#سواليف

                وذُلّت الأعناق ..مقتطف من #رواية #قنابل_الثقوب_السوداء

#ابراهيم_مؤمن_امين

الدعم عبر الأخبار…………

مقالات ذات صلة جدارية لشهداء الجيش العربي الاردني تنفذها ثقافة الزرقاء بالتعاون مع البلدية 2024/02/28

كان يعمل في الجهاز الشامل وهو داخل أحد معامل ناسا، فجلس يستريح برهة، ليتابع آخر أخبار إسهامات العالم في دعم رحلته.

فسمع إعلامي يقول عبر قناة فضائية عالمية بأن معدل الجريمة في العالم منذ علم البشر بأمر ثقب سحابة أورط كاد أن يقترب من الصفر، وعليه ظهرت ثروات لدى الناس لم تكن في حسبان أحد من علماء الاقتصاد؛ بل أدهشتهم؛ مما وفّر دعما لرحلة جاك الأمريكي بقيادة الناسا لم يتصوره أحد.

فهزه الخبر، اجتاز السرور كل جوارحه، مما دفعه لمعاينة أحوال العالم بنفسه.

فرصة……………….

لم يكن لرجل مثل جاك أن يفوّت فرصة كهذه دون أن يشفي غليل نفسه من الحقد والبغضاء والعداوة التي ملأت نفوس البشر منذ بدء الخليقة.

سبب الفرصة ومثل وتمني……….

إنها فرصة ذهبية خلّقها ثقب سحابة أورط، فتذكر في نفسه كيف يتحد الأعداء وينسون ما في نفوسهم من شر وهم على متن سفينة تهددها الرياح العاتية لينجوا بأنفسهم من الموت غرقا.

وتمنى في نفسه شيئا عبر عنه بقوله: يا ليتك أيها الثقب المتربص بنا في السماء تنتظر طويلا علّ نفوس البشر التي اعتادت على العواء والزئير والفحيح تكف عن تلك العادات الوحشية التي لطالما انتشت بها وطربت لها آذانهم قرونا من الدهر، منذ أن كانوا شيئا مذكورا.

السير على الأرض بحديث النفس فحسب…………..

فخرج، خرج ملثمًا كي لا يعرفه أحد مستقلا سيارته الطائرةً ليتجوّل شوارع واشنطن، وهو يعلم أنّ أهل واشنطن لا يختلفون في شيء عن باقي أهل الأرض، فالبشر كلّهم سواء.

قال في نفسه وهو يهز رأسه مستعبرا ومرارة الوجع طفحت في حلقه:  الإنسان هو الإنسان، قلما يعالج عنفوان الأرض وسطوتها نفسَه الآثمة، والتأثير الحقيقي لقوة مهيمنة جبارة، ولا ترتكز إلا في السماء.

وبفضل القاضي الذي في سحابة أورط خشع الناس وآمنوا واستسلموا للحقّ والعدل والسلام.

وظل يسهب في حديث النفس حتى قال متوجعا خائفا:  أخلاقهم الآن كأخلاق الملائكة، وكم أخشى أن أفجّر لهم الثقب فينتهجون أخلاق الشياطين؛ فمن يتّق تحت سلطان السيف يفجرْ عند كسره.

وقطع بسيارته مسافات شاسعة جدًا على حالته تلك، لا يدري أين هو بالضبط؛ فحديث النفس طغى على كل مداركه وحواسه فعاش في عالمها.

الطيران………..

وسمت نفسه، فدفعته لمعانقة الشواهق، فارتفع بالسيارة إلى أعلى وهو يستنشق الهواء بشهيق أحدث صوتا متواصلا من صفير الرياح الخفيف كأنما يعبئه بقدر ما يستطيع في جيوب أنفه لتمر في عروقه وتتخلل روحه، لنقائه المنقطع النظير والذي لطالما انتظر تلك النسمات الصافية الطيبة حينا من الدهر.

أحداث وهو نائم………..

 وسكر في أحلام التمني، فغفت نفسه فرأى السيارة وسط أسراب هائلة من الحمائم ذات أجنحة خضر.

 تساءل عندئذ في غفوته: رباه يا مالك الملك أين أنا؟ ربما في الجنة.

وأطلّ بعينيه فوجد كل ما حوله يتحرك داخل تموجات، فكانت الأشياء تظهر وعليها تموجات تصدر صوتا كالصوت الذي يصدر عن قيعان البحار.

كما ظهرت أمامه وكأنها محاطة بهالة من الموجات أو فيض مغناطيسي.

فكانت السيارة والحمائم ونسائم الهواء يتحركون داخل تلك التموجات.

وتساءل مرة أخرى في دهشة: رباه، أين أنا؟

وأجاب بنفسه: ربما في بعد الجاذبية الأرضية كما يقول أينشتاين.

ورأى، رأى تعانقًا في العوالي، تعانقت مآذن المساجد وقباب الكنائس، ورقد كلّ منهما بجانب الآخر يستأنسا ببعضهما ويعاضدا بعضهما.

وفجأة تفجع قلبه، حيث رأى طيورا جارحة لا حصر لها تقبل من بعيد متوجهة نحو الحمائم.

فقال خائفا مترقبا: رباه، سوف يذهب السلام بأنياب الغدر والخيانة.

وما إن انتهى من كلامه حتى رأى الكواسر تنظم نفسها ضمن خطوط سير أسراب الحمائم.

فطابت نفسه بعد أن ذهب الخوف من قلبه، وحمد الله.

وتساءل في شأن آخر وهو ينظر إلى هذه الأسراب الهائلة: أين أدخنة المصانع؟ أين إشعاعات القنابل النووية؟

فلما أدرك أنها لم تعد توجد انفرجت أساريره كالزهرة التي تتفتح لتلتقي بندى الماء بعد الفجر.

                            ***

ونظر كذلك في غفوته كأنّ سيارته هبطت على الأرض، فوجد الناس ترتدي الأثواب البيضاء، والتيجان الخضراء، وهم عائدون من المقابر بعد أن ذبحوا الشر وكفنوه في أثواب من الشياطين.

وتعانقوا وهم يتبادلون التهاني بعد أن أدركوا كافة دروب السعادة الحقيقية.

كما وجد السجون تُفتح لإطلاق الأبرياء، والملاجئ فرغت من اللقطاء بعد أن اهتدى آبائهم وأمهاتهم إليهم.

ووجد الناس يتسابقون في نزع النفاق من قلوبهم، ذاك الذي عج في الأرض وأطّت به وحق لها أن تئط.

فوجدهم يتسارعون لأخذ مكان في صفوف عديدة، ليس لها نهاية، كل صف فيه أناس من ألوان وجوه أهل الأرض جميعا، وكذلك ألسنتهم، سمعهم يتكلمون بلهجات كافة أهل الأرض.

تسابقوا إلى نزع ذاك النفاق، فرأى الواحد منهم ينزع عن وجهه قناعا واحدا، وآخر ينزع قناعين، وثالث ينزع ثلاثة أقنعة.

وعلى بعد كبير من الصفوف يجد مجموعة منهم تنزع عشرات ومئات الأقنعة وهم يبكون بكاء الندم والتوبة.

فتقدم إليهم جاك وسألهم عن شأنهم فأجابوه بأنهم الرؤساء والرعاة والدعاة.

فلما انتهوا من نزع أقنعتهم وجد قبحا لم ير مثله قط، فتفجعت نفسه وكاد قلبه يتوقف لولا أن تلك الوجوه سرعان ما تبودلت، فبعد أن كانت أقبح ما تكون ظهرت في أجمل صورة.

وفي جانب آخر وجد مجموعة من الرجال يحاولون نزع قلوبهم بكل قوة وهم يعضون على أسنانهم؛ فسألهم عن ذلك فأجابوه بأن قلوبهم امتلأت من كل صنوف الشر.

فقال لهم: أحسنتم.

وعاد إلى سيارته وظل سائرا حتى وجد نورا يكتسي بلون أخضر يشع من بعيد، فأقبل إليه في شغف، ودقق النظر إليها، فتبين له أنها جزيرة ذات أشجار كثيفة، أغصانها من القناديل التي ينبثق منها نور أخضر.

وكل يحيط به تموجات تصدر أصواتا كأصوات قيعان البحار.

 فنزل عن سيارته واقترب منها، روحه تسعى إليها قبل قدميه، فوجد نهرا جاريا، ماؤه ذو لون أخضر، فظمئت نفسه، فسعى إليه راكضا حتى إذا ما وصل إليه مد يده إلى الماء على جانب من النهر واغترف غرفة واحدة وارتشفها من كفه، فتعجب من شأن تلك الغرفة؛ حيث روت نفسه الظامئة إلى درجة ظنه بأنه لن يظمأ بعدها أبدا.

وفجأة وجد ظبية على بعد كبير من النهر الواقف على شاطئه، فأمعن النظر إليها، فشعر بأنها منهكة عطشانة، وهي تحاول أن تقترب من الشاطئ بيد أنها لا تستطيع لوجود منحدر قد يجذبها إلى النهر.

فقال: لا تستطيع الاقتراب خشية أن يشدها التيار فتقع فيه، والنهر تغشاه أمواج كأمواج الجبال.

ومضت لحظات، والظبية تحاول بيد أن كل محاولاتها باءت بالفشل، حينئذ أقبل تمساح نحوها بأقصى سرعته.

فتفجع قلبه، وركض نحو الظبية يدعوها للفرار من أنياب التمساح، لكنه تفاجأ بأنها لم تكترث له، وظلت تنتظر في أمن ويعلو وجهها بسمات.

فتعجب من شأنها، حتى إذا وصل التمساح عبأ فمه بالماء واقترب من الظبية وضخ ما في فمه من ماء لها فشربت وعادت.

ونظر في الأفق، فوجد الفهود بجانب الظباء، ووجد الذئاب تحفر في الأرض للحصول على ماء الينابيع للإبل الظامئة.

وقد وجدت المخلوقات الحية العطف والرأفة من الطبيعة، حيث غاضتْ البراكين الثائرة نحو الأرض السابعة، وهدأتْ الأعاصير حتى تحوّلتْ إلى نسمات من الهواء الرقيق المستنشق.

فاستحضر موعظة في نفسه قائلاً: فلما تراحموا فيما بينهم وأقاموا العدل رحمتهم الطبيعة.

وانتبه في دهشة، وسأل نفسه: كيف يحيط بهؤلاء الناس الهالات الموجية وهم على الأرض؟

وظل يصرخ، يريد أن يجيبه أحد، فمرّ عليه فهمان، فلاذ به جاك وسأله: يا فهمان، أين أنت؟ من جاء بك هنا؟ ألم تعبر جسر الشيطان وتذهب إلى إبليس؟  لماذا عدت؟

لم يجبه فهمان.

ردد عليه نفس الأسئلة وهو يصرخ، يصرخ لواذا به، فلما تأكد أنه لن يجيبه سأله عن الناس التي رآها في تموجات زمكانية.

فلم يجبه ومضى.

صرخ جاك، وسعى خلفه يريد أن يدركه بيد أن فهمان دخل في تموجات واختفى وهو يسمع صوت قيعان البحار.

عندها هوى على ركبتيه متحسرا يبكي، وفجأة سكت وقال: علمت.

في تلك اللحظة أفاق من غفوته فرأى مقدمة السيارة ترتفع إلى أعلى السماء بصورة رأسية، فعدل اتجاهه واستدار وتوجه إلى الأرض. 

وقال وهو يهز رأسه: علمت، الآن تأكدت.

الناس تحت تأثير جاذبية الثقب المعنوي، ثقب سحابة أورط، فإن ذهب تأثيره عنهم رحلت كل التموجات المعنوية وظهروا على حقيقتهم. رباه ما أحقر نفوس البشر.

وأخيرًا سأل نفسه: أين كنت يا ثقب منذ زمن؟

ما أجفاك يا حقير! ليتك تظلّ تقبع هناك تلاعبنا ولا تأكلنا، تخدشنا ولا تقطعنا، حتى نظلّ نحيا في ظل ناموسك الأكبر، يا ليت يا ليت.

وظل يفكر فيما رآه من أحلام اليقظة، وقال في نفسه: كم أوحشتني والله يا فهمان.

وتملك جسده رعدة وقال بصوت فيه رعشة وتلعثم:  لو تحطم هذا الرابض في السماء لتذئّب الناس وتوحشوا من أجل استرداد ما أعطوه سابقًا.

وسوف أجد الولايات  المتحدة الأمريكية مستدانة لطوب الأرض.

وعندئذٍ يكون العواء في الجحور قبل القصور، وفي رنين الفخار قبل رنين الذهب.

ولما هبط توجه إلى الناسا وهو يتفكر بقوله: أخشى ما أخشى أن أقتل الثقب فيقتلون الناس أنفسهم، فحسنة الأمس سيئة الغدِّ، وفضيلة الأمس رذيلة الغدِّ، تتبدّل كلّ المفاهيم عند زوال سلطان السماء، وتُهدم الكنائس التي على مشارف المساجد، وتُشنُّ الحروب الإسلامية تحت راية الإسلام، كما تُشنّ الحروب الصليبيّة تحت راية الصليب، إذا فسد أئمتهم وتطرّف مواليهم.

     تدقيق: 2-3-2024

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف رواية ابراهيم مؤمن امين فی نفسه بعد أن

إقرأ أيضاً:

ثلاث فتيات وامرأة غامضة.. ننشر الفصل الأول من رواية «البوشّيه»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق تنشر «البوابة نيوز» الفصل الأول من رواية «البوشّيه»، للكاتبة السعودية نوف أنور، والتي تصدر قريبا عن مؤسسة «الباشكاتب للسيناريو والنشر والسينما». وتتناول الرواية الواقعة في 140 صفحة تقريبا، بغلاف للفنان التشكيلي المصري محمد الشيمي، حكاية عن شبح امرأة غامضة يحيط بامرأة رقيقة -لكنها بائسة- تعافر من أجل إيجاد سلامها النفسي، في وقت تتعرض فيه لابتعاد الحبيب والغربة وخيانة أقرب صديقاتها. فيما تتشكل حولها حكاية صديقتي عمرها، واللتين لا تبدو حياتهما أفضل حالا.
يقول الناشر: في روايتها الأولى، تقدم نوف أنور قصة ثلاث فتيات تبدأ في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، سحر وحصة وميسون، تربطهن صداقة قديمة بدأت منذ حرب الكويت واستمرت لسنوات مليئة بالتفاصيل والأسرار. سحر، التي تملك حدسًا قويًا، تعيش في فوضى بسبب امرأة غامضة تلاحقها، وتقلب حياتها إلى جحيم مليء بالألغاز. حصة تخفي سرًا كبيرًا يجعلها تبني عالماً من الأكاذيب، بينما ميسون، رغم حياتها الفوضوية وسعيها وراء الرفاهية، تمثل الأمان لصديقاتها. 
ومع مرور الوقت، تتشابك أحداثهن، حيث تتداخل خيوط الخوف والحب والصراعات. مما يدفعهن لمواجهة تحديات قاسية، تكشف أسرارًا، وتغير مسار حياتهن إلى الأبد.
 1

ارتفعت أصوات النساء بالأغاني والزغاريد، وهن يملأن المكان بالضجيج، تفرقن في ساحة منزل «بو علي» في مجموعات صغيرة يربطها الذهاب والمجيء والضحكات المرحة. يُزيدهن تألق تلك الأنوار التي تفترش النخيل، وأشجار اللوز. وتتلألأ على البيت أفواج من النساء، يلتحفن أجسادهن بـ«العباءة السوداء»، وهن في كامل زينتهن وأثوابهن المزرية بالخيوط الذهبية، والفتيات بأثواب النشل الملونة. بينما تفوح من المنزل رائحة الطيب من الدخون، والعود المخلوط برائحة المشموم، والياسمين والحناء.

امتلأ المكان بالأغطية المزخرفة بالزهور الملونة، وجلست صفوف من النساء بمواضع مختلفة بشكل منتظم، وخصص الوسط للرقص. وعلى الواجهة، كانت الجدران مغطاة بقماش أخضر من الزري، والأرائك الخضراء، وصينية دائرية تقليدية، مزينة بالمشموم والياسمين والنثور، ومعاصير الحنة الملفوفة بإحكام وتفوح منها الرائحة الخنينة.
كانت الفتيات قد صنعن دائرة حول المرأة العجوز التي ترسم الحناء ليُشاهدن الرسوم التي تُزيّن يد العروس، وتختلط أصواتهن ما بين الإعجاب والمطالبة بأن تكون كلٌ منهن هي التالية. وأخريات من النساء الكبار، الجالسات في وجود أم العروس وهي تتباهى بعطايا من سيصير في الليلة التالية زوج ابنتها. وطائفة ثالثة انهمكت في الغناء والرقص، صانعة أكبر قدر من الضجيج.

بكامل زينتها، كانت حصة تتوسط الجميع بجمالها الدافئ، ورغم رغبة والدتها الملحة بتغطية وجهها هذه الليلة -حتى لا يذهب نورها يوم زفافها- إلا إنها رفعت الغطاء عن وجهها، وسلّمت يديها الممتدتان للمرأة، لتقوم بنقشها بالأغصان المتفرعة بالأوراق والزهور.
كانت الفتيات يتراقصن بأثوابهن «النشل»، وشعور بعضهن مسدول على الأكتاف، وأخريات مجدلة ومزينة بالمشموم والريحان. وبالطبع لا تخلو أعناقهن وأياديهن من عقود الياسمين. إلا أن حرارة الجو زادت وجوههن احمرارًا ولمعانًا، وبالرغم من ذلك لم يمنعهن من التوقف عن الرقص، خاصة مع وجود فرقة «زبيدة» ودفوفها التي كانت تُلبي رغبة الفتيات بغناء أغاني سوق الكاسيت التي يرغبن بها، وفي الوقت نفسه، تُلبي رغبه الأمهات بالأغاني والأهازيج الشعبية.

وسط كل هذا كانت سحر جالسة في سكون، بدت كزهرة حائط وحيدة بجمالها اللافت رغم شحوب وجهها ونظراتها الشاردة، ترفض بلباقة كل محاولات الأخريات في جذبها نحو الدائرة الراقصة أو رسّمة الحناء، تدير عينيها في الحاضرات وتكتفي بهزة رأس بسيطة كلما قابلتها عين إحداهن، تتجنب النظر إلى النسوة الكبار ممن يرمقنها بنظرات هي مزيج بين الفضول والإشفاق، لأنها لم تتزوج بعد رغم حُسنها الواضح.


تعلم ما يُفكرن فيه، البعض يراها «منحوسة»، والأخرى «ممسوسة»؛ وغيرهن لقّبنها بـ «الحسناء التعيسة». تعرف هذا وتتجاهله، ولولا أن الليلة هي حناء «حصة»- أعز صديقاتها منذ الطفولة- لما غادرت منزلها لتصطدم بتلك الوجوه المُشفقة، فقط حصة هي الوحيدة القادرة على إخراجها من العُزلة مهما عبست أيامها أو انشغل ذهنها.

"ألا زلتِ تحلمين بتلك المرأة؟

قطع السؤال أفكارها، فرفعت رأسها لتجد حصة واقفة أمامها. تأملتها فوجدتها بارعة الحسن كما اعتدن أن يظهرن، أمسكت بيدها وتأملت الرسم في إعجاب، وجذبتها لتجلس بجوارها وأشارت حولهن..

-الجميع سعداء من أجلك، وأنا أولهّن.

=لا تتجاهلي ما أقول.. سألتك عن تلك المرأة. أهي سبب شرودك وقت زفافي؟

-لا شيء يؤخرني عنك.

=إذن.. احك لي.

-اليوم؟! يا لك من مجنونة يا فتاة!!

=هو اليوم نفسه الذين تكتفين فيه بالجلوس كنبات الزينة. دون أن تُشاركيني الرقص، أو تمتد يد العجوز على يدك المرمرية لتصنع لوحة تُزيد من فتنتك. احك لي، فربما يُذهب الحديث ثِقَل ذهنك، وتشاركيني فرحتي.

شعرت سحر بالخجل من قولها، لكنها أقرت في نفسها بأن ما تقوله صحيح. حصة هي الوحيدة التي لا تصف هواجسها وأحلامها بالجنون. منذ حكت لها عن تلك المرأة الغامضة التي تشاهدها منذ شهور وتستحوذ على أحلامها وخيالات اليقظة.
- تطاردني دومًا.. هي نفسها، بعباءتها السوداء الطويلة، وغطاء وجهها الذي لا يبدو منه سوى عينين فاتنتين. تثير الرعب فيَّ بنظرتها الثاقبة. ثم سُرعان ما تختفي. أراها في كل موضع، وتذوب مع فزعي.

= وتكتفي بالصمت؟

- ليس اليوم، ربما هذا ما جعلني أبدو في هذا الارتباك.

= لِمَ؟ ماذا حدث؟

- فيما بعد، لا أريد أن أبدو كطائر شؤم في يوم عرسك، دعينا نعود إلى النساء ثم أستكمل الحكي في يوم آخر.

= سأنشغل كثيرًا في الأيام المُقبلة.

- يا حبيبتي، أسعد الله وقتك وحفظ سرك، لا يوجد لديَّ أكثر من الوقت، ولا توجد حكاية أخرى تؤرق مضجعي. لا تهتمي، فسوف أنتظر.

تبادلتا الابتسام، وقامت أم العروس وأمسكت بيدها، تصاعدت الزغاريد، وارتفعت أصوات النساء بالغناء وكأن طاقتهن تضاعفت مع مشاركة سحر التي طافت ترقص حول حصة، ورسمت على وجهها ابتسامة لتُخفي توترها الزائد من تلك المرأة التي لا تنفك عن مطاردة ذهنها.

"قلت أوقفي لي وارفعي البوشيه... خليني أروي ضامر العطشاني

شفت الجدايل وأحسبك رومية.. ثاري الزلوق مقرضة ياخواني

الخد ياضي لي برق وسميه.. والعين تشبه ساعة الربان"..

لم تقاوم النساء الرقص على هذه الأغنية رقصة «الخماري»، فالفتيات وضعن الأكمام الواسعة لثوب النشل على الرأس، والنساء استعّن بالبوشيه لتغطية جزء من وجوههن؛ وبدأن يتمايلن بأجسادهن جانبًا بهدوء وبعدت خطوات إلى الوراء.

صنعت مع الفتيات دائرة كبيرة، توسطها العروس والمرأة العجوز، التي ما انفكت تصيح مُباركة العروس بكلمات لم تتبين أكثرها. أصرت العروس على والدتها أن ترقص لأنها تعرف أن والدتها تتقن «الخماري»، لكنها كانت تخشى من أحاديث النساء، فعادة أم العروس لا ترقص وتكون أقرب إلى الرصانة والثقل؛ إلا أن حصة أصرت قائلة «الزمن تغير يما»، بينما قامت سحر لتمسك بيدها وترقصان سويًا.

بعد قليل، اندمجت سحر مع الفتيات، وبدأت صورة المرأة تنزاح عن ذهنها فشعرت أنها أكثر حيوية، خرجت من الدائرة وأمسكت بيد والدة حصة واندمجتا في الرقص، حركت جسدها أكثر فزاد انطلاقها، بدأت تدور حول نفسها في مرح.

فجأة شعرت وكأن كل ما حولها اختفى، بدأت الدنيا في الإظلام لكنها لم تستطع أن توقف جسدها عن الدوران، بدت الأصوات من حلوها كأنها تأتي من بئر سحيقة، فارتجف جسدها بقوة لكنها لم تتوقف.

ثم ظهرت المرأة..

بدت تمامًا كما تراها من بعيد، عباءتها السوداء الطويلة والغطاء الشفاف الذي لا تُدرك ماهيته بينما عيناها لمعان من خلف الغطاء اقتربت منها المرأة فارتعبت وحاولت الصراخ لكنها لم تستطع، بدت في عيناها اللامعتين جذبة غريبة، أطبقت فمها وهي تتساءل كيف تراها في كل الاتجاهات رغم دوران جسدها.

شعرت بيد ثقيلة توضع على كتفها والأضواء تعود إلى بصرها شيئًا فشيء، انتفض جسدها وهي تسمع همسات تتعالى باسمها لتجد حصة أمامها ترمقها بنظرة قلقة، انتفضت مرة أخرى ثم أطلقت صرخة عالية وسقطت فاقدة الوعي.
«لم أشعر بنفسي إلا والنساء يُحطن بي وهن فزعات، كانت حصة أكثرهن فزعًا، لمحت في عينيها الخوف واللهفة لا الضيق والغضب رغم أني- بشكل ما- أفسدت ليلتها الجميلة. تلفت حولي لأجدنني مُستلقية على الأريكة وقد ابتل وجهي وغرق أنفي في مزيج من العطور استُخدمت لإفاقتي، نهضت مُرتبكة بعد تلك الفوضى التي أثرتها وشكرت حصة وكررت أسفي عشرات المرات قبل أن أستقل سيارتي وأغادر. أعلم أنها ليست غاضبة، فنحن أصدقاء منذ كنا في الثانية عشرة من عمرنا، لكني لا أستطيع منع نفسي من الضيق والخجل؛ ولا أستطيع كذلك أن أمحو من ذهني تلك المرأة الغامضة».

مقالات مشابهة

  • ثلاث فتيات وامرأة غامضة.. ننشر الفصل الأول من رواية «البوشّيه»
  • قيصر الحدود يرحب باستخدام الأرض التي منحتها تكساس لتنفيذ خطط الترحيل
  • مخيلة الخندريس . . رواية غير
  • «كييف»: طيران تكتيكي روسي يطلق قنابل جوية موجهة على منطقة سومي
  • جيش الاحتلال الإسرائيلي يكشف عن المتهمين بإلقاء قنابل مضيئة على منزل نتنياهو
  • تطور جديد في قضية إلقاء قنابل على منزل نتنياهو
  • عبقرية صلاح جاهين
  • رواية لإليف شافاق تتحول إلى عمل سينمائي
  • اندلاع مواجهات بين الاحتلال والمواطنين غرب رام الله
  • إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال بلدة الخضر جنوب بيت لحم