جريدة الرؤية العمانية:
2025-02-26@18:47:03 GMT

تحيّة إلى فلسطين

تاريخ النشر: 2nd, March 2024 GMT

تحيّة إلى فلسطين

 

هند الحمدانية

تَطَوُّر العقل البشري يرتبط بشكل وثيق بتطوُّر اللغة؛ كونها الوسيلة التي بوساطتها نتعلمُ ونُعززُ القضايا والأفكار والمهارات عبر الأجيال؛ فاللغة هي الشريك الأساسي لقوتنا المعرفية المتطورة، الكلمات والحوارات والبحوث والقصائد جسور مُمتدة لتواصل مستمر، ولكن كيف كُنَّا قبل أن نمتلك اللغة ومهارة التحدث؟ وهل هناك لغة فطرية سبقت لغة الحديث والكلمات؟

العنصر المفتاحي والنبع المُهم لتطوُّر الإنسان والجنس البشري، هي لغة الأمهات مع مواليدها الصغار خلال أشهرهم الأولى من الحياة وقبل أن يتعلم المواليد كيفية استخدام اللغة والحديث، لغة التمتمات وألحان الأمهات العفوية وهدهدات الحب الممزوجة بترانيم رقيقة حانية على كل رضيعٍ في مهد أو مُتَرَبِعٍ حِجرَ أُم، لغة الموسيقى الحية التي تنبثق كصبحٍ تنفس فبزغ نوره ليولد التعاطف والتواصل والثقة ويبني ملاحمَ إنسانية متكاملة لا تدركها الأعين ولكن تستشعرها القلوب التي في الصدور.

احتضنت دار الأوبرا السلطانية اللغتين معًا "لغة الكلمة والموسيقى"، في ليلتين استثنائيتين يومي 22 و23 فبراير، ضمن أمسية غنائية موسيقية أحياها الفنان الإنسان مارسيل خليفة، بث من خلالها تحية إلى فلسطين المُباركة. أمسية موسيقية ربطتنا بتلك الأرض المقدسة وبأوجاع وأحلام أبنائها المجاهدين بطريقة لا يمكن للغة وحدها أن تقوم بذلك التواصل، إلّا نادرًا جدًا؛ فالكلمة الصادقة والموسيقى المُبدِعة خلقت نظامَ تواصل اجتماعيًا وإنسانيًا وعقائديًا وتاريخيًا، ساعدنا جميعًا على التضامن والاتحاد والنضال والصمود في وجه الطغاة المُحتلين.

"يا أيها الجرح في صدورنا، يا أيها الفرح المسافر في أغنياتنا، نقول "لا" لطقس الذبح المدنس الذي يقيمه السفاح، لكن دمك الزكي كان يستحق منَّا أكثر: أنتٍ التي تنوبين عنَّا في كف عدوان الجلاد على الضحية، وفي هزيمة حق القوة بقوة الحق المُنتصر. غزة عزتنا وعنوان قيامتنا من تحت أنقاض الهزائم، بابنا إلى غد نصنعه بأنفسنا: فلسطينيين وأحرارا في العالم، غزة تفضحنا وتنصفنا حين تحيي الروح المصادر فينا".. بهذه الكلمات الصادقة افتتح مارسيل خليفة أمسية التضامن والتآزر، مؤكدًا فهمنا المُطلق بقوة أصحاب الحق وبالثمن الباهظ العظيم الذي يُدفع منذ عشرات السنين إلى أن يشاء الله وتُحَرَّر أرض فلسطين ويعود المسجد الأقصى مفتوحًا ومتاحًا لكل المسلمين.

تُعزَفُ الموسيقى، فننسى مخاوفنا الفردية وهمومنا اليومية الضئيلة، وما يُقلقنا، وتتأجج في كل الحضور قوة عظيمة ترافق الموسيقى وتتكاتف مع القصائد النبيلة، تُساعدنا أن نسير باتجاه أمّة متعاضدة وعالم إنسانيٍ متصل بشكل مُطلق، وسط نشيد الموتى: "عودوا أنّىَ كنتم.. فقراء كما كنتم.. غرباء كما كنتم.. يا أحبابي الموتى عودوا.. حتى لو كنتم متم.. صمتا.. صمتا..من هذا الطارق أبواب الموتى؟.. يا هذا الطارق من أنت.. أيكون العالم!! لم يبقَ لدينا ما نعطيه أعطيناه دمنا.. أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا.. ومضينا مقهورين.. لا نملك إلا بعض تراب لم نعطه....".

تُفتَح كل الجروح وتُستثار المشاعر في أمسية الانتصار للأرض، تؤثر روح مارسيل المشتعلة فينا على كل المستويات الداخلية والحيوية وضغط الدم وضربات القلب، تمنحنا دفعة من العزة أو شعورا بالقشعريرة على طول نخاعنا ثم تدفع البعض منَّا للبكاء، ومارسيل مستمر في الأداء: "نهض للثورة والثأر.. انهض كهبوب الإعصار.. وارجم أعداءك بالنار.. واهتف بالصوت الهدار... الثورة.. الثورة.. الثورة... الثورة نهج الأحرار.. من غزة من قدس العرب.. من أسر النقمة والتعب.. اخرج كالريح ولا تهب.. يا جيل النخوة والغضب.. وتدفق.. وتدفق.. وتدفق.. وتدفق نهرا من لهب....".

في هذه الأمسية المُفعمة بروح النضال، تعلّمنا أنَّ الأغنية تملكُ قوة عجيبة؛ فهي تحرث وتزرع وتنسج وترقص وتقاوم، وأننا من خلالها نستطيع العبور من مكاننا الحالي إلى أرضنا المقدسة المحتلة رغم كل العوائق والحدود، ونحن نمشي ونمشي ونمشي إلى فلسطين المباركة: "منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي... قلبي قمرٌ أحمر قلبي بستان.. فيه العوسج فيه الريحان.. شفتاي سماء تمطر نارًا حينًا حبًا أحياناً.. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي.. وأنا أمشي".

يتفرد رامي خليفة بمقطوعة نضال موسيقية طويلة وعميقة، يعزفها بجسده قبل استخدام البيانو، يضرب بأقدامه الأرض ويرتج جسده وتتطاير خصلات شعره، ألحان تحكي عن قصة الوجع منذ ولادتها بكل مراحلها، نتخيل مع كل نوتة يعزفها رامي أفواج المتغربين والنازحين من بيوتهم، نتذكر صبر الأمهات وقلة حيلة الضعفاء، نتذكر الفتيات والشبان، نتذكر ضحكات الأطفال وبراءتهم المغتصبة، نتذكر آلاف الشهداء وشرف المجاهدين الأوفياء، ورامي ما زال يمهد الطريق الوعرة بين مسقط وغزة بروحه وأصابعه وخصلات شعره، حتى شعرنا نحن الجمهور: أننا أقرب لأرض فلسطين من أرواحنا ومن حيث كنَّا جالسين.

هرمون الأوكسيتوسين يرتفع في مجرانا الدموي بعد كل أغنية ولحن يتزاحم في أروقة دار الأوبرا السلطانية، هذا الهرمون الذي لا يتزايد إلا في مواقف التلاحم الجماعي أو الغناء الإرتجالي العفوي في مجموعة يربطها رابط معنوي أصيل كالحب أو العزة والكرامة، كذلك الرابط الذي جمعنا تحت سقف واحد ونحن ندندن بصوت واحد: "يا نسيم الريح قولي للرشا.. لم يزدني الورد إلا عطشا.. لي حبيب حبه وسط الحشا.. إن يشأ يمشي على خدي مشى.. روحه روحي وروحي روحه.. إن يشأ شئت وإن شئت يشا".

يتصاعد التعاطف وروح الكفاح واليقين بالنصر وتمتد جسور وقناطر ، وحساسيتنا تجاه الألم تتناقص لأننا ضمن أمسية نبيلة، تعزز روح التضامن الأصيل بيننا وبين أهلنا المرابطين في غزة وفلسطين جميعا، فنردد بصوت راسخ مقاوم: "شدوا الهمة الهمة قوية مركب ينده ع البحرية.. يا بحرية هيلا هيلا هيلا هيلا.. شدوا الهمة الهمة قوية جرح بينده للحرية.. يا بحرية هيلا هيلا هيلا هيلا".

نملكُ الكثير لتلك الأرض المقدسة رغم كل الحدود والأقطار والقوانين والسياسات التي تحاول أن تفصل العضو المشتكي عن الجسد الواحد، لكن الجسد تداعى بالسهر والحمى؛ لأن قلبه الصامد ما زال يتوجع، وأسلحتنا بعد الدعاء والمقاطعة عديدة، لغتان تُشكِّلان فلسفة الحياة والوجود والنضال: القصيدة النبيلة واللحن الصادق.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

تقوع بلدة الخيام.. هوية أكبر تجمع ريفي في فلسطين

بلدة تحيط بها السهول من كل جانب وتقع في بقعة تتيح لمن يسكن البلدة أو لزوارها مشاهدة قرى وجبال وتضاريس طبيعية خلابة في فلسطين.

تقع إلى الجنوب من مدينة بيت لحم وعلى قمة تنتهي في جزئها الغربي والشمالي بسهل تغطي غالبيته أشجار الزيتون والذي يكسبه خضرة دائمة مما يشكل لوحة طبيعية للزائرين والمهتمي.

ويستطيع الناظر من الجهة الشمالية الشرقية أن يرى البحر الميت شرقا، وجبال الخليل جنوبا، وبيت فجار وقرى أم سلمونة وجورة الشمعة ومراح رباح وخلة الحداد والمنشية إلى الشمال الغربي، ومن الشمال أن يرى مدينة القدس وبيت لحم.


                                        مشهد نادر للقرية يعود إلى عام ١٩٣١.

يحد بلدة تقوع من الشمال بلدة جناتا، ومن الغرب مجمع قرى جورة الشمعة وأم سلمونة ومراح رباح وخلة الحداد، ومن الشرق الأراضي مفتوحة لحوض البحر الميت، ومن الجنوب أراضي سعير وبلدة المنية بالإضافة للرشايدة.

وتبلغ مساحتها حوالي 9 كم مربع، ومساحة الأراضي الإجمالية تقدر بحوالي 80 كم مربع إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حدودها حتى البحر الميت، وتكون بذلك أكبر تجمع سكاني ريفي في فلسطين مشكلة ما نسبته سدس مساحة فلسطين.

بلغ عدد سكان قرية تقوع عام 1961 وفق الإحصاء الأردني 555 نسمة، ارتفع إلى حوالي 9000 نسمة عام 2007. ويصل عدد السكان الآن بعد ضم قرية المنيا حوالي 14 ألف نسمة.

ولعل من أكثر ما يميز تقوع عن غيرها من المناطق المجاورة وجود سهل البقعة، أو سهل تقوع، والذي يعتبر أحد السهول المهمة في فلسطين، ويقع السهل في الطرف الغربي للبلدة ويمتاز بتربته الحمراء الخصبة ومناخه المعتدل، مغطى بأشجار الزيتون الكثيفة ويحتوي على العديد من المشاتل وبيوت البلاستك، ويزرع فيه الفقوس والخيار والزهرة (قرنبيط) والملفوف والكوسا إضافة للقمح وغيرها من المحاصيل الزراعية، وتعتبر منتجاته من أفضل المنتجات الزراعية في المنطقة.

وحول تسمية القرية بهذا الاسم، تقوع، توجد عدة روايات وأكثر من تفسير، ربما يكون التفسير الصحيح هو اسم كنعاني قديم معناه نصب الخيام كما سماها الإفرنج "Thecua " وكانت من حصونهم، ودعوا أقنية المياه القديمة التي سحبت من مياه العروب نهر تقوع. كما ذكرت تقوع من قبل صاحب كتاب "معجم البلدان" بأنها من قرى بيت المقدس ويضرب المثل بجودة عسلها.

ولعل من أهم مناطق الجذب السياحي بها والذي أصبح مغلقا الآن بسبب المستوطنات المحيطة به وادي اخرطون نسبة للدير الشهير الذي لا زالت أجزاء من طابقيه الأول والثاني ماثلة للعيان ليطل على الوادي بتشكيلاته الطبيعية الخلابة، وعمق الانحدارات الغريبة للتجاويف الطبيعية التي حاول سكان المنطقة في عصور مختلفة تحويل هذه التجاويف إلى مساكن.

وحسب الاكتشافات الأثرية لوزارة السياحة الفلسطينية يوجد في البلدة أقدم موقد للنار في التاريخ. أما المعلم الثاني في الوادي فهو البئر الأثرية القديمة ومساحة سطحها 300 متر مربع بنيت جدرانه الخارجية بحجارة تم قطعها بعناية.

وثالث المشاهد الخلابة العيون الصخرية التي يقطر منها الماء شتاء وصيف نتيجة تجمعها على التجاويف الصخرية حيث تبقى كذلك طوال فترة الصيف، والكهف العجيب الذي يعرف باسم  مغارة خريطون .

وتتميز بلدة تقوع بوقوعها على جزء من انخفاض المدن التاريخية التي تعاقبت خلال قرون خلت، ابتداء من العصر الروماني حتى العصور البيزنطية واليونانية والمملوكية حيث لازالت آثار تلك المدن شاهدة على الأهمية التاريخية لهذه المنطقة من خلال الآثار الواضحة للكنائس والأسواق والمساجد التي تعود لمختلف العصور.


                                                  مبنى مجلس بلدية تقوع

وكانت تقوع بعد حرب عام 1948 تتبع الأردن، ووقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب حزيران /يونيو عام 1967 وغالبية أراضي البلدة مناطق عسكرية أو مقام عليها مستوطنات منها : مستوطنة تقوع، ومستوطنة نوكديم، ومستوطنة معالي عاموس، ومستوطنة الديفيد .

وبعد اتفاقيات أوسلو أصبحت تتبع  السلطة الوطنية الفلسطينية الآن ولها مجلس قروي أسس في عام 1997.

ومثل أي بقعة على أرض فلسطين تواجه تقوع اقتحامات إسرائيلية متكررة، وإغلاق لمدخلها، ويتبع ذلك عمليات اعتقال وتنكيل وتدمير للبنية التحتية، وقد قدمت القرية العديد من أبنائها وبناتها شهداء أو مصابين أو معتقلين، وقد ارتفعت هذه الأعمال الانتقامية بعد العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول / أكتوبر عام 2023.

المصادر:

ـ معلومات عامة عن تقوع - قضاء بيت لحم، موسوعة القرى الفلسطينية.
ـ  دليل بلدية تقوع، معهد الأبحاث التطبيقية- القدس (أَريج).
ـ  قوات الاحتلال والمستوطنين يغلقون مدخل بلدة تقوع جنوب شرق بيت لحم بالضفة، شبكة لسطين للأنباء، 3/10/2022.
ـ موقع مركز المعمار الشعبي الفلسطيني (رواق)، البيرة.
ـ وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا).

مقالات مشابهة

  • فى عيد ميلادها.. سلوى خطاب تعترف بتعرضها للخيانة وتكشف سر عدم إنجابها
  • الحفاظ على حقوق الأهلي مسئوليتي.. أول تعليق من شوبير بعد بيان الزمالك
  • دعم بلا حدود.. فلسطين قضية مصر الأولى
  • صحة فلسطين: ارتفاع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي إلى 48348 شهيدا
  • بن مساعد: قالو ترى كلماتها ساذجة وكتبتها وأنا عمري 16 سنة .. فيديو
  • مش شنطة رمضان.. آية سماحة: كنت عاوزة أقابل أبو رجل مسلوخة وأنا صغيرة
  • زوجي حكم عليا أروح أخدم أهله وأساعدهم وأنا رافضة.. أمين الفتوى يجيب
  • تقوع بلدة الخيام.. هوية أكبر تجمع ريفي في فلسطين
  • حمادة هلال يكشف أسرار بداياته: من الأفراح إلى التمثيل
  • بحضور نخبة من المثقفين والإعلاميين.. أمسية فنية تراثية عراقية في جدة