أكدت عضوة المجلس البلدي، م. شريفة الشلفان، الحاجة الماسة إلى فصل مدينة الكويت ببلدية مستقلة، حيث إن العاصمة لها طابع خاص، لكونها مركز الحكم، وكذلك المركز المالي والتجاري للدولة، مشيرة إلى أن تغيير الإدارة العمرانية يعزز هوية عمرانية للبلاد، ويعكس المناخ والجانبين الاجتماعي والثقافي، ويحافظ على الإرث العمراني عبر السنين.

وذكرت الشلفان، في حوار خاص مع «الجريدة»، أن أبرز التغيرات التي ستسهم في تغيير إدارة ملف النظافة هي قدرة المجلس على وضع تشريع ضمن لائحة النظافة الجديدة، والتي ستطبقها عقود النظافة الجديدة، بفرض فرز مخلفاتها قبل إخراجها، موضحة أنه من غير المنطقي اقتباس تجارب عالمية وتطبيقها كما هي على الكويت. واعتبرت أن المخطط الهيكلي الرابع يُعد مشروع دولة وليس مشروعا للبلدية فقط، واصفة إياه بأنه خريطة طريق لمشاريع التنمية ودستور الدولة العمراني والحضري لسنة 2040. وأشارت إلى أن النقل العام في الكويت حالياً يلبّي حاجة لدى فئة معيّنة من المجتمع، لكنّه يحتاج إلى تطوير لتشجيع جميع فئات المجتمع على استخدامه، مضيفة: كما أن تطوير منظومة متكاملة للنقل هو أحد الأهداف الأربعة للمخطط الهيكلي الرابع، الذي يوصي بإنشاء هيئة نقل عام… وإلى تفاصيل الحوار: • نستطيع القول إن إقرار المخطط الهيكلي ثمرة عمل المجلس البلدي الحالي… ماذا سينتج عن هذا المشروع، وهل هو قابل للتطبيق؟ – يعتبر المخطط الهيكلي الرابع للبلاد في آخر مراحل إقراره، وهو نتيجة عمل الجهاز التنفيذي عبر إدارة المخطط الهيكلي لسنوات عدة، إضافة إلى اهتمام المجلس البلدي به من خلال تشكيل لجنة المخطط الهيكلي التي كانت تضم 7 أعضاء، وعملنا من خلال اللجنة بشكل دوري على مراجعة محتوى المخطط ووضع الملاحظات، تمهيداً لإقراره كمرسوم أميري، وتم رفع تقرير يوضح أهم التحديات التي قد تواجه تحقيق أهداف المخطط المذكورة، ومنها التحديات التنفيذية، لذا فإن قابلية تنفيذه مرتبطة بالتطرق ومعالجة تلك التحديات. والمخطط الهيكلي الرابع يعتبر مشروع دولة وليس مشروعاً للبلدية فقط، ولا شك في أن من أهم عوامل نجاحه تضافر الجهود بين جميع جهات الدولة المعنية، خاصة في وجود جهة مشرفة متخصصة لتنفيذ ما ورد في المخطط، ومتابعة التنفيذ وفق خطط زمنية محددة وميزانيات مقدرة مسبقاً. المخطط الهيكلي الرابع • وما أهمية المخطط الهيكلي الرابع من وجهة نظرك؟ – يعتبر المخطط الهيكلي الرابع خريطة طريق لمشاريع التنمية، ودستور الدولة العمراني والحضري لسنة 2040، وهو يحدد الأهداف والسياسات العمرانية المستقبلية، كما أنه يشكّل أحد أهم خطط الدولة الطويلة الأمد، ويتكون من 4 أقاليم، ولكن يتمركز السكان المتوقع وصول عددهم عام 2040 إلى ما يفوق 7.25 ملايين نسمة في 3 مناطق حضرية، أولها توسيع المنطقة الحضرية الحالية وتغطي بمجملها نحو 6 ملايين نسمة عام 2040، وهي تشمل المركز المالي والتجاري للدولة، إضافة إلى قطاع التجزئة ومناطق سياحية، والمنطقة الثانية هي المنطقة الحضرية الشمالية التي تُعد منطقة اقتصادية عالمية، إضافة إلى مناطق تشمل أراضي للزراعة وأخرى للسياحة البحرية وتغطي نحو نصف مليون نسمة. أما المنطقة الثالثة، فهي المنطقة الحضرية الجنوبية، متمثلة في القطاع النفطي، إضافة إلى مناطق زراعية ومناطق للسياحة البحرية وتغطي نحو نصف مليون نسمة، كما يتضمن المخطط المنطقة الغربية التي تتمثّل مهمتها في قيادة قطاع الغذاء والطاقة المتجددة. إعادة التدوير • هناك من يذكر أن شلل ملف إعادة التدوير نتيجة صراع غير مرئي… كيف تفسرين ذلك؟ – ليس لي أن أعلّق على الأمور غير المرئية، لكن الأمر الواضح بالنسبة لي، والذي كان للمجلس البلدي دور مهم في تغييره، هو إقرار فرز النفايات من مصدرها لأول مرة في تاريخ الكويت، فاليوم لدينا تشريع يفرض على المستخدمين وعلى المؤسسات فرز مخلفاتها قبل إخراجها للحاويات، وعلى الجهاز التنفيذي في بلدية الكويت تحديد ضوابط فرز النفايات، ويجب أن تعكس عقود النظافة هذا التشريع الجديد وتطبيقه من خلال توفير حاويات مختلفة مسبوقة بحملات توعية للسكان من قبل البلدية، ومن وجهة نظري هذا التشريع عندما يطبّق سينهض بملف إعادة التدوير بشكل ملحوظ. تفكيك المباني • قدمتِ اقتراحا بشأن تفكيك المباني بدلاً من هدمها… ما إمكانية تطبيقه وليست لدينا آلية للمباني المركّبة؟ – مفهوم التفكيك في المقترح يتطرّق إلى شقين، الأول للمواد التي يمكن إعادة استخدامها مثل الأبواب والشبابيك والإنارة، أما الثاني فهو للمواد التي يمكن معالجتها وإعادة تدويرها كالحديد والزجاج والطابوق، والهدف هنا تعزيز مبدأ الاستدامة، لكوني شخصياً مهتمة بتلك القضية التي ليست محصورة على البيئة فقط، بينما لها أبعاد أخرى أيضا. ومسؤولية جيلنا الحالي هي المحافظة على الموارد المتاحة اليوم للأجيال القادمة، وهذا المقترح يسهم في تعزيز مفهوم وثقافة إعادة الاستخدام وإعادة التدوير في المجتمع، ويقلل من استغلال الأراضي لردم النفايات الإنشائية، فالأراضي تعتبر ثاني أهم مورد طبيعي بالدولة بعد النفط، وهي ثروة وطنية. كما أحرص على النظر بصورة شمولية لأثر بعض التشريعات على المواطنين والدولة بشكل عام، فالمقترح الذي قدّمته له جانب اقتصادي أيضاً، حيث إنه يهدف إلى خلق سوق لمواد البناء المستعملة يوفر خيارات أقل كلفة للمواد، وأيضا فرص عمل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة للراغبين في دخول هذا المجال، كما أنه يشجع التجارة المحلية، ويقلل من الاعتماد على الاستيراد من خلال التشجيع على إيجاد سوق منظم لمواد البناء المستعملة. • تحدثت، أخيراً، عن بلدية مستقلة لمدينة الكويت… هل تجدين التوجه للبلديات بات أمراً حتمياً في الكويت؟ – المقترح الذي تقدمت به مع العضوين م. فرح الرومي وم. عبداللطيف الدعي، الذي يخص إنشاء بلدية مستقلة لمدينة الكويت، ولا نقصد هنا التوجه للبلديات بشكل عام بالدولة في الوقت الحالي، فمدينة الكويت لها طابع خاص، لكونها مركز الحكم، وكذلك المركز المالي والتجاري للدولة. وبعد تجربة امتدت نحو سنة كاملة في المجلس البلدي، اتضح لي أن هناك تحديات تواجه بعض مشاريع البلدية كتنفيذ المخطط الهيكلي الخاص بمدينة الكويت الذي اعتمد عام 2012 ولم يتم البدء فيه حتى اليوم، والمباني المتهالكة في الدولة التي تشوّه المظهر العام، ورغم تشكيل لجان لوضع الحلول، لا يزال الوضع كما هو عليه، وكذلك ردود البلدية بخصوص المقترحات التي تقدمت بها بشأن تشابك الاختصاصات مع جهات الدولة المختلفة، فأرى اليوم أن هناك حاجة ماسة للتوجه إلى إنشاء بلدية مستقلة ليست معتمدة على جهات الدولة المختلفة لتنفيذ مشاريعها للتركيز على مدينة الكويت، لأنّ الوضع الحالي لا يوجد أي أولوية أو خاصية تعطى للمدينة لخلق هوية مميزة لها ولشوارعها ومبانيها. تشوه عمراني • هل تعاني الكويت تشوها عمرانيا بالفعل؟ – بكل وضوح اليوم نحن بأشد الحاجة الى إدارة عمرانية جديدة، ومن وجهة نظري لا يعطى شق التصميم العمراني أهمية كافية في لوائح وخطط جهات الدولة المختلفة التي تنفذ أو تشرف على مشاريعها العمرانية، ويؤثر ذلك على المظهر العام للمدينة، حيث إن المدينة عبارة عن مباني وشوارع وأرصفة وإضاءة وتخضير وغيرها من المكونات التي تشكّل الطابع العمراني، ولتحقيق هذا الطابع يجب أن يكون هناك هدف واضح تتبعه اللوائح والخطط العمرانية ذات الصلة. فأصبح من الضرورة العمل على تعزيز هوية عمرانية للبلاد تعكس المناخ والجانب الاجتماعي والثقافي، وتحافظ على الإرث العمراني عبر السنين، بما في ذلك الإرث العمراني الحديث، لذلك أنا مهتمة بمفهوم المحافظة على المباني لتفادي عملية الهدم لتحقيق هدفين هما الهوية والاستدامة، إذ أن الاهتمام بالعمارة لا يخدم فقط الشق الجمالي، ولكن يشكّل جزءا من الانتماء والذاكرة المشتركة للأجيال. رحلة التطور • اهتمامات الشلفان في تغيير الواقع ورسم ما يطبق في دول أخرى على واقع كويتي مختلف وصعب… كيف ترين ذلك؟ – من أهم الأسئلة التي يجب أن نسألها اليوم هي: هل هناك مجال للتطوير وتقديم ما هو الأفضل للبلد؟ والجواب بالطبع هو نعم، فرحلة التطور تتطلب إعادة النظر في العوامل التي لم يكتب لها النجاح والاستفادة من التجارب التي أثبتت نجاحها في أماكن مختلفة. وقد عملت لسنوات عديدة على مشاريع للدولة مثل مشروع المنطقة الشمالية (مدينة الحرير) ومشروع تطوير إدارة الأراضي في الكويت وإدارة النفايات الصلبة وغيرها مع مستشارين عالميين، وكنت أحرص دائما على وضع حلول تلائم الواقع المحلي، ومن غير المنطقي اقتباس تجارب عالمية وتطبيقها كما هي، فظروف كل دولة مختلفة من النواحي الثقافية والاجتماعية والمناخية والاقتصادية، لذا فأي نموذج عالمي يجب أن يتلاءم مع تلك الظروف وتدرس آلية تطبيقه من خلال المشاورات مع المعنيين وأصحاب الخبرة. إضافة إلى أن أساليب تخطيط المدن تطورت مما كانت عليه بالسابق والكثير من المدن حول العالم أعادت النظر في طريقة التخطيط، واستثمرت في إعادة تطوير مناطقها المختلفة لرفع جودة الحياة لسكانها، ونحن في الكويت لا زلنا في مرحلة تطوير مدن جديدة، ويجب الاستفادة من المدن الأخرى في تجاربهم الإيجابية، خصوصا المدن التي تشبهننا من ناحية الثقافة والمناخ وتفادي الأخطاء التي وقعوا فيها. النقل العام • لماذا ترين أن النقل العام قطاع متهالك وغير مرغوب فيه؟ – النقل العام حالياً يلبي حاجة لدى فئة معيّنة من المجتمع، لكنه يحتاج إلى تطوير لتشجيع جميع فئات المجتمع على استخدامه، كما أن تطوير منظومة متكاملة للنقل هو أحد الأهداف الأربعة للمخطط الهيكلي الرابع، الذي من جانبه يوصي بإنشاء هيئة نقل عام. ومن هنا، فإنني أرى ضرورة إعادة النظر في قرار إلغاء هيئة الطرق والنقل البري وتفعيل دورها الأساسي في إدارة تنظيم النقل، بدلا من إنشاء هيئة جديدة، فتطوير خدمات النقل الجماعي وتعزيز دوره في الدولة هما إحدى أهم أهداف هيئة الطرق الحالية. كما أن النقل العام يجب أن يكون وفق منظومة متكاملة بوجود جهة تنظيمية ورقابية تراعي الكثافات السكانية واحتياجات السكان للتنقل من وجهة إلى أخرى، مع وجود بنى تحتية متكاملة لربط وسائل النقل المختلفة كالحافلات، والحافلات السريعة، والمترو مع المركبات، مدعمة بمسارات مشاة آمنة وتناسب طبيعة المناخ ومتاحة لجميع فئات المجتمع، لاسيما من ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن والأطفال. • هل سنرى الكويتيين يستقلون النقل العام.. ومتى سيكون ذلك؟ – كثير من الكويتيين يستخدمون وسائل النقل العام خارج البلاد، لأنها أكثر فعالية، وجزء من منظومة متكاملة ومتصلة، إضافة إلى سهولة الوصول من خلال شبكة مشاة آمنة وجداول معروفة والتزام بالمواعيد. وعند تطوير المنظومة بهذا الشكل في الكويت، مع مراعاة حرارة الجو، من خلال زيادة التشجير والتظليل بشكل عام، سنرى نسبة أكبر من الكويتيين يستخدمون النقل العام، خصوصا أن الجو الحار يشكل تحديا لـ 6 أشهر بالسنة، بينما الـ 4 إلى الـ 6 أشهر الأخرى يعتبر الجو مقبولا، علماً بأن النقل العام يتيح الخيار للشخص لكي يستخدم المركبات الخاصة في بعض الأوقات، والنقل العام في أوقات اخرى. لائحة الإعلانات • كيف تنظرين إلى لائحة الإعلانات الحالية والإضافات المقترحة عليها؟ – هناك تكدس غير مسبوق في كمية الإعلانات بشوارع الدولة، لذا سعينا مع الجهاز التنفيذي إلى تقنين عدد الإعلانات، وسنشهد بعد تطبيق هذه اللائحة تطوراً في الشكل العام بالشوارع يصل إلى تقليص عدد الإعلانات في الشوارع بما يتجاوز النصف. كما تلقينا شكاوى عديدة من المواطنين على محتوى الإعلانات غير المناسبة للأطفال، وحرصنا على إضافة بند يحظر أي محتوى إعلاني له أثر سلبي مثل العنف أو ما يولّد الخوف والتنمر على المجتمع، وأرى أن هذه تعتبر خطوة أولى ومهمة نحو إعادة تنظيم الإعلانات في البلاد، ولا يزال هناك مجال للتطوير الذي أسعى إليه في المستقبل. الأماكن العامة خطر على الأطفال قالت الشلفان: «كوني أمًّا فإنني مهتمة جداً بسلامة الأطفال، حيث سألت البلدية عن معايير تصميم الأماكن العامة ومواقع لعب الأطفال، إذ نرى اليوم بعض الأماكن تستخدم ألعاب مصنوعة من الحديد القابل للصدأ، وهذا يشكل خطرا على الأطفال». وأضافت: «كما أرى أنه من الضروري توفير متنزهات ومعالم ترفيهية متاحة للجميع من غير رسوم تخدم أهالي المناطق المختلفة». منح «الخاص» فرصة للإبداع أكدت الشلفان أنه «ليس من أدوار البلدية وغيرها من الجهات الحكومية تنفيد المشاريع الكبيرة، لكن يقع على عاتقها دور تنظيمي وإشرافي، لتعمل على إعطاء القطاع الخاص فرصة للإبداع وفق ضوابط واضحة محددة، الأمر الذي سيخدم تنفيذها دون تكلفة الأعباء المالية لخزانة الدولة». المخلفات الغذائية تمثّل%46 و«الكمبوست» هي الحل ذكرت الشلفان أن أعلى نسبة من مجموع النفايات البلدية في الكويت هي المخلفات الغذائية بنسبة 46 بالمئة تتبعها مخلفات البلاستيك بنسبة 20 بالمئة، لذلك تقدمت بمقترحين، الأول لعمل «الكمبوست»، وهو إعادة استخدام مخلفات الاغذية في إنتاج السماد العضوي، والثاني لإعادة تدوير قناني البلاستيك، كحلول عملية سهلة التنفيذ وذات كلفة غير عالية بهدف معالجة النسبة الأعلى من النفايات التي ننتجها حاليا. كما أن أهم الخطوات التي خطاها المجلس البلدي تتمثل في سَن تشريع فصل جديد في لائحة إدارة النفايات البلدية والنظافة العامة يخص معالجة وتدوير النفايات، ويلزم بلدية الكويت باتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيله.

المصدر: جريدة الحقيقة

كلمات دلالية: منظومة متکاملة المجلس البلدی إعادة التدویر جهات الدولة فی الکویت إضافة إلى من وجهة من خلال یجب أن کما أن

إقرأ أيضاً:

معالم في طريق استقرار الحكم في السودان

أ / محمد علي طه الملك
خبير قانوني وقاض سابق بالمحاكم السودانية

سلسلة مقالات من (1 إلى 10)
إن تجاوز أزمة الحكم ومعضلاته في السودان مقدور عليه لو صدقت النوايا، فهنالك العديد من النظريات في العلوم السياسية ، وتطبيقات الحوكمة ، ونظم الدولة يمكن بها حل إشكالات الدولة المركزية في السودان ، ولكن لم يعد سرا عند كافة السودانيين أن لا استقرار ولا نجاح ولا استدامة لنظام حكم في السودان ، ديمقراطيا كان أو دكتاتوريا ، فدراليا كان أو مركزيا ، ما لم تحل جذريا مشكلات هوامشه ويعاد النظر في بنيات الدولة ومؤسساتها الموروثة من الاستعمار ، ومثلما هي واضحة مشكلات تلك الهوامش فإنها أيضا متباينة من حيث مسبباتها ودرجات تعقيداتها ، فإن كانت أبعادها في الشرق والي حد كبير في الشمال القصي
تعود لما هو ثقافي وتنموي ، فإنها تعود في الغرب والنيل الازرق لما هو إثني وتنموي وثقافي وبيئي ، ولعل العقدة الكأداء التي تحول دون العبور الآمن للحلول بوجه أكثر خصوصية في هذه الآقاليم ، أن الحلول يجب أن تأتي بتوافقات من مكوناتهم الاجتماعية قبل أي جهة سياسية أو رسمية أخرى ، وهنا تكمن العلة ، لآن ذلك يعني أن الكيانات المتساكنة في أقاليم الصراعات يقع عليها العبء الآكبر، نحو تسكين وترويض قناعات مكوناتهم نفسها في قبول الآخر والتعايش مع حقائق البيئة التي تفرض ذاتها على الآزمة لحين تجاوزها بالتنمية المدروسة ، بمعنى أن الرغبة في التعايش وقبول الآخر المختلف اثنيا أو ثقافيا ، يجب أن تنبع منهم فيما بينهم قبل غيرهم ولن يكون ذلك ممكنا مالم تتولي نخبهم الاجتماعية بنفسها عملية التنوير، ورأب التصدعات فيما بينهم وصولا لتقصير ظل المعضلات ، حتى تصبح محصورة فيما هو تنموي أو تمثيل سلطوي ولكن في ظل التباغض الاجتماعي ، والفرز الإثني والثقافي الحاد ، والتنازع الهويوي الذي يحول التنافس على الموارد المحدودة الي حروب طاحنة، لن تنجح معها الخطط التنموية ولا التعايش السلمي المنشود، حتى لو عولجت معضلة تولى السلطة ، وما يثير الغرابة ويدفع المرء للظن بأن بلادنا محسودة ، أن مناطق النزاعات هي الآكثر ثراء من حيث تنوع مواردها ، والآكثر نفرا من حيث قواه العاملة ، والآكبر رقما من حيث اعداد الاثرياء فيه ، مع ذلك فلمكون الاجتماعي غير قادر على تقبل الآخر والتعامل معه بندية صحيح هنالك أخطاء استراتيجية ارتكبتها السلطات الحاكمة بمختلف سياقاتها وزمانها ولكن ليس صعبا الوصول لعلاجات ناجعة لمسائل الصراع حول السلطة كما نوهت في المقدمة ، غير أن الآهم التعويل على دور المكونات الاجتماعية المحلية ، وما يمكن أن تضطلع به من حيث تسكين ثقافة القبول بالآخر ، والاعتراف بالتنوع كميزة تعضد الثراء الاجتماعي وتصحح اختلالات الجينات الوراثية.
لذلك عندما اتجه الرأي نحو الاعتراف بالعدالة الانتقالية كآلية ، فلكونها الاقرب للمزاج الشعبي من حيث تمليك سلطة الحل للإرادة الشعبية ، عن طريق تحييد سلطة مؤسسات الدولة الرسمية ، ووضعها في حجر المتضررين واليائسين من عدالتها ، كثيرون ينظرون للعدالة الانتقالية وكأنها آلية هدفها محاكمة من ارتكبوا الجرائم في حق مجتمعاتهم فحسب ، بينما هي في حقيقتها آلية ذات فضاء يتجاوز مجرد محاكمة الجناة وجبر أضرار المتضررين ، إلي تقويم الوعي الاجتماعي ، عن طريق تسمية المشكلات ، اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية أو بيئية أو تنموية ، وربط ذلك بما تطلبه من اعادة النظر في بنية الدولة نفسها ومؤسساتها ، ومدى تناسقها مع إرادة من تحكمهم ، لقد أوجدت هذه الآلية لكي تعالج مشكلات الدول مؤسساتها وتشريعاتها ومجتمعاتها المأزومة ، بغية إعادة الصياغة والبناء وصولا للاستقرار والسلم الاجتماعي اللذان يشكلان كلمة السر في نجاح مشروعات التنمية والنهوض بالدولة وإنسانها.
تجارب الحكم اللامركزي
كثيرون في ظنهم أن تجربة الحكم الفيدرالي في السودان تجربة حديثة على مكوناته السكانية ، غير أنها في الواقع ممارسة غائرة في تاريخ نظم الحكم في السودان ، ولعل الباحث في نظم الممالك والسلطنات القديمة ، يتلمس بجلاء صيغ الفيدرالية التي سادت ونظمت مرافق الدولة في أزمانهم ، فلو نظرنا لشكل ونظم الحكم التي سادت أوان العصر المروي ، نجد أن شكل الدولة مؤسس على الفيدرالية علي أكمل وأقوم أشراطها ، وكذا الحال في المالك المسيحية التي سادت في القرون الوسطى ، وقد تأست السلطنة الزرقاء بسابقاتها وتبنت بدورها النظام الفيدرالي.
السودانيون إذن كانوا الآسبق في تجارب الحكم الفيدرالي ، و لم يألفوا نظام الدولة المركزية إلا بعد غزو حاكم مصر محمد علي باشا للسودان عام 1821م ، وتأسيس حكمدارية تتبع الباب العالي حسبما تفيد المصادر، من بعدهم مضت الدولة مركزية في ظل كل العهود التالية ، استعمارية كانت أم وطنية ، وعلى الرغم من مركزية الحكم التي سادت ، لم تخلو فترات الحكم من إتباع أنماط من النظم الإدارية اللامركزية ، بغية تقصير الظل الإداري ( نظام المأموريات والمديريات الإدارية) اضطروا إليها لاتساع الرقعة الجغرافية في البلاد فضلاً عن تكوينه الاجتماعي وتعدده البيئي وتنوعه الثقافي.
مع بدايات العهد المايوي 1969م ، نحت الدولة نحو اللامركزية الإدارية ، وشرعت قانون الحكم الشعبي المحلي ، كان من ابرز سماته جعل المديرية وحدة حكم بشخصية اعتبارية ، لها موازنة وهيئة حاكمة هي المجلس الشعبي التنفيذي ، هذا المجلس له سلطة إنشاء مجالس شعبية تحتية ، مثل مجالس المناطق ، المدن والآرياف ، ومجالس ا آحياء والقرى والفرقان ، والمناطق الصناعية ، لهدفين هما تحقيق قدر من اللامركزية ، وتفعيل مبدأ المشاركة الشعبية في تقديم الخدمات العامة ، و في قمة المجلس الشعبي التنفيذي محافظ يعين بواسطة رئيس الجمهورية.
بعد اتفاقية اديس اببا 1972م ، صدر قانون الحكم الذاتي للمديريات الجنوبية ، وحمل نصا في الفصل الثاني منه ، قضى بأن تصبح المديريات الجنوبية للسودان إقليماً يتمتع بالحكم الذاتي الإقليمي ، في نطاق جمهورية السودان الديمقراطية ، يعرف بإقليم جنوب السودان. ُكونت له سلطة تنفيذية للحكم ، جلس على قمته رئيس المجلس التنفيذي العالي ، الحاكم المسؤول عن حسن إدارة الإقليم ، وهيئة تشريعية ُعرفت بمجلس الشعب الإقليمي لجنوب السودان ، كان معنيا بصنع السياسات العامة في الإقليم ، بهذه الصيغة أصبحت البلاد تدار بنمطين من الحكم ، حكم لامركزي في الشمال ، يدار تحت قبضة مركزية من العاصمة بجانب حكم إقليمي في الجنوب ، وبدا الآمر مربكا من حيث التكييف الإداري الدستوري لشكل الدولة ونظام الحكم ، فلا هو نمط فيدرالي كامل الشروط ، ولا هو لامركزية إدارية بحتة ، الآمر الذي حدا بفقهاء الإدارة إلى القول أن مثل هذا الهيكل في دولة موحدة ، يعتبر أمراً لا نظير له في العالم ، ولكي ينم تجاوز هذه الازدواجية المربكة ، فضلاً عن أسباب سياسية أخرى ، أعاد النظام هيكلة إدارة الحكم في الشمال تحت قانون الحكم الإقليمي 1980 بموجبه أصبح للحكم ثلاث مستويات ، تمثلت في الحكومة المركزية ، حكومات الآقاليم ومجالس المناطق، و أعيد توزيع السلطات والموارد بين المركز والآقاليم ، وبين الإقليم والمجالس المناطقية التابعة له ، كان هذا الانتقال لنمط الحكم الإقليمي ، مرانا تطبيقيا ساعد إلى حد كبير ومهد الطريق لتبني النمط الفيدرالي بعد وصول الإنقاذ لسدة الحكم بانقلاب عسكري 1989م ، اصدر في العام 1991م المرسوم الدستور ، الذي تأسس بموجبه أولى بوادر الحكم الفيدرالي ، حيث أخذت الدولة نمط الشكل الفيدرالي ، وأستمر الحال حتى صدور الدستور الانتقالي عقب اتفاق السلام عام 2005م ، وهو الدستور الذي أضفى قدرا من الشرعية الدستورية للدولة ونظام الحكم ، غير أن واقع الممارسة التطبيقية للنظام الفيدرالي حتى يومنا هذا ، بث في روع المواطنين مفهوما مشوها للفيدرالية ، أسهمت فيه الدولة بطبيعة تنظيمها السياسي الشمولي ، وتوجهاته الاقصائية التي رهنت المشاركة في إدارة الدولة ، بضرورة الولاء لتنظيمها السياسي والإذعان لسياسته بالتبعية ، ولو أنها ركنت بجدية وأذعنت في تطبيقاتها لشروط الفدرالية بحيادية وتجرد وطني ، لجنبت نفسها والبلاد الكثير من المشاكل والمزا لق السياسية ، فالنظم الفدرالية وجدت أصلاً لمعالجة إشكاليات الدولة المركبة من عدة قوميات ، حتى تجد منفذاً قانونياً تستطيع تلك القوميات من خلاله التعبير عن ذاتيتها ، وتحافظ على هويتها الثقافية ، وتنمي مواردها وإنسانها بقدراتها وإرادتها، وذاك عين ما استقر عليه التعريف القانوني للفيدرالية من حيث النظرية :
Federalism is a system of government in which the same
territory is controlled by two levels of government. Generally, an overarching national government governs issues that affect the entire country, and smaller subdivisions govern issues of local concern. Both the national government and the smaller political subdivisions have the power to make laws and both have a certain level of autonomy from each other. The United States has a federal system of governance consisting of the national or federal government, and the government of the individual states.
إذاً وكما قيل ـ فإن مقصد ( الوحدة في التنوع ) ، يتحقق في نظام الحكم الفيدرالي الذي يبسط السلطة أفقياً بخلق وحدات جغرافية ، ذات صلاحيات دستورية واسعة في اتخاذ القرارات ، في ذات الوقت يضمن تماسك الدولة واستقامة أمرها داخل منظومتها الاتحادية فالنمط الفيدرالي أسلوب حكم ومنهج إدارة ، يتم بموجبه نقل كامل لسلطات الحكومة ، من حاضرة البلاد إلى وحدات جغرافية ، تأوي داخل حدودها مجموعة من السكان ، بينهم تجانس عرقي أو ثقافي ومصالح مشتركة ، لها ارتباط وجداني بذلك الحيز الجغرافي ماضياً وحاضراً ومصيراً ، تبعاً لهذا فالفيدرالية نوع من اللامركزية السياسية أو التخويلية ، لكونها وضع دستوري يقوم على توزيع الوظائف الحكومية المختلفة ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، بين الحكومة المستقرة في العاصمة وحكومات أخرى في الوحدات الجغرافية المكونة للدولة .
أخلص للقول ـ أن قصور التجربة في الاستحواذ على رضا السودانيين بالعموم ، يعود لعيب تطبيقاتها المشوهة ، في ظل شمولية التنظيم السياسي المهيمن على الدولة ، عمل خلال ثلاثة عقود بعناد وجرأة في الاستحواذ على السلطة في المركز والولايات ، محتالا علي الإرادة الحرة لخيارات الجماهير، لكي تبقى السلطة والثروة رهينتين بأيديهم ، يمنحوها و يمنعوها كيف شاؤا، الآمر الذي أطاح بثقة المحكومين في الحاكمين ، ودفعت بعض بؤر الهامش لاتخاذ المقاومة المسلحة منهجا لاقتضاء الحقوق ، وفي ظل اليأس وتوهان الآمل في صلاح الحال ، وانهيار الثقة وكدر الآنفس وضياع الآرواح ، ذهبت بعض أصوات الهامش إلى حد الكفر بوحدة الدولة ، والمطالبة بإقرار مبدأ الوحدة الطوعية ، تماثلا بما أقرته نيفاشا من تقرير مصير وهو المطلب الذي شرع النظام الفدرالي في الآساس لتفاديه عن طريق ردم الهوة وتجسير المثالب الداعية إليه بين المركز وهوامشه .
من النقاط الهامة التي تجدر الإشارة إليها ، أن تطبيق الفيدرالية على وجهها السليم ، يمنح المجالس التشريعية في الوحدات الجغرافية إقليمية كانت أم ولائية ، كامل الحق في تشريع القوانين التي تعبر عن إرادة جماهيرها وخصوصيتهم الثقافية ، الآمر الذي يحول دون فرض الدولة الاتحادية لإيديولوجية ما بصورة شاملة .
على ضوء ما استعرضته عليكم بعالية انتقل بكم لرؤيتي حول معالم الطريق نحو الدولة الفيدرالية وهياكلها .
يتبع >>>>>>>> (2)

medali51@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • برسالة إلى قسد والعُمّاليين.. ‎أوجلان يقترح خريطة طريق لكورد سوريا
  • معالم في طريق استقرار الحكم في السودان
  • بارزاني: طريق التنمية خطوة تأريخية لبناء عراق أكثر ازدهاراً
  • نيجيرفان بارزاني: مشروع طريق التنمية يأتي لبناء عراق أكثر ازدهارا واستقرارا
  • مجلس الدولة: لا يجوز البناء على أماكن تخالف المخطط المعتمد من المحافظة
  • التعليم العالي: صندوق رعاية المبتكرين يدعم المشروعات التي تحقق التنمية المستدامة
  • طراز جديد مشتق من طائرات إيرباص سغيّر خريطة الطيران العالمية
  • نائب وزير النقل يشارك في المؤتمر الوزاري العالمي الرابع بمراكش
  • نائب وزير النقل يشارك في فعاليات المؤتمر الوزاري العالمي الرابع بمراكش
  • محافظ البقاع يصدر قراراً يتعلق بمرور الشاحنات على طريق ضهر البيدر