لماذا يعجز الناس عن رؤية الأهوال القريبة ؟
تاريخ النشر: 2nd, March 2024 GMT
يمتلئ تاريخ سلالتنا الإنسانية المعجز بقصص مقبضة عن القمع والطغيان والحروب الدامية والهمجية والقتل والإبادة الجماعية. وكثيرا ما نحار حينما نرجع النظر فنتساءل: لماذا لم توقَف هذه الأهوال مبكرا؟ كيف أمكن أن يتعايش معها الناس؟
والصورة في كاملها هائلة التعقيد. لكن جزءًا كبيرًا منها يشير إلى القواعد الحاكمة لعمليات المخ البشري.
فالحركات السياسية المتطرفة، وكذلك الصراعات المميتة، غالبًا ما تتصاعد ببطء. وحينما تبدأ الأخطار صغيرة ثم تزداد بالتدريج، فإنها تنتهي إلى إثارة رد فعل عاطفي أضعف، وإلى مقاومة أقل، وإلى قبول أكثر مما كان ينبغي أن تثيره لولا تدرجها. فتتيح الزيادة البطيئة لأهوال أكبر وأكبر أن تجري في وضح النهار، وتبدو بديهية، وتظهر وكأنها من طبائع الأمور.
إنَّ أحدنا عالم أعصاب، والآخر أستاذ قانون. ومن مجالينا المختلفين، بتنا نعتقد أنه ليس بالإمكان أن نفهم الفترة الراهنة -والتحولات التي تعد من جملة طبائع الأمورـ دونما تقدير لأسباب وكيفية عدم ملاحظة الناس للكثير للغاية مما نتعايش معه.
السبب الأساسي يتثمل في سمة بيولوجية محورية في مخنا، هي الاعتياد، أو نزوعنا إلى أن تقل استجابتنا وتقل للأمور التي تتسم بالديمومة أو بالتغير البطيء. لأن أحدكم يدخل مقهى معبأ برائحة القهوة ففي البداية تكون الرائحة طاغية، ثم لا تكاد تنقضي عشرون دقيقة حتى يعجز عن شم الرائحة. وهذا لأن خلاياك العصبية الشمية تتوقف عن الاستجابة لرائحة باتت الآن مألوفة.
وأنت، بالمثل، تتوقف عن سماع الطنين المستمر لجهاز تكييف؛ لأن مخك يصفي ضوضاء الخلفية. فمخك يهتم بما يطرأ حديثا من تغير، لا بما يبقى على حاله.
التعود من أكثر سماتنا البيولوجية أساسية، فهو شيء نشترك فيه نحن الكائنات ثنائية السيقان كبيرة الرؤوس مع حيوانات أخرى على الأرض منها القردة العليا والفيلة والكلاب والطيور والضفادع والأسماك والجرذان. والبشر يعتادون الظروف الاجتماعية المعقدة من قبيل الحرب والفساد والتمييز والقمع والمعلومات المغلوطة المنتشرة والتطرف. ولا يقتصر أمر التعود على تقليصه الميل إلى الملاحظة ورد الفعل تجاه الأفعال المنافية للأخلاق من حولنا، ولكنه أيضا يزيد احتمالية أن نشترك فيها نحن أنفسنا.
فقد تبين من دراسة أجريت في مختبر دكتور شاروت على سبيل المثال أن الناس يعتادون كذبهم. فقد أتيحت لمتطوعين في تلك الدراسة فرصة للكذب مرارًا كسبًا للمال على حساب شخص آخر. وفي ثنايا ذلك كان يجري تسجيل نشاط أدمغتهم.
بدأ المتطوعون بكذبات بسيطة نسبيًا، من قبيل الغش من أجل ربح سنتات قليلة إضافية. ثم ببطء، وعلى مدار التجربة، باتت الكذبات أكبر بهدف تحقيق زيادة في كميات الدولارات.
في البداية، كانت أجزاء المخ التي تشير إلى المشاعر تستجيب بقوة لدى المتطوعين في حال كذبهم، بما يشير إلى أنهم كانوا غير مستريحين إلى كذبهم. ثم حدث مع كل كذبة إضافية أن قلت الاستجابة الشعورية في المخ، فقد اعتاد الناس. ودونما الشعور السلبي، لم يكن من شيء يكبح الكذب، فكذب الناس وكذبوا وازدادوا كذبا.
ونحن لا نعتاد فقط أفعال الكذب البسيطة. فتأملوا تجربة شهيرة أجراها في مطلع ستينيات القرن العشرين عالم النفس ستانلي ميليجرام. كان الدافع في هذه التجربة هو فهم صعود الاستبدادية مثلما حدث في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها.
أراد ميليجرام أن يدرس الطاعة ويفهم كيف يمكن للبشر العاديين أن يشاركوا في أعمال رهيبة. وتجاربه تعلمنا ما الطاعة، لكن ميليجرام، عامدا أو غير عامد، كان يدرس التعود أيضا.
فقد أظهر أن المواطنين العاديين مستعدون لإدارة صدمات كهربائية -حتى ما يبدو منها بالغ الإيلام- على آخرين حينما يطلب منهم ذلك شخص ذو سلطة. ولكن ترتيب ميليجرام كان حاسمًا. فقد سئل المتطوعون في تجاربه أن يديروا في أول الأمر صدمات بسيطة، ثم ببطء بالغ، وبالتدريج، أن يزيدوا الجهد الكهربائي إلى مستويات بادية الارتفاع.
وبطلبه من المتطوعين أن يزيدوا الجهد الكهربائي درجة في المرة، كان ميليجرام يحفز شعور الاعتياد. فلعل المتطوعين كانوا يشعرون بشيء من الإحساس بالذنب في أول الأمر، لكن لأن الصدمات تزايدت بدرجات بسيطة، كان أي إحساس بالذنب يأتي أقل قوة مما كان ليصبح عليه في حالة أخرى. ولما حان الوقت الذي وصل فيه المتطوعون إلى المستويات العليا، بدا أن كثيرا منهم قد اعتادوا فكرة إلحاق الألم الرهيب بغيرهم من البشر. ومن الإنصاف أن نستبعد أن كثيرا للغاية من المتطوعين كانوا ليمتثلوا لو طولبوا في أول الأمر بإحداث صدمات الجهد الكهربائي المرتفع.
تنبئنا دراسة ميليجرام بشيء مهم عن السلوك خارج المختبر، وعن كيفية اعتياد الناس لا على الكذب والقسوة وحسب، وإنما على الأهوال، حتى التي تقع عليهم أنفسهم. ففي كتاب ميلتن مايرز المذهل عن صعود النازية على سبيل المثال، كان رجل يعيش في ألمانيا في ذلك الوقت ووصف للكاتب النظام الحاكم فقال: إن «كل فعل، وكل حدث، يأتي أسوأ من سابقه، ولكنه أسوأ قليلا فقط».
وأضاف: «لو أن آخر وأسوأ أفعال النظام الحاكم كله قد حدث على الفور بعد الحدث الأول والأبسط، فإن الآلاف، نعم، بل والملايين كانوا ليشعروا بصدمة كبيرة… لكن الأمور بطبيعة الحال لا تجري هذا المجرى. ففي ما بين الحدثين، الأبسط والأفدح، مئات الخطوات البسيطة، وبعضها غير محسوس، وكل منها يهيئك لكي لا يصدمك ما يليه».
لعلكم الآن تفكرون في التطورات المنذرة التي تشهدها الولايات المتحدة وأوروبا. لو أن الأمر كذلك، فلكم الحق تماما في ذلك.
برغم أن جهود المقاومة تكون أبطأ مما يروق لنا لكنها كثيرًا ما تظهر ردًا على الظلم أو الأهوال، وتأملوا الثورة الفرنسية، وحركة الحقوق المدنية، وحركة «حياة السود مهمة» وحركة «وأنا أيضا» [#MeToo]. فهذه الحركات تنزع إلى أن تبدأ على أيدي «رواد عدم الاعتياد».
أولئك هم الذين لا يعتادون على شرور مجتمعاتهم، فيرون الخطأ خطأ ويجهرون بما يرون ليمنعوا الآخرين من الاعتياد. وفي الغالب يكون رواد عدم الاعتياد أفرادًا يتعرضون شخصيًا للأهوال أو التمييز، لكنهم يأبون اعتياده. ومالالا يوسفزادي، وموهاندس غاندي، وروزا باركس، وجلوريا ستاينم، وهارفي ميلك، ونيلسون مانديلا أمثلة واضحة لمن نجحوا في منع الآخرين من الاعتياد. وهناك أيضا رواد لعدم الاعتياد لا يكونون ضحايا، لكنهم يلاحظون معاناة الآخرين فيجهرون أو يتحركون. ومن أمثلة أولئك ويليام لويد جاريسون وإليانور روزفلت وبيتر سينجر.
وثمة أمثلة أقل شهرة حولنا جميعا، قد يكون بعضهم في أسرتك، أو حيك، أو المكان الذي تعمل فيه.
فهل يمكن إنتاج رواد عدم الاعتياد؟ في ظننا نعم. ومفتاح ذلك ما وصفه يوما جون ستيوارت ميل بـ«تجارب العيش». لقد أبرز ميل أهمية أن ينظر المرء من بعيد إلى معتقداته وقيمه وأعرافه وأوضاعه، حتى يتسنى له تقييمها ولعله يعرف أن التغيير مطلوب. ولكي نفعل ذلك نحن بحاجة إلى تنويع تجاربنا.
لو أن الناس يعرضون أنفسهم عامدين لثقافات مختلفة، وممارسات مختلفة، وأشكال حكم مختلفة، فقد لا تستمر المظالم المحيطة بهم ظاهرة وكأنها حتم لا مفر منه أو بعض من طبائع الأمور.
وبزيارة بلد أجنبي على سبيل المثال قد يزيد الناس فرص اعتيادهم على أوضاعهم، وقد يكتسبوا بعدا مهما عن المعروف والمألوف ويرون الأشياء رؤية طازجة. وقد يحدث شيء مماثل من خلال التفاعل مع أشخاص ذوي تجارب متعددة أو من خلال إغراق المرء نفسه في وجهات نظر مختلفة عبر الأعمال الفنية (من روايات وشعر ومسرح وأفلام). ففور إبراز القمع وإظهاره جديدًا، أو فور خوضك تجربة بالرؤية أو بمحض التخيل لواقع خال من القمع، قد تجفل مما يجري الآن في وطنك.
يقول أبراهام جوشوا هيشل: «علينا أن نتعلم أن نندهش، لا أن نكيف أنفسنا». وبوسعنا أن نتعلم الدهشة من الفساد والموت بالمخدرات وإساءة معاملة الحيوانات في إنتاج الغذاء والعنف بالأسلحة. وبعد أن نعرف كيف يعتاد الناس، فإن المزيد منا قد يقدرون على اتباع نصيحة هيشل، فيعرفوا السمات غير الجيدة في حياتنا ويركزوا عليها، بل والسمات الشنيعة التي بتنا نسلِّم بوجودها في مجتمعاتنا.
تالي شاروت ـ كاس صنشتاين
ترجمة: أحمد شافعي – صحيفة عمان
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
لماذا أطلق نبي الله نوح على مصر " أم البلاد وغوث العباد"
قالت دار الإفتاء المصرية إن قول "أرض مصر أرض مباركةٌ وهي أم البلاد" صحيحٌ، وهو من كلام نبي الله نوح عليه السلام، وقد ورد في الأثر، وتناقله عددٌ كبيرٌ من علماء الأمة ومؤرخيها. وهذا ما أيَّده الواقع على مر العصور والأزمان.
وأوضحت الإفتاء أن نبي الله نوحٌ عليه السلام ، أطلق على مصر "أم البلاد وغوث العباد"، فقد أخرج ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 27، ط. مكتبة الثقافة الدينية) بسندٍ حسن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن نوحًا عليه السلام قال لابنه حينما أجاب دعوته: [اللهم إنه قد أجاب دعوتي؛ فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة، التي هي أم البلاد، وغوث العباد، التي نهرها أفضل أنهار الدنيا، واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض وذللها لهم، وقوهم عليها] اهـ.
وهذا الأثر ذكره جماعة من العلماء في كتبهم، واحتجوا به على فضائل مصر، كما ذكرها بذلك الأديب علي بن ظافر الأزدي (613) في "بدائع البدائه" (ص 180)، والمؤرخ الرحالة ابن بطوطة (779) في "تحفة النظار" (1/ 201، ط.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما فيما نقله مجموعة من العلماء: [لمَّا خلق الله عز وجل آدم عليه السلام مثَّل له الدنيا؛ شرقها وغربها، وسهلها وجبلها، وأنهارها وبحارها، وبناءها وخرابها، ومن يسكنها من الأمم، ومن يملكها من الملوك، فلمَّا رأى مصر رآها أرضًا سهلة، ذاتَ نهر جارٍ؛ مادَّتُه من الجنة، تنحدر فيه البركة، وتمزجه الرحمة، ورأى جبلًا من جبالها مكسوًّا نورًا، لا يخلو من نظر الرب إليه بالرحمة، في سفحه أشجار مثمرة، فروعها في الجنة، تُسقَى بماء الرحمة، فدعا آدم في النيل بالبركة، ودعا في أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى، وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات، وقال: يا أيها الجبل المرحوم، سفحك جنة، وتربتك مسك، يدفن فيها غراس الجنة، أرض حافظة مطيعة رحيمة، لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ، ولا زال منك ملك وعز، يا أرض مصر فيك الخبايا والكنوز، ولك البر والثروة، سال نهرك عسلًا، كثَّر الله زرعك، ودر ضرعك، وزكى نباتك، وعظمت بركتك وخصبت، ولا زال فيك خير ما لم تتجبري وتتكبري أو تخوني، فإذا فعلت ذلك عراك شرٌّ، ثم يعود خيرك. فكان آدم عليه السلام أول من دعا لها بالرحمة والخصب والبركة والرأفة] اهـ.
قال أبو الحسن أحمد بن محمد بن المدبر المصري الكاتب [ت270هـ]: [مصر اختيار نوح عليه السلام لولده، واختيار الحكماء لأنفسهم، واختيار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لأنفس الصحابة.. واختيار عمرو بن العاص رضي الله عنه لنفسه.. واختيار الخلفاء لمن يقوم منهم، وكذلك الملوك والسلاطين إلى وقتنا هذا، وقد صارت دار الملك وبيضة الإسلام] اهـ. نقلًا عن القاضي ابن ظهيرة في "الفضائل الباهرة في مصر والقاهرة" (ص: 82).