مجزرة الرشيد.. عندما “قُتل الطعام” في أيدي الذين يتضورون جوعًا
تاريخ النشر: 2nd, March 2024 GMT
خاص – أثير
أثير – مكتب أثير دمشق
تتلاقى العيون الغائرة في محاجرها، عيونٌ لم يعد يُسعفها النّظر للرؤيا البعيدة،
تتلاقى على أملٍ لا يوجدُ ما يماثِله عند مواطني أيّ بلد لم يجرده قلم القوة والبطش من أبسط حقوقه، نعم إنّه نفس القلم الذي يوقع الاتفاقات، ويبيح المحظور ويحرم المباح على هواه.
تتلاقى العيون بلا مفردات، وصلت شاحنات الطحين، شاحنات الخلاص من الجوع الذي يزحف في شرايين كانت للحياة، وصارت شرايين لسريان الموت البطيء.
إنها شاحنات الطحين والمساعدات، لم يعد الطّعام يسيرُ في الممرات الطبيعية،
صار للطّحين والمساعدات جواز سفر، وعشرات الأختام حتى يصل لمعدة جائع،
إنها الشّرائع الجديدة القادرة على كلّ شيء،
إفقار البلدان وإغنائها،
منح الحياة والحرمان منها، تحت مظلّةٍ من الشّعارات التي يستمطر الإعلام كل يوم الآلاف منها.
شعارات الحرّية والعدالة.
شعارات المنح، حتى صارت من مفردات اللغة واللهجة السائدة..
يأخذون الثمن المضاعف ويعطونك منحة..
منحة مدفوعة الثمن سلفاً، ولكن ليس نقوداً بل دماً وأنفس أهل البلد.
وتتلاقى الأعين ليس بداعي الفرحة بوصول الطّحين، إنما قد يكون لتبادل الألم الواقف في حلق المواطن الفلسطيني الذي لم يعد يملك من المواطنة شيئاً، حتى الهوية باتت تحت الأنقاض..
لتبادل نظرة حتى حاملها لا يستطيع بالقلم والورقة أن يشرح كنهها
إنها الشاحنة التي تحمل الطعام وصلت،
قد يؤجل وصولها انهيار الأجساد واضمحلالها من الجوع؛ ورغم أنها لقمة مغمسة بالدم، هكذا كانوا يقولون عن اللقمة التي يحصلون عليها بعد جهد وعرق، أما في غزة فقد أصبح التفسير الحرفي لهذه الجملة حاضراً
الحالة التي صاغت الواقع.. اللقمة والدم،
مشهد من سلسلة المشاهد التي لا يمكن أن تحصل وتتكرّر إلاّ في بلد ترزح تحت سطوة الاحتلال الصهيوني بكل أشكالها، وتصرفاته التي لا رادع لها
هذه المرّة رأى أن يغمس لقمة أهل غزّة بدمائهم وكان ذلك..
أطلق قذائفه على الطحين والأرز والتفاح والبرغل، نعم لقد “قتل الطعام” وهو في أيدي الذين يتضورون جوعاً، فأصاب بطريق الخطأ “كما يدعي عند كل مجزرة يرتكبها” معظم الناظرين والممسكين والمقتربين مما يجب أن يكون مُؤجّلاً للموت عن طريق الجوع.
إنه الخطأ المقصود الذي يتعامل به الجلادون مع الضحية، حتى بصياغة العبارات لم يعد يعنيهم الصواب من عدمه، فلا حساب ولا عقاب وخاصة من الدول التي جُمعت في محكمة عدل دولية (لم تعدل)
فجاء الموت بطريق القتل العمد والقصف
الموت المضاعف المضروب بأضعاف مضاعفة من الطرق
الموت تحت الأبنية التي تدكّ كل يوم على رؤوس ساكنيها
الموت قنصاً على طرقات الهروب من جحيم القصف والاعتقال..
الموت جوعاً.. عطشاً وبرداً
الموت إحباطاً وقهراً ممن يدعون صلة الرحم
شاحنة المساعدات التي قصفتها إسرائيل لم تمت، حملتها الدماء على أجنحة الحرية ووزعتها على أفئدة أحرار العالم
لا نستغرب المظاهرات التي اندلعت في العالم..
بالأمس رأينا صوراً لفلسطينيين لم يُبقِ منهم الجوع إلا الجلد والعظم، وكُتب تحت صورهم ماتوا من الجوع..
وبعدها صور شاحنة مساعدات تناثرت حولها أشلاء وجثامين لأناسٍ كلّ ذنبهم أنهم حاولوا اختراق حصار الجوع..
أليست وصمة عارٍ على ضمائر الدول موت إنسان ضعيف من الجوع؟
أليست وصمة عارٍ على بايدن الذي يذرف دموع التماسيح على ضحايا مجزرة الطحين، ويعد بإرسال المساعدات بإنزال جوّي، والبحث عن طرق بحرية آمنة لإرسال المساعدات، متناسياً أن إسرائيل قصفت ميناء غزة منذ الأيّام الأولى للعدوان، وأنه “لو أراد” لأوقف الحرب في أي لحظة يشاء، ولأمر بفتح المعابر التي تتكدس عليها ملايين الأطنان من المساعدات التي تنتظر الإذن من طغاة هذا العصر.
وفي زمن العجائب هذا لن يكون مستغرباً أن يصرّح نتنياهو أن قلبه يؤلمهُ على الجوعى وقد ينحو نحو بايدن، ويقول إنه سيدعم الغزييّن بإنزال جوي!!!!
فعلاً كما يقول المثل الشّعبي “اللي استحوا ماتوا”.
الكاتبة والاْديبة غادة عماد الدين العيسى مديرة المسرح القومي في طرطوس
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
الحزن الذي لا يخبو بسهولة !
قبل نحو عشرة أعوام من يومنا هذا، فقدت بين ليلة وضحاها ذلك الإنسان الذي كان يتمنى أن أكون أفضل منه.
دائما تستوقفني هذه الكلمات «الأب هو الرجل الوحيد في العالم الذي يأخذ من نفسه ليعطيك، قد لا يكون أعطاك كل ما تتمناه، لكن تأكد أنه أعطاك كل ما يملك لتعيش أنت بسلام».
نتكلم عن الأب الحقيقي الذي يراعي الله سبحانه وتعالى بالفطرة، الأب الذي يعد رمزًا إنسانيًا مهمًا للتضحية والفداء من أجل إسعاد أبنائه، هذا الفقد لا يعي الكثير منا سره وأثره في النفس، لكن من فقد أباه سيدرك تمامًا ما أعنيه من حزن يتجدد في كل يوم وليس كل عام.
عشر سنوات ولا يزال المشهد حاضرًا كأنه البارحة، تفاصيل أشبه بكابوس مخيف وانتزاع لمعنى الحياة، في وقت شدة المرض كنت صامدًا يا أبي، وما أن زال عنك الشقاء فاضت روحك إلى السماء.
عشر سنوات والحزن لم يهبط درجة واحدة؛ لأنه يبدأ كبيرًا، ويظل على حاله لا ينكمش أو يتلاشى، وهذا القول تمامًا كما ذهبت إليه المغردة مها العباسي تقول: «الحزن يولد كبيرًا ومع مرور الوقت يتضاءل حتى يصبح في ركن بعيد من الذاكرة والقلب، وبأن الدموع تنتهي لتصبح مجرد ابتسامة حزينة، ولكن أحدهم لم يدرك بأن هناك حزنا أكبر من أن ينتهي، وهناك وجع دموعه لا تنضب، ولا تجف بل يستمر، وتستمر الدموع لتصبح انكسارا في الروح، وحزنا يستوطن العيون فتفقد بريقها ولا يعود لها من جديد أبدا».
وأما المغرد محمد صادق فيرى أن «الحزن هو الوحيد الذي يولد كبيرًا ثم يصغر»؟ هي مقولة حمقاء تمامًا تم تأليفها من أجل المواساة.. حقيقة الأمر أن الحزن لا يصغر أبدًا.. الحزن يولد كبيرًا حتى نقتل نحن الجزء الذي يتألم داخلنا.. فننسى.. ونكمل حياتنا للأبد ناقصين». إذا كان الحزن يسبب ظلامًا في القلب أكثر من أي خطيئة.. فكيف يمكن أن نخرج من توابيت الموت إلى الحياة ؟ أعتقد أن إيمان الشخص والتضامن من أفراد المجتمع هو من يقلل كثيرًا الفجوة بين شدة الحزن والرغبة في الخروج من نطاقه الضيق، فكلما كان الإنسان مدركًا لقوانين العيش في الدنيا فحتمًا سيحاول مساعدة نفسه في إيجاد مخرج لما يضغط على قلبه وأعصابه.
ألم الفقد شديد للغاية، وقلة من الناس من يستطيع أن يحبس أوجاعه في زاوية واحدة، وأن يبدو أكثر تماسكًا وصلابةً، أما بعض الناس فيصاب بالانهيار النفسي لدرجة تشفق عليه فيها.
لم أجد في حياتي شيئًا يؤلم الإنسان، ويجعله في حالة مزرية أكثر من ترابط القلب مع العقل، فكلما ساق العقل مشاهد الماضي شعر القلب بالتعب والإرهاق، والعقل عندما يستجلب الذكريات، تتذكر المراحل واحدة تلو الأخرى، تتذكر كيف كنت تعيش بوجود شخصية عظيمة مثل الأب، تتذكر كيف كنت صامدًا قويًا بوجوده إلى جوارك.
لذا انفلات العقل عن القلب أمر مستحيل، فرقة القلب تأتي من المشاهد التي يستحضرها العقل، ويجعلك تفكر فيها بعمق شديد، أحيانا يخيل لك بأن هذا الفقد ما هو إلا خيال أو حلم سيزول عندما تستيقظ من غفوتك، لكن الوقت يمضي بأنفاس متقطعة تمامًا كما يقطع الألم أوصالك بمنشار طبيب مبتدئ.
الحياة ليست كما نظنها سهلة المراس أو سلمية حتى النهاية، بل هي عالم يشهد اضطرابات ومطبّات وانفراجات لأمور تتوقعها وأحيانا تصدم عندما تأتي إليك بكارثة وفقد عظيم.