في قاعة الأعمدة وعلى غرار المراسيم السوفيتية، ودّعت روسيا نيكولاي ريجكوف آخر رئيس لوزراء الاتحاد السوفيتي قبل أن ينفرط عقد الدولة العظمى وتباع ممتلكاتها بالمزاد.
شغل ريجكوف مناصب رفيعة في الدولة السوفيتية ووصل إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي قبل أن يعين مديرا لأضخم مصنع في روسيا السوفيتية، مجمع أورالماش الذي كان المعادل الموضوعي لأضخم المجمعات الصناعية الأميركية مثل جنرال إلكتريك وبوينغ وغيرهما.
كانت الدولة السوفيتية تختار لإدارة المصنع قياديا حزبيا بارزا نظرا لموقعه المهم والريادي في الإنتاج الاقتصادي. ووقع الاختيار على نيكولاي ريجكوف مهندس الميكانيك والحاصل على الدكتوراه في الإدارة.
قاد الراحل عن 93 عاما المصنع العملاق للفترة من 1970 ولغاية 1975، أي في سنوات ما يعرف بحقبة الجمود خلال رئاسة ليونيد بريجنييف للحزب والدولة وتراجع عائدات النفط وانخفاض أسعار الطاقة والحصار المفروض على الاتحاد السوفيتي بسبب غزو أفغانستان وترهل الحزب الشيوعي وتحوله إلى آلة ضخمة لكنها عاطلة، كما تحدث فلاديمير لينين مرة عن الحزب الشيوعي الألماني في عشرينيات القرن الماضي حين انتقد زعيم البلاشفة الرفاق الألمان على تقصيرهم في قيادة البروليتاريا الثورية للاستيلاء على السلطة.
ترقى ريجكوف في المناصب الحزبية والإدارية ليصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، أعلى هيئة قيادية في البلاد الشاسعة ورئيسا للوزراء خلفا لنيكولاي تيخينوف الذي أقاله ميخائيل غورباتشوف في إطار حملة منظمة ضد مراكز القوى المحافظة في النخبة الحاكمة، واختار نيكولاي ريجكوف ببرنامج إصلاح اقتصادي لم ينفذ عمليا بسبب انفراط عقد الاتحاد السوفيتي واستقالة غورباتشوف وحل الحزب الشيوعي ووصول بوريس يلتسين وفريقه "الليبرالي" إلى الكرملين، وبدء العد التنازلي نحو نهب ممتلكات الدولة باسم الخصخصة وتفكك الدولة ومؤسساتها واستيلاء حفنة من الأوليغارشية المتوحشة سليلي عصابات المافيا على مصير روسيا وانفلات الجمهوريات السوفيتية السابقة من فلك موسكو.
اعتكف ريجكوف عن العمل السياسي بعد إحالته إلى التقاعد. لكنه عاد إلى النشاط فترشح لرئاسة روسيا منافسا ليلتسين ولزعيم الحزب الشيوعي الروسي المرفوع عنه الحظر غينادي زيوغانوف عام 1991.
فشل في الحصول على أصوات تؤهله لدخول الجولة الثانية، لكنه أصبح نائبا في مجلس الدوما (النواب) ومنه عضوا في مجلس الاتحاد، الغرفة العليا للبرلمان الروسي (الشيوخ)، إلى أن أعيته الشيخوخة فانزوى ببيته الريفي قبل عامين وتوفي بعد عمر طويل.
يمثل نيكولاي ريجكوف أحد آخر رموز الحقبة السوفيتية في روسيا التي عاش الراحل محاولة إصلاح نظامها السياسي والاقتصادي وكان ينتمي إلى تيار في قيادة الحزب والدولة يتبنى نهج التدرج في الانتقال من نظام رأسمالية الدولة إلى فتح الأبواب أمام القطاع الخاص والقضاء على السوق السوداء والصرف الموازي للعملة الوطنية وتوفير السلع الاستهلاكية على قاعدة المنافسة وزيادة المداخيل من خلال الحوافز وغيرها من الإجراءات المقترحة في برنامج تم تداوله في أروقة السلطة وفي المحافل العلمية نهاية سبعينيات مطلع ثمانينيات القرن الماضي في ضوء دراسة أجراها فريق من باحثي أكاديمية العلوم السوفيتية بقيادة أستاذ الاقتصاد ليبرمان بايعاز من رئيس الوزراء أليكسي كوسيغين المعروف بمواقفه المرنة سياسيا واقتصاديا.
لم تدخل مقترحات الأكاديميين حيز العمل وتواصلت حال الجمود إلى أن انتهت الأوضاع باستيلاء حفنة من تجار الشنطة على مصير الدولة النووية العظمى.
حدثني الراحل ريجكوف بعد كلمته المؤثرة أمام مجلس الدوما تحت بند إعادة النظر في كارثة الخصخصة أن القيادة السوفيتية في تلك الفترة لم تستوعب التحولات العالمية والتغيرات في المجتمعات السوفيتية. ولم يكن بريجنييف عليل الصحة مع كهول المكتب السياسي واعيا لضرورة تعديل النهج الاقتصادي في الدولة العملاقة وترك للقيادات المترهلة والفساد يتفشى ويدمر البلاد.
لم يكن ربجكوف ليبراليا أو راديكاليا بيد أنه أدرك بحكم الخبرة والمعرفة في إدارة الدولة أن البلاد تسير حثيثا نحو الكارثة وأن الإنقاذ يأتي من تعديل البوصلة ونبذ الجمود العقائدي مع الحفاظ على الأيديولوجية أداة في إعادة البناء وليس سيفا مسلطا على العباد.
كانت جلسة الاستماع في الدوما لنتائج الخصخصة التي وصفها مرة عمدة موسكو الراحل يوري لوجكوف بأنها أكبر عملية نهب في التاريخ، جلسة صاخبة فبها الكثير من الخطب الحماسية والقليل من الأرقام والمعطيات لأن المؤسسة التشريعية هي الأخرى تضم مستفيدين من النهب.
وقف نيكولاي ريجكوف أمام النواب وبدأ يتلو أرقاما مرعبة عن حجم الخراب بعد الخصخصة وكيف أن مؤسسات عملاقة باعوها بسعر التراب مستعرضا الأسماء والعناوين، منها مثلا ميناء ناخودكا بأرصفته وسفنه ورافعاته ومبانيه بمبلغ 120 ألف دولار. نعم، ألف وليس مليون أو مليار !!
وجاءت لحظة الحقيقة حين وصل في كلمته إلى "المصنع الحبيب أورالماش" على حد تعبير لوجكوف لم يتمالك الرجل بشعره الفضي وتجاعيد وجه صبوح، دموعه فأجهش بالبكاء وقال: تصوروا أن "مصنعي الحبيب" باعوه بأربعة ملايين و550 ألف دولار! وأضاف بعد أن تمالك نفسه: "لو أن تلفيات المصنع من معادن وعوادم بيعت في المزاد لحصلت على أكثر من هذا المبلغ!"
استعرض بدقة مهندس ما كان أورالماش يصنّع وحجم إنتاجه في الاقتصاد السوفيتي والعالمي. وطالب بإعادة الممتلكات المنهوبة وسط تصفيق قوي من بعض النواب واعتراض آخرين قالوا إن التأميم يعني إطلاق إشارة لحرب أهلية باعتبار أن الطبقة المستفيدة لن ترضى بانتزاع ملكيتها.
انتهت الجلسة دون نتائج تذكر. وبدا الإعياء واضحا على الرجل المسن، لكن وجهه أشرق كمن ألقى عن كاهله حملا ثقيلا أحنى قامته الطويلة.
حدثني بعد الجلسة عن مجمع أورالماش وكنت قرأت عن جرائم الخصخصة في روسيا حين أصدر بوريس يلتسين في غضون 15 يوما أواخر العام 1993 مئات المراسيم ببيع ممتلكات الدولة مستغلا حل مجلس السوفيت الأعلى وضربه أخيرا بالمدافع واستولى اللصوص بثمن بخس على ممتلكات الدولة التي تقدر بترليونات دولارات وبنيت بعرق ودماء ملايين المواطنيين السوفيت الكادحين.
في تلك الفترة كانت إحدى السفارات العربية اشترت مبنى وسط موسكو لا يبعد كثيرا عن الكرملين بمبلغ 12 مليون دولار.
ذكرت المعلومة لريجكوف و قلت مازحا للراحل: "ربما كان الأجدى أن يشتروا المصنع لأنه أرخص من المبنى".
رد مبتسما: "وهل تعتقد أن أبناء العم سيسمحون لسفارة عربية أن تنافسهم على هذه اللقية؟!"
عاش نيكولاي ريجكوف متواضعا وعاطفيا حتى أن خصومه الليبراليين أطلقوا عليه لقب" البلشفي البكّاء" وبوفاته تطوى صفحة من تاريخ الدولة التي كانت.
سلام مسافر
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: الحزب الشيوعي الروسي سلام مسافر مجلس الدوما الحزب الشیوعی
إقرأ أيضاً:
5 أشياء جعلت باريس سان جيرمان أفضل بعد رحيل مبابي
ماجد محمد
سقط فريق باريس سان جيرمان الفرنسي في عقر داره أمام غريمه ليفربول الإنجليزي في مباراة مثيرة ضمن منافسات دوري أبطال أوروبا ، لتصبح الحدث الأبرز في مسيرة الفريق الباريسي هذا العام، إذ إنها الأولى من نوعها منذ مطلع العام 2025، لتضع حداً لسلسلة انتصارات مذهلة ولأداء استثنائي قدمه الفريق في مختلف البطولات المحلية والقارية.
وهذه الهزيمة أمام ليفربول، وإن كانت مؤلمة، إلا أنها لا تقلل من شأن الإنجازات الكبيرة التي حققها الفريق هذا العام، ولا تنفي التطور اللافت الذي شهده أداء باريس سان جيرمان بعد حقبة مبابي.
وهي 1- الروح الفريق الجماعية ، لا شك أن كيليان مبابي كان لاعباً استثنائياً وموهبة فذة، لكن في كرة القدم الجماعية، أحياناً يكون لسيطرة نجم واحد تأثير سلبي على ديناميكية الفريق ، فوجود مبابي كقوة مهيمنة في خط الهجوم كان يعني بشكل ضمني تمركز اللعب حوله، والاعتماد الكبير على فرديته لحسم المباريات، ورحيله حرر الفريق من هذه التبعية وبعد رحيله ، ظهرت روح جماعية أكثر وضوحاً في باريس سان جيرمان، المسؤولية الهجومية أصبحت موزعة بشكل أكبر بين اللاعبين، وشاهدنا تكاتفاً وتضحية من أجل المجموعة ككل.
2-مرونة تكتيكية ، في السابق، كان باريس سان جيرمان غالباً ما يعتمد على خطط لعب تهدف إلى استغلال سرعة ومهارة مبابي في المساحات، هذا التوجه، على الرغم من فعاليته في أحيان كثيرة، كان يحد من الخيارات التكتيكية المتاحة للمدرب.
وأصبح المدرب قادراً على تطبيق خطط أكثر تنوعاً وتركيزاً على الجانب الجماعي،شاهدنا باريس سان جيرمان يلعب بتشكيلات مختلفة، مع التركيز على الاستحواذ على الكرة، والضغط العالي، وتنويع مصادر الخطورة الهجومية.
3-المسؤولية الهجومية وظهور نجوم آخرين ، مع رحيل مبابي، الفراغ الهجومي الذي تركه لم يظل شاغراً، بل كان هذا الرحيل فرصة ذهبية للاعبين آخرين للتقدم وتأكيد قدراتهم، فبدلاً من التركيز على لاعب واحد، أصبح لدينا الآن مجموعة من اللاعبين الذين يساهمون في تسجيل الأهداف وصناعة الفرص.
لاعبون مثل عثمان ديمبيلي، وجونزالو راموش وباركولا، وغيرهم، وجدوا مساحة أكبر للتألق وإظهار مهاراتهم، ولم يعد هناك ظل يخيم على أداء الآخرين، بل أصبح التنافس على تقديم الأفضل هو السائد ، هذا التوزيع للمسؤولية الهجومية لا يجعل الفريق أقل اعتماداً على الفردية فحسب، بل يجعله أيضاً أكثر خطورة، إذ تأتي التهديدات من عدة جهات، مما يصعب من مهمة الدفاعات المنافسة.
4. استقرار مالي أكبر وإمكانية الاستثمار المتوازن
لا يخفى على أحد أن راتب مبابي كان ضخماً جداً، ويشكل عبئاً كبيراً على ميزانية النادي، ورحيله، وإن كان خسارة رياضية، إلا أنه حرر جزءاً كبيراً من الموارد المالية لباريس سان جيرمان.
هذه الأموال التي تم توفيرها يمكن استغلالها في تعزيز جوانب أخرى في النادي، سواء بالاستثمار في أكاديمية الشباب، أم تحسين البنية التحتية، أم التعاقد مع مجموعة من اللاعبين المميزين في مراكز مختلفة لتعزيز الفريق بشكل شامل، بدلاً من التركيز على صفقة نجم واحد باهظ الثمن، أصبح النادي قادراً على بناء فريق أكثر توازناً واستدامة على المدى الطويل.
5. تركيز أكبر على بناء مشروع طويل الأمد ، رحيل مبابي يمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في تاريخ باريس سان جيرمان، المرحلة السابقة كانت تركز بشكل كبير على تحقيق الألقاب الفورية، وبناء فريق من النجوم العالميين بأي ثمن.
هذا التحول في الرؤية، وإن كان يستغرق وقتاً أطول لتحقيق النتائج المرجوة، إلا أنه يضع باريس سان جيرمان على الطريق الصحيح نحو بناء مؤسسة كروية قوية ومتينة على المدى البعيد، قادرة على المنافسة على أعلى المستويات بشكل مستمر.