جريدة الرؤية العمانية:
2024-07-03@18:23:41 GMT

تحيّة إلى فلسطين

تاريخ النشر: 2nd, March 2024 GMT

تحيّة إلى فلسطين

 

هند الحمدانية

تَطَوُّر العقل البشري يرتبط بشكل وثيق بتطوُّر اللغة؛ كونها الوسيلة التي بوساطتها نتعلمُ ونُعززُ القضايا والأفكار والمهارات عبر الأجيال؛ فاللغة هي الشريك الأساسي لقوتنا المعرفية المتطورة، الكلمات والحوارات والبحوث والقصائد جسور مُمتدة لتواصل مستمر، ولكن كيف كُنَّا قبل أن نمتلك اللغة ومهارة التحدث؟ وهل هناك لغة فطرية سبقت لغة الحديث والكلمات؟

العنصر المفتاحي والنبع المُهم لتطوُّر الإنسان والجنس البشري، هي لغة الأمهات مع مواليدها الصغار خلال أشهرهم الأولى من الحياة وقبل أن يتعلم المواليد كيفية استخدام اللغة والحديث، لغة التمتمات وألحان الأمهات العفوية وهدهدات الحب الممزوجة بترانيم رقيقة حانية على كل رضيعٍ في مهد أو مُتَرَبِعٍ حِجرَ أُم، لغة الموسيقى الحية التي تنبثق كصبحٍ تنفس فبزغ نوره ليولد التعاطف والتواصل والثقة ويبني ملاحمَ إنسانية متكاملة لا تدركها الأعين ولكن تستشعرها القلوب التي في الصدور.

احتضنت دار الأوبرا السلطانية اللغتين معًا "لغة الكلمة والموسيقى"، في ليلتين استثنائيتين يومي 22 و23 فبراير، ضمن أمسية غنائية موسيقية أحياها الفنان الإنسان مارسيل خليفة، بث من خلالها تحية إلى فلسطين المُباركة. أمسية موسيقية ربطتنا بتلك الأرض المقدسة وبأوجاع وأحلام أبنائها المجاهدين بطريقة لا يمكن للغة وحدها أن تقوم بذلك التواصل، إلّا نادرًا جدًا؛ فالكلمة الصادقة والموسيقى المُبدِعة خلقت نظامَ تواصل اجتماعيًا وإنسانيًا وعقائديًا وتاريخيًا، ساعدنا جميعًا على التضامن والاتحاد والنضال والصمود في وجه الطغاة المُحتلين.

"يا أيها الجرح في صدورنا، يا أيها الفرح المسافر في أغنياتنا، نقول "لا" لطقس الذبح المدنس الذي يقيمه السفاح، لكن دمك الزكي كان يستحق منَّا أكثر: أنتٍ التي تنوبين عنَّا في كف عدوان الجلاد على الضحية، وفي هزيمة حق القوة بقوة الحق المُنتصر. غزة عزتنا وعنوان قيامتنا من تحت أنقاض الهزائم، بابنا إلى غد نصنعه بأنفسنا: فلسطينيين وأحرارا في العالم، غزة تفضحنا وتنصفنا حين تحيي الروح المصادر فينا".. بهذه الكلمات الصادقة افتتح مارسيل خليفة أمسية التضامن والتآزر، مؤكدًا فهمنا المُطلق بقوة أصحاب الحق وبالثمن الباهظ العظيم الذي يُدفع منذ عشرات السنين إلى أن يشاء الله وتُحَرَّر أرض فلسطين ويعود المسجد الأقصى مفتوحًا ومتاحًا لكل المسلمين.

تُعزَفُ الموسيقى، فننسى مخاوفنا الفردية وهمومنا اليومية الضئيلة، وما يُقلقنا، وتتأجج في كل الحضور قوة عظيمة ترافق الموسيقى وتتكاتف مع القصائد النبيلة، تُساعدنا أن نسير باتجاه أمّة متعاضدة وعالم إنسانيٍ متصل بشكل مُطلق، وسط نشيد الموتى: "عودوا أنّىَ كنتم.. فقراء كما كنتم.. غرباء كما كنتم.. يا أحبابي الموتى عودوا.. حتى لو كنتم متم.. صمتا.. صمتا..من هذا الطارق أبواب الموتى؟.. يا هذا الطارق من أنت.. أيكون العالم!! لم يبقَ لدينا ما نعطيه أعطيناه دمنا.. أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا.. ومضينا مقهورين.. لا نملك إلا بعض تراب لم نعطه....".

تُفتَح كل الجروح وتُستثار المشاعر في أمسية الانتصار للأرض، تؤثر روح مارسيل المشتعلة فينا على كل المستويات الداخلية والحيوية وضغط الدم وضربات القلب، تمنحنا دفعة من العزة أو شعورا بالقشعريرة على طول نخاعنا ثم تدفع البعض منَّا للبكاء، ومارسيل مستمر في الأداء: "نهض للثورة والثأر.. انهض كهبوب الإعصار.. وارجم أعداءك بالنار.. واهتف بالصوت الهدار... الثورة.. الثورة.. الثورة... الثورة نهج الأحرار.. من غزة من قدس العرب.. من أسر النقمة والتعب.. اخرج كالريح ولا تهب.. يا جيل النخوة والغضب.. وتدفق.. وتدفق.. وتدفق.. وتدفق نهرا من لهب....".

في هذه الأمسية المُفعمة بروح النضال، تعلّمنا أنَّ الأغنية تملكُ قوة عجيبة؛ فهي تحرث وتزرع وتنسج وترقص وتقاوم، وأننا من خلالها نستطيع العبور من مكاننا الحالي إلى أرضنا المقدسة المحتلة رغم كل العوائق والحدود، ونحن نمشي ونمشي ونمشي إلى فلسطين المباركة: "منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي... قلبي قمرٌ أحمر قلبي بستان.. فيه العوسج فيه الريحان.. شفتاي سماء تمطر نارًا حينًا حبًا أحياناً.. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي.. وأنا أمشي".

يتفرد رامي خليفة بمقطوعة نضال موسيقية طويلة وعميقة، يعزفها بجسده قبل استخدام البيانو، يضرب بأقدامه الأرض ويرتج جسده وتتطاير خصلات شعره، ألحان تحكي عن قصة الوجع منذ ولادتها بكل مراحلها، نتخيل مع كل نوتة يعزفها رامي أفواج المتغربين والنازحين من بيوتهم، نتذكر صبر الأمهات وقلة حيلة الضعفاء، نتذكر الفتيات والشبان، نتذكر ضحكات الأطفال وبراءتهم المغتصبة، نتذكر آلاف الشهداء وشرف المجاهدين الأوفياء، ورامي ما زال يمهد الطريق الوعرة بين مسقط وغزة بروحه وأصابعه وخصلات شعره، حتى شعرنا نحن الجمهور: أننا أقرب لأرض فلسطين من أرواحنا ومن حيث كنَّا جالسين.

هرمون الأوكسيتوسين يرتفع في مجرانا الدموي بعد كل أغنية ولحن يتزاحم في أروقة دار الأوبرا السلطانية، هذا الهرمون الذي لا يتزايد إلا في مواقف التلاحم الجماعي أو الغناء الإرتجالي العفوي في مجموعة يربطها رابط معنوي أصيل كالحب أو العزة والكرامة، كذلك الرابط الذي جمعنا تحت سقف واحد ونحن ندندن بصوت واحد: "يا نسيم الريح قولي للرشا.. لم يزدني الورد إلا عطشا.. لي حبيب حبه وسط الحشا.. إن يشأ يمشي على خدي مشى.. روحه روحي وروحي روحه.. إن يشأ شئت وإن شئت يشا".

يتصاعد التعاطف وروح الكفاح واليقين بالنصر وتمتد جسور وقناطر ، وحساسيتنا تجاه الألم تتناقص لأننا ضمن أمسية نبيلة، تعزز روح التضامن الأصيل بيننا وبين أهلنا المرابطين في غزة وفلسطين جميعا، فنردد بصوت راسخ مقاوم: "شدوا الهمة الهمة قوية مركب ينده ع البحرية.. يا بحرية هيلا هيلا هيلا هيلا.. شدوا الهمة الهمة قوية جرح بينده للحرية.. يا بحرية هيلا هيلا هيلا هيلا".

نملكُ الكثير لتلك الأرض المقدسة رغم كل الحدود والأقطار والقوانين والسياسات التي تحاول أن تفصل العضو المشتكي عن الجسد الواحد، لكن الجسد تداعى بالسهر والحمى؛ لأن قلبه الصامد ما زال يتوجع، وأسلحتنا بعد الدعاء والمقاطعة عديدة، لغتان تُشكِّلان فلسفة الحياة والوجود والنضال: القصيدة النبيلة واللحن الصادق.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

???? نازح من حرب السودان يكتب قصته بحبر الدموع.. ستبكي معه

يوم 29 يونيو:
نايم قيلولة وصحيت بقطعة كهربا
أصوات طيران
أخبار سقوط سنجة
هلع وذعر في سنار
اتفقت مع الأهل على الخروج من سنار
ما نمت ولا ساعة بالليل، متوقع يدخلوا سنار
يوم 30 يونيو:
قمت بدري من النوم
ما زالت الكهرباء قاطعة والموية قربت تقطع وتلفوني قرب يفصل شاحن
ركبنا الحافلة عشان نسافر
اتحركنا الساعة 9 صباحا
وقفنا في كبري الخزان قرابة 5 ساعات
فتحوا الكبري الجديد ومرينا بيهو، تلفوني قطع شحن
وصلنا السوكي بعد المغرب، الكهرباء قاطعة، لا أكل ولا شراب
وصلنا الدندر الساعة 9 ليلاً
الدندر مدينة أشباح؛ لا كهرباء، لا موية، لا أكل، كمية هائلة من المركبات والنازحين من سنجة وسنار وعموم ولاية سنار
أصوات بكاء الأطفال من الجوع وضيق أخلاق من الجميع (شخصيا اشتبكت مع أحدهم)
كبري الدندر مغلق، لا حركة، تكدس كمية هائلة (من بداية مدينة الدندر لنهايتها) أمام كبري عبارة عن خط سير واحد، لا خيار سوى المبيت في الدندر
لا ماء، اقترب مخزون مياه الشرب من النفاذ، معي طفلان أحدهما مريض بالسكري، و جدي كبير في السن
فشلت في التحصل على مياه شرب، كان العشاء عبارة عن بسكويت يزيد العطش و بس
الساعة 11: قعدت استرحت قدام باب في الظلام، نهرني العسكري الراقد على العنقريب خارجه وقال لي “ما تقعد قدام المكتب”؟؟؟
نام الناس وهم يفترشون الأرض ويلتحفون سماء ظالمة كأرضها كأنها مرآة، لأننا في نهاية الشهر الهجري. كانت أقصى طموح أن يعبروا الكبري غدًا، أسوء مخاوفهم كانت أن تمطر السماء عليهم، أو أن يضطروا للمبيت في مدينة الأشباح المكتظة -للمفارقة- تلك يوماً آخر.
1 يوليو
استيقظنا مبكراً، أو لم ينم أحد بتاتاً، لا فرق
لا حركة، كما هي الحال، لا وجود لطعام أو مياه، أو إضاءة سوى إشراقة شمس الصباح
أصوات بكاء من جيراننا المؤقتين، توفي لديهم طفل رضيع، لم أسأل عن سبب الوفاة
صليت ركعتين و تناولت أذكاري
كل أملي أن يتحرك خط السير، الذي لا يرى له أفق
العطش، لا شيء سوى العطش، يطغى حتى على الجوع، الحل الوحيد هو ارتشاف مياه نهر الدندر
أثناء المسير، لم أدرك بأن هذا الاكتظاظ كان لا نهائياً، ارتأى لي وجه الشبه كأن عدد العربات كعدد الأعداد الحقيقية بين ال0 وال1، وعدد الناس هو عدد الأعداد الطبيعية، أعداد لا نهائيا
كبري الدندر، خط سير واحد، للمشاة أولوية، لا حركة، قُتل الأمل
لم أبالي، لأنني لم أصدق بأن هذه أول رشفة ماء منذ متى؟؟؟
من الشَفَقة بتاعتي… وقعت في حفرة في النهر، كانت الحفرة أطول مني، تداركت نفسي، الحمد لله إن تلفوني كان قاطع شحن وإلا؟
بعد رويت، وقررت العودة، ارتطمت بالحقيقة: لم أصدق ما رأيت وما جرى، الأرض مباني جرداء، جوع وعطش، و لا بصيص أمل لانفراج الأزمة، بين نارين…
بضحك براي أنا.. آي والله كتير شديد الفترة الفاتت دي، وأثناء ما بتكلم مع روحي وكدا وأنا مبلل وحالتي تحنن الكافر، لاقاني صدفة برلومي مجتبى من الجامعة، ومن الثانوي كمان، اتونسنا ونسة لطيفة وقال لي إن الجيش حلقوا ليه شعره وهو مارق من سنار ههه
رجعت لأهلي، اتربعت على السكة الممتدة للكبري سرحان، عادتي الجديدة التي أفعلها دون وعي مني، و فضلت سرحان لأكتر من نص ساعة ما عارف صراحة كنت بفكر في شنو
شاي! كان وجبة الإفطار، لأن ما كان معنا من طعام قد تخمر أثناء الليل
لقيت إن ناس الحافلة بتناقشوا حول أزمة الاصطكاكة في مدينة الجوع دي وكيفية حلها، اتفقنا على إننا ننتقل للجهة التانية من الكبري مشياً ونستقل من هناك حافلة أخرى.. ذهب أخي مع الوفد للجهة الأخرى من النهر للاتفاق مع أحد أصحاب الحافلات، وأخي الآخر لا أعلم أين هو منذ جئت من بحر الدندر
بعد فترة تقرب من نصف ساعة من ذهاب الوفد، وأنا م متذكر اللحظة ديك كنت بعمل في شنو… انكسرت حالة الجمود أوليمبيات هرولة، هرولة و ركض نحو الكبري (الدعامة جو!!!)
ما صدقت، الناس بتجري يا جماعة ما عارف بتجري ماشة وين زاتو، لكن بتجري بس
أنا عملت شنو؟ ضحكت، آي والله ضحكت شديد كمان، ما صدقت إن دي حقيقة وأنا ما قاعد بحلم
اتداركت نفسي من الغرق تاني، مشيت صحيت أمي المنهكة براحة.. وبعد صحيتها ووعت لإنها صحت، قلت ليها “خشي جوا الحافلة، الدعامة قالوا جو”
دي تالت مرة والله يا ناس، لما كسروا باب بيتنا في الخرطوم وقبل ما يهددوني بالقتل حصل نفس الموقف، وفي سنار برضو، إني أصحي أمي وأbreak bad news معاها كدا، كل مرة بكون خايف إني أخلعها، أنا متأكد إن هي بقت كارهاني لأني ما بجيب غير الأخبار السيئة لكن ما علينا…
بعد ما بدينا نحاول نلملم شتات الخبر دا، وأحاول أحلل الموقف الغريب دا، وأستوعب منو موجود ومنو ما في، واتذكرت كل سيناريوهات النزوح والقصص المأساوية، استوعبت إن 2 من أخواني مفقودين، ومعاي شخص لا يقدر على المشي، وقبل ما أخلص تحليل للوضع كسر تفكيري صوت طلق النار، أصوات نغمة مميزة، نغمة الاجتياح… آي والله، بحس صوت الطلق عندهم مختلفة لسبب ما وبقدر أميزها، لكن ما علينا برضو…
جوا الحافلة، الناس ماخدة الساتر، ذكر الله، ذكر الله، ذكر الله
أنا ما مستوعب أي حاجة، وهسي بحاول أتذكر اللحظة ديك كأنها مقصوصة من ذاكرتي ما عارف كنت بفكر بشنو، ما عارف الحاصل كان شنو، لكن أنا متأكد الناس كلها بدل الجوع والعطش شبعت خوف، وارتوت هلعاً
أصوات رصاص متقطعة، ما في أي اشتباك، السؤال البديهي اتراود لي “كيف خشوا؟ وين الجيش؟”
أسئلة ليست للإجابة…
وبعدين اتغيرت مشاورات لنعمل شنو، نجري مع الناس الجرت؟ نقعد ننتظر حتفنا المجهول؟ ما الفعل؟ حقيقة موقف عجيب.. ما اتذكرت إلا قوله تعالى: (إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ (10) هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا (11))
في اللحظة ديك زمن التفكير في التصرف السليم أخد فترة طويلة خلاص، لحدي ما جا أحد أخواني اللي كان مع الوفد المشى يتفق مع حافلة بالضفة التانية، واطمننا شوية
واتفاقهم دا نفسو اللي كنا شايفينو ك حل قبل الدخول الرايق المثير للحرايق دا بقى مشكلة و زاد حيرتنا، واحتدمت النقاشات وأنا كنت مستمع بس، ما أبديت رأي نهائيا لأني كنت في قمة حيرتي، ما العمل؟ نقطع الكبري زاتو كيف! نجري كيف وأنا معاي راجل كبير في السن لا يقوى على المشي خلي الجري؟ وجاءت حلول المشاكل دي في صورة اقتراحات برضو، نشيلو في كرسي ونقطع بيهو؟ والله حاجة تقطع القلب…
توصل سكان الحافلة المنكوبة لحل أن يتركوا أمتعتهم ويكتفوا بحمل ما يستطيعون حمله، وعلى الرجال المسنين الذين لا يقوون على الهجرة أن يحملوا على عنقريب يتبادلون حمله ك سيرة تحمل جثماناً…
استعملت حق الفيتو
“لأ. ما متفق معاكم.” طلعت من خشمي قبل ما أفكر فيها، آثرت أن نجلس وننتظر ما يحدث، قعدنا في الخرطوم قبلها كم؟ و في الجزيرة قبلها كم؟ إنهم ليسوا آكلي لحوم بشرية.. ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!
وبدأ مسلسل الشفشفة
وجلسنا، وانتظرنا والخوف ينهش من لحومنا، هل سنندم على ذلك؟
جا دعامي بي زلابية، وزعها على مواطنين كانوا اختاروا نفس مصيرنا جمبنا
جا دعامي بعدو “تقولوا جنجويد، وتقولوا مليشيا، الليلة بنوريكم… أنتو سودانيين؟ أي مراة الليلة ما بنسألها، لكن أي راجل والله الليلة ما بنخليهو، وأي كابوس متدسي الليلة بنوريهو”
جا دعامي تالت طلب مننا موية، الناس اتسارعت تديهو موية، و بعدها غير رأيو لما عرفت إنها موية مخصصة للأطفال نسبة لأنو ما في موية في البلد ديك، لكن برضو أصروا عليه يشرب، في النهاية شرب… ومن حسن حظنا إنو سواق الحافلة كان مُتملّقاً (مع الرص)، وتودد لهذا الدعامي عشان يمرقنا somehow، ووافق يعني “سبحان الله”. لكن أنا كان بالي في أخوي التاني الرايح دا.. لأنو مرت حوالي نص ساعة وهو ما جا
فقررت أفتشو
دا براهو حاجة لا يمكن وصفها، مشيت براي في نص شارع الدندر الرئيسي وأنا بكورك، وبستقطع كواريكي دي باستئذان من الدعامة، وسمحوا لي كل مرة إني أكورك أفتش أخوي، مشيت مسافة بعيدة، أنا بكورك يا جماعة باسم أخوي في مدينة أشباح ولا زومبي، شارع ملان عربات بالآلاف بقى صامت صمت القبور، والناس في شبابيك بعض العربات يعاينوا لي وأنا بكورك بشفقة وقلوب مكسورة، كأن لسان حالهم بقول “فوق مصيبته أخوه ضايع؟”، شعرت بإن هذا الشعب المسكين في أحلك لحظاته لا زال يدّخر بعضا من مشاعره للآخرين، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة! وبعد أن حاول يدلني أناس، فشلت ورجعت بخفي حنين
الزمن داك كان الشارع بدا يفتح، الدعامة نهبوا العربات العجبتهم، وبدأوا يحركوا العربات الما عندها سواقين، وفعلا بدينا نتحرك بشارع يختصر علينا العربات الواقفة اللي معظمها خلوها أسياده و بقت عبارة عن تروس قافلة الشارع
بعد لفينا، نزلت تاني من الحافلة، وصيتهم ينتظروني في الضفة التانية، أنا حأفتش أخوي وما حأرجع بدونو
وكان المشهد، مرة أخرى، مرة يوقفني دعامي وأشرح ليهو موقفي، وغالبيتهم ما اهتموا وخلوني أفتش، بعضهم انزعج مني لكن تركوني، بعضهم استهزء بي، ما في واحد منعني
“محمد! وين أنت؟ أنا أخوك، لو سامعني رد علي!”
الدندر كلها حفظت الجملة دي، الدعامة هسي قبل ينوموا بتكون النغمة دي شغالة وبتزعجهم في أدمغتهم
و الناس اللي ما قررت تجري بتشفق علي، مشهد مأساوي بحق والله، ما في أي حركة سوى الشفشفة، وما في صوت غير صوتي وأصوات الرصاص، و قدر الناس الموجودة كانوا بعاينوا لي ويتمنون إني ألقى أخوي
الدندر دي أنا قطعتها ذهاب إياب ٦ مرات، ما في فايدة…
الساعة ياداب 1 ظهر، ومن اتحركت الحافلة كانت تقريبا 11، حوالي ساعتين أنا بصرخ بأعلى صوتي بفتش عن أخوي، بصراحة ما فرق معاي، ما كنت حاسي بي حاجة، بس كدا، أحس بشنو زاتو، انتظرت بس مصيري، وفجأة سمعت “ممدوح!”
أخوي الضايع جاري علي، ما حضنتو، أول حاجة قلتها ليهو “يا غبي”، واستقبلته أسوء استقبال ممكن على وجه الأرض، والباقي ما مهم…
وحسيت إننا سلمنا.. وفعلا سلمنا والله، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله على كل حال
دي شهادتي، أنا بكتبها لنفسي قبل كل حاجة، لأني بقيت بنسى، والله بنسى كتير وتفاصيل كتيرة مهمة بلقى روحي نسيتها، حتى في أيام عصيبة زي دي، بتوقع إنها تكون محفورة في راسي للأبد، لكن بعد فترة بلقى نفسي ناسيها، بنسى كتير والله لدرجة أشك قد تكون مرضية… حتى وأنا بكتب الكلام دا في كلام كتير ناسيهو، وفي كلام ما متأكد من ترتيبه الزمني كان عامل كيف، لكن بتمنى إنه لما أجي أقرا الرواية دي أتذكر. بقيت في لحظات زي دي بحاول أشعر أكتر مما أفكر، لأنو بتمنى شعوري ينطبع وأتذكر، بدل أعتمد على ذاكرتي إنها تهيج مشاعري مستقبلا، حصل لي يوم زي دا في آخر 365 يوم أقل حاجة 3 مرات، ما متأكد، وما قادر أحدد لو دا كان أصعب يوم ولا لا، حتى وأنا بكتب في القصة دي هسي بعد هول الصدمة، ما متأكد.
دي قصتي المبتورة يا جماعة، قصة ركيكة جدا، أخوي عنده قصة، مجتبى عنده قصة، كل زول شهد اليوم دا عنده قصة أليمة جدا، وما أول مرة، دي كمية هائلة بتاعت حزن ومعاناة أنا ما قادر أستوعبها. وأنا هسي بكتب في القصة دي جمبنا أسرة وصلوا نفس محل مبيتنا الليلة وحكوا إنهم مشوا على الأقدام مسافة تقدر على الأقل 50 كلم، وفقدوا 3 سيارات وعفشهم، وواحد ثاني قتلوا أخوه قبل ساعات لأنه رفض يسلمهم مفتاح الدفار، وأسرة تانية حضرت الاشتباك الحصل، جدير بالذكر إننا في طريقنا بعد خروجنا من الدندر جات قوات من الجيش معززة بالطيران وحدث اشتباك عنيف بالبراميل المتفجرة والrpg، ربنا يثبت الأقدام، ويكون في عون المستضعفين.
في ناس قتلوا عشان رفضوا يسلموا عرباتهم، في طفل قاعد بيبكي ضايع من أهله، لكن معظم الناس جرت بدون تفكير وما رجعت، معظم الناس سلمت بأبدانها، مشهد النزوح كان على مد البصر، الناس في الشارع بتبكي، كل زول عنده قصة.
أنا بتمنى كل زول يكون بخير وسعادة، بس.
من إحدى التفصيلات اللي أنا داير أذكرها لنفسي، إني في نص المعمعة دي اتذكرت الملازم محمد صديق، الله يرحمك ويقبلك شهيد يا بطل.
النزوح الثالث، بلا وجهة، من المُلام لعنه الله؟ ما عارف والله، كل الفكرت فيه إن أنا مجرد تفصيلة صغيرة جداً، تعقيدة من تعاقيد قصة كبيرة شديد أنا ما قادر أفهمها، أنا مجرد ضرر جانبي collateral damage، وكلنا، وبسأل نفسي، من باب إني متفاجئ كيف إني ضئيل… “هل لنا من الأمر من شيء؟”
(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ )
إن الأمر كله لله
إن الأمر كله لله
إن الأمر كله لله
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
والحمد لله على كل حال

Mamdoh O. Siddig

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • صمت الضمير العربي.. فلسطين جُرح لا يندمل
  • أما آن؟.. أمسية سينمائية تجمع 15 فيلما
  • ???? نازح من حرب السودان يكتب قصته بحبر الدموع.. ستبكي معه
  • أمسيات ثقافية في مديرية الظهار بإب احتفاءً بذكرى يوم الولاية
  • مهرجان قرطاج 2024| أمسية رومانسية مع أغاني وائل كفوري.. الموعد والمكان
  • شاهد.. لطيفة تطرح كليب "الورق"
  • الورق.. لطيفة تطرح أحدث أغانيها من ألبوم مفيش ممنوع | فيديو
  • نور النبوي يعيش انتعاشة فنية.. تفاصيل
  • "30 يونيو ثورة بناء وطن" في احتفالات قصور الثقافة بالأقصر
  • آدام جنزيدا: سنخوض أمسية رائعة ضد البرتغال