قراءة في مرافعة التاريخ
تاريخ النشر: 2nd, March 2024 GMT
د. محمد بن خلفان العاصمي
لأن المواقف التاريخية الثابتة لا تصنع إلا من المتمسكين بالمبادئ والأسس والقيم والأعراف، فقد كان موقف سلطنة عُمان الثابت من القضية الفلسطينية هو أساس المنطلق لتقديم مرافعة تاريخية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ حيث يسجل التاريخ هذه المرافعة كإحدى صرخات العدل التي ترفع في وجه الاحتلال الغاشم واغتصاب أرض فلسطين منذ عقود طويلة، وأمام صمت العالم على المذابح التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني ضد أبناء شعب فلسطين الأعزل، وقتل الأبرياء دون تفريق بين طفل وشيخ وامرأة، في مشهد يعود بالإنسانية إلى العصور الوسطى، عندما كانت تسود شريعة الغاب وعدم وجود قوانين تحكم العلاقة بين البشر، وعندما كان منطق القوة هو من يفرض نفسه.
جاءت مرافعة سلطنة عُمان لتُعيد العرب والمسلمين إلى حتمية تحملهم مسؤوليتهم تجاه الشعب الفلسطيني وعدم التخلي عن هذه القضية، وما هذه المرافعة إلا حلقة في سلسلة متواصلة من مواقف الدعم التي قدمتها سلطنة عُمان لهذه القضية العادلة، وهذا أمر واجب على كل مسلم وعربي يؤمن أن فلسطين مُحتلة، وأنَّ هذا العدوان غاشم وأن هذا الكيان مغتصب لأرض ليست بأرضه ولا يملك فيها أي حق، وأن هذا الواجب يحتم التحرك بكل اتجاه وبكل قوة لخلق التأثير الذي يُمكن أن يغير من واقع الصراع غير المتكافئ بين شعب أعزل مغلوب على أمره وقوة غاشمة تملك كل الأسلحة والدعم من القوى الغربية التي نسفت كل الأعراف والمواثيق ومرغت الإنسانية في وحل المصالح، وضربت بعرض الحائط كل القيم والمبادئ التي يتغنون بها أمام العالم وشاشات التلفاز.
لقد ركزت مرافعة سلطنة عُمان أمام محكمة العدل الدولية على بُعديْن مُهميْن؛ وهما أولًا: الوضع في فلسطين سواء الحالي الناتج عن العمليات العسكرية والممارسات التي يقوم بها جيش الاحتلال الصهيوني منذ السابع من أكتوبر، وجرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني والتجويع والتهجير القسري من قطاع غزة، وقتل المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ، أو الوضع السابق الممتد لما يقارب ثمانية عقود منذ الاحتلال الغاشم وقيام هذا الكيان المنبوذ، والاستيطان الممنهج بالأراضي الفلسطينية ونقل المستوطنين بهدف تغيير التركيبة الديموغرافية للسكان، حيث إنَّ هذا الاحتلال المطول ما هو إلا شكل واضح من أشكال الإبادة الجماعية والسعي البين للقضاء على شعب فلسطين ومسحها من على الخارطة الدولية وفرض هذا الكيان بالقوة على العالم تمهيدًا للمشروع الكبير الذي قام من أجله وهو إسرائيل الكبرى من النهر إلى النهر بمساعدة الدول الداعمة لقيام هذه الدولة.
الأمر الثاني الذي ركزت عليه هذه المرافعة، هو حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير كما نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، وحل الدولتين ضمن حدود ما قررته الأمم المتحدة فيما أُقِرَّ في قرار مجلس الأمن 242 بعد حرب 1967، واتفاقية أوسلو، وهذا الأمر الذي يحاول الكيان الغاشم الالتفاف حوله وعدم تطبيقه والتعذر بأن السلام لا يمكن تحقيقه في ظل وجود حركة حماس، وما هذه إلا أعذار اعتادها العالم من قوم لم يسجل لهم التاريخ موقف واحد التزموا فيه بالعهود منذ الأزل، شعب لم يعرف إلا بالخداع والمكر والخبث والدسائس والمؤامرات والفتن.
لقد قدمت سلطنة عُمان في مرافعتها طلبًا واضحًا للمحكمة الدولية في المقام الأول وهو أن تتحمل المحكمة مسؤوليتها كمرجعية قانونية للعالم أجمع، وأن تعتبر ما يحدث في فلسطين المحتلة من احتلال مطول وتهجير قسري واستيطان وقتل وتدمير هو شكل من أشكال الإبادة الجماعية الممنهجة، وأن ما يحدث هو عمل مخطط ومقصود، وبالتالي اعتبار الكيان الصهيوني مذنباً بنص القانون الدولي ومواد ميثاق الأمم المتحدة، وأن هذه العمليات موثقة ويشاهدها العالم أجمع وبالتالي لا مجال لإنكار ذلك حتى لو حاول حلفاء محور الشر ذلك من خلال تصريحات قادتهم وممثليهم في عديد المحافل.
الجانب الثاني الذي طالبت به سلطنة عُمان أمام المحكمة الدولية، هو ضرورة تحمل العالم مسؤولياته اتجاه هذه القضية، وأن تتوقف الدول الداعمة للاحتلال الصهيوني عن تقديم هذا الدعم الذي بسببه يُعاني شعب كامل من الممارسات الغاشمة والتعسفية ويتعرض للإبادة الجماعية المنظمة، وعلى هذه الدول أن تحترم القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية وجميع القرارات الأممية الصادرة في شأن القضية الفلسطينية منذ بدايتها إلى هذا اليوم، كما يجب عليها الوقوف مع الشعب الفلسطيني في حقه المنصوص في ميثاق الأمم المتحدة والقاضي بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لقد قدمت سلطنة عُمان مُرافعة للتاريخ، وسجلت موقفًا مُشرِّفًا- كعادتها- تجاه القضية الفلسطينية التي آمنت بأنها قضية عادلة وقضية تخص الشرفاء من هذه الأمة، وأن هذه المواقف إنما تصدر من الدول التي تملك تاريخًا ناصعًا في القضايا الإنسانية، تلك الدول التي تؤمن بأنَّ السلام هو السبيل لحياة كريمة على هذا الكوكب، وأن التعايش يقتضي بالأساس الإيمان بالحقوق والواجبات والثبات على المبادئ واحترام الأنظمة والقوانين، وأن الخير يسود العالم عندما يتخلص العالم من مصادر الشر ودعاة الظلم والمفسدين في الأرض.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«عرائس النار».. قراءة في النفس البشرية
محمد عبدالسميع (الشارقة)
نحتاج من حين لآخر إلى قراءة الذات والتهذيب من مارد الكراهية الذي يسكنها، كدعوة إلى الهدوء وقراءة الأمور بعقلانية وحب أيضاً، ذلك أن الحب هو أساس التعامل الضامن للنجاح والهدوء، وهذا ما حملته مسرحية «عرائس النار» التي عرضت ضمن أعمال مهرجان «أيام الشارقة المسرحية»، التي تتواصل هذا الأسبوع في دورتها الرابعة والثلاثين.
المسرحية، التي كتب نصها باسمة يونس وأخرجتها إلهام محمد، وقدمها مسرح خورفكان للفنون، تتناول حكاية أفراد العائلة الواحدة حين يقف الواحد منهم ضد الآخر، مستسلماً لهواجسه ونزعات الشر التي بداخله، إذ تدور حكاية العمل حول ثلاث بنات في عائلة تلقي الكبرى والوسطى منهن باللائمة على الأخت الصغرى التي كانت سبباً من وجهة نظرهما في وفاة الأم عند ولادة الأخت الصغرى، وتتطور المشاهد باتجاه تزايد الكره والغيرة والحقد، عند موعد زفاف هذه الأخت، ومن ثم الخوف على إرث الأب بعد رحيله، والقرار بالتخلص من الأخت الصغرى، طمعاً في ذلك.
الحلم وما بعده
وكان لا بد لـ «الحلم»، باعتباره حلاً جميلاً أن يتدخل، إذ ترى البنت الكبرى أمها في المنام تهدئ من روعها وتخبرها أن الأمر بيد الله ولا دخل للأخت الصغرى في وفاتها، بل وتدعو الجميع إلى التكاتف والمحبة بدلًا من الغلو والحقد.
أما ما بعد الحلم، فكانت بحسب المسرحية فرصة لمراجعة الذات والتكاتف أمام التحديات وإحلال الحب محل الضغائن، إذ تدخل في ذلك مشاعر متنوعة ومختلطة على محكّ الحال الجديدة للأخوات الثلاثة.
دلالات العنوان
العنوان، باعتباره عتبة النص، فقد كان يحمل متناقضين، هما: العرائس، بجمال اللفظة ومؤداها الحالم والجميل في الوجدان العربي، والنار، التي ترمز هنا إلى مشاعر الغيرة والأحقاد والكراهية والضغائن، كأساس لتدمير جمال العرائس الثلاث اللاتي وُلدن في بيت واحد، وهو ما يحمل فلسفة التناقض في الأشياء والمسميات، واختلاط المشاعر والأهواء على النفس البشرية التي تحتمل الكثير مما يهب عليها من أهواء ونزعات ومخاوف.
جمالية الحل
كما أن حل الحلم كان مناسباً للانتقال إلى حالة أجمل، من خلال إطفاء النار بين شخصيات العمل، أما الرؤية الإخراجيّة فكانت في الإيقاع السريع ومزج الأداء الحركي والموسيقى وإبراز العنصر البصري، وتجسيد العاطفة المتناقضة، والتعبير الصادق والمناسب للمشاعر.