنها رفعت الغطاء عن وجهها، وسلّمت يديها الممتدتان للمرأة، لتقوم بنقشها بالأغصان المتفرعة بالأوراق والزهور.
كانت الفتيات يتراقصن بأثوابهن «النشل»، وشعور بعضهن مسدول على الأكتاف، وأخريات مجدلة ومزينة بالمشموم والريحان. وبالطبع لا تخلو أعناقهن وأياديهن من عقود الياسمين. إلا أن حرارة الجو زادت وجوههن احمرارًا ولمعانًا، وبالرغم من ذلك لم يمنعهن من التوقف عن الرقص، خاصة مع وجود فرقة «زبيدة» ودفوفها التي كانت تُلبي رغبة الفتيات بغناء أغاني سوق الكاسيت التي يرغبن بها، وفي الوقت نفسه، تُلبي رغبه الأمهات بالأغاني والأهازيج الشعبية.
وسط كل هذا كانت سحر جالسة في سكون، بدت كزهرة حائط وحيدة بجمالها اللافت رغم شحوب وجهها ونظراتها الشاردة، ترفض بلباقة كل محاولات الأخريات في جذبها نحو الدائرة الراقصة أو رسّمة الحناء، تدير عينيها في الحاضرات وتكتفي بهزة رأس بسيطة كلما قابلتها عين إحداهن، تتجنب النظر إلى النسوة الكبار ممن يرمقنها بنظرات هي مزيج بين الفضول والإشفاق، لأنها لم تتزوج بعد رغم حُسنها الواضح.
تعلم ما يُفكرن فيه، البعض يراها «منحوسة»، والأخرى «ممسوسة»؛ وغيرهن لقّبنها بـ «الحسناء التعيسة». تعرف هذا وتتجاهله، ولولا أن الليلة هي حناء «حصة»- أعز صديقاتها منذ الطفولة- لما غادرت منزلها لتصطدم بتلك الوجوه المُشفقة، فقط حصة هي الوحيدة القادرة على إخراجها من العُزلة مهما عبست أيامها أو انشغل ذهنها.
"ألا زلتِ تحلمين بتلك المرأة؟
قطع السؤال أفكارها، فرفعت رأسها لتجد حصة واقفة أمامها. تأملتها فوجدتها بارعة الحسن كما اعتدن أن يظهرن، أمسكت بيدها وتأملت الرسم في إعجاب، وجذبتها لتجلس بجوارها وأشارت حولهن..
-الجميع سعداء من أجلك، وأنا أولهّن.
=لا تتجاهلي ما أقول.. سألتك عن تلك المرأة. أهي سبب شرودك وقت زفافي؟
-لا شيء يؤخرني عنك.
=إذن.. احك لي.
-اليوم؟! يا لك من مجنونة يا فتاة!!
=هو اليوم نفسه الذين تكتفين فيه بالجلوس كنبات الزينة. دون أن تُشاركيني الرقص، أو تمتد يد العجوز على يدك المرمرية لتصنع لوحة تُزيد من فتنتك. احك لي، فربما يُذهب الحديث ثِقَل ذهنك، وتشاركيني فرحتي.
شعرت سحر بالخجل من قولها، لكنها أقرت في نفسها بأن ما تقوله صحيح. حصة هي الوحيدة التي لا تصف هواجسها وأحلامها بالجنون. منذ حكت لها عن تلك المرأة الغامضة التي تشاهدها منذ شهور وتستحوذ على أحلامها وخيالات اليقظة.
- تطاردني دومًا.. هي نفسها، بعباءتها السوداء الطويلة، وغطاء وجهها الذي لا يبدو منه سوى عينين فاتنتين. تثير الرعب فيَّ بنظرتها الثاقبة. ثم سُرعان ما تختفي. أراها في كل موضع، وتذوب مع فزعي.
= وتكتفي بالصمت؟
- ليس اليوم، ربما هذا ما جعلني أبدو في هذا الارتباك.
= لِمَ؟ ماذا حدث؟
- فيما بعد، لا أريد أن أبدو كطائر شؤم في يوم عرسك، دعينا نعود إلى النساء ثم أستكمل الحكي في يوم آخر.
= سأنشغل كثيرًا في الأيام المُقبلة.
- يا حبيبتي، أسعد الله وقتك وحفظ سرك، لا يوجد لديَّ أكثر من الوقت، ولا توجد حكاية أخرى تؤرق مضجعي. لا تهتمي، فسوف أنتظر.
تبادلتا الابتسام، وقامت أم العروس وأمسكت بيدها، تصاعدت الزغاريد، وارتفعت أصوات النساء بالغناء وكأن طاقتهن تضاعفت مع مشاركة سحر التي طافت ترقص حول حصة، ورسمت على وجهها ابتسامة لتُخفي توترها الزائد من تلك المرأة التي لا تنفك عن مطاردة ذهنها.
"قلت أوقفي لي وارفعي البوشيه... خليني أروي ضامر العطشاني
شفت الجدايل وأحسبك رومية.. ثاري الزلوق مقرضة ياخواني
الخد ياضي لي برق وسميه.. والعين تشبه ساعة الربان"..
لم تقاوم النساء الرقص على هذه الأغنية رقصة «الخماري»، فالفتيات وضعن الأكمام الواسعة لثوب النشل على الرأس، والنساء استعّن بالبوشيه لتغطية جزء من وجوههن؛ وبدأن يتمايلن بأجسادهن جانبًا بهدوء وبعدت خطوات إلى الوراء.
صنعت مع الفتيات دائرة كبيرة، توسطها العروس والمرأة العجوز، التي ما انفكت تصيح مُباركة العروس بكلمات لم تتبين أكثرها. أصرت العروس على والدتها أن ترقص لأنها تعرف أن والدتها تتقن «الخماري»، لكنها كانت تخشى من أحاديث النساء، فعادة أم العروس لا ترقص وتكون أقرب إلى الرصانة والثقل؛ إلا أن حصة أصرت قائلة «الزمن تغير يما»، بينما قامت سحر لتمسك بيدها وترقصان سويًا.
بعد قليل، اندمجت سحر مع الفتيات، وبدأت صورة المرأة تنزاح عن ذهنها فشعرت أنها أكثر حيوية، خرجت من الدائرة وأمسكت بيد والدة حصة واندمجتا في الرقص، حركت جسدها أكثر فزاد انطلاقها، بدأت تدور حول نفسها في مرح.
فجأة شعرت وكأن كل ما حولها اختفى، بدأت الدنيا في الإظلام لكنها لم تستطع أن توقف جسدها عن الدوران، بدت الأصوات من حلوها كأنها تأتي من بئر سحيقة، فارتجف جسدها بقوة لكنها لم تتوقف.
ثم ظهرت المرأة..
بدت تمامًا كما تراها من بعيد، عباءتها السوداء الطويلة والغطاء الشفاف الذي لا تُدرك ماهيته بينما عيناها لمعان من خلف الغطاء اقتربت منها المرأة فارتعبت وحاولت الصراخ لكنها لم تستطع، بدت في عيناها اللامعتين جذبة غريبة، أطبقت فمها وهي تتساءل كيف تراها في كل الاتجاهات رغم دوران جسدها.
شعرت بيد ثقيلة توضع على كتفها والأضواء تعود إلى بصرها شيئًا فشيء، انتفض جسدها وهي تسمع همسات تتعالى باسمها لتجد حصة أمامها ترمقها بنظرة قلقة، انتفضت مرة أخرى ثم أطلقت صرخة عالية وسقطت فاقدة الوعي.
«لم أشعر بنفسي إلا والنساء يُحطن بي وهن فزعات، كانت حصة أكثرهن فزعًا، لمحت في عينيها الخوف واللهفة لا الضيق والغضب رغم أني- بشكل ما- أفسدت ليلتها الجميلة. تلفت حولي لأجدنني مُستلقية على الأريكة وقد ابتل وجهي وغرق أنفي في مزيج من العطور استُخدمت لإفاقتي، نهضت مُرتبكة بعد تلك الفوضى التي أثرتها وشكرت حصة وكررت أسفي عشرات المرات قبل أن أستقل سيارتي وأغادر. أعلم أنها ليست غاضبة، فنحن أصدقاء منذ كنا في الثانية عشرة من عمرنا، لكني لا أستطيع منع نفسي من الضيق والخجل؛ ولا أستطيع كذلك أن أمحو من ذهني تلك المرأة الغامضة».