قادتني مناسبة ثقافية إلى البحث عن الطبخ في الثقافة والأدب، وهالني ما وقفت عليه من كتابات وتدوينات مهمة عن الطبخ، فعادت بي الذاكرة إلى التجارب الأولى لي في الطبخ، إذ تفرض عليك حياة التنقل والترحال وفضول الطفولة التماهي مع ما يفعله الكبار من حولك، وكان الطبخ تسلية أو ما يشبه اللعبة أو ممارسة تمردية على سلطة الأمهات، وأتذكر أننا كنا في واحدة من تجمعات رعاة الإبل في موسم الخطيل، حيث تجتمع الأسر لعدة أسابيع ثم تفترق من جديد، في إحدى المرات اجتمع مجموعة من الصبية وقررنا أن نطبخ، فبحثنا عما يمكن أن نطبخه فلم نجد إلا الرز ومعجون صلصلة الطماطم، فقررنا استعارة قدر من الأمهات وعدة علب من معجون الطماطم وحفنة رز، وأشعلنا النار وطبخنا الرز ثم أضفنا المعجون، ونجحنا في تسمية الطبخة كبسة طماطم، تلك كانت المرة الأولى التي اكتشفت لاحقا أنها أهم ميزة تميز الإنسان عن الحيوان، مثلما كتب المترجم سعيد الغانمي (66 عاما) في مقدمة كتاب الطبخ في الحضارات القديمة للمؤلفة كاثي ك.
على أن النظرة إلى الأدب المطبخي ظلت تتراوح بين الاحتكار المطلق أو الاحتقار المطلق، فمنذ أن افتض الإنسان لغز الكتابة الأولى كان الكتبة المتعلمون الأوائل في بلاد الرافدين القديمة سدنة الأدب المطبخي الأول في حين كان الطباخون من الأمين في الغالب”، ولكن الاهتمام بالأدب المطبخي لم يستمر كثيرا لعدة أسباب سياسية منها قضاء المماليك على الجيش الانكشاري الذي يهتم بالطبخ ويعتني بالطباخين ويقول الكاتب العراقي علي الوردي (1913-1995): “إنهم يعطون أهمية كبيرة للطبخ وتقديم الطعام، فهم مثلا يقدسون قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى أوقات الحرب ويدافعون عنها دفاعا مستميتا، إذ هم يعتبرون ضياعها أثناء الحرب أكبر إهانة تحلق بهم، وهم إذا أرادوا إبداء عدم الرضا من أوامر رؤسائهم قلبوا القدور أمام بيوتهم، ومن مظاهر اهتمامهم بالطبخ أن قائدهم الأعلى يسمونه جوربجي باشي أي “طباخ الحساء”. وفي مقدمة كتاب الطبيخ لابن نصر الوراق الذي ألفه في القرن الرابع الهجري يقول: “كانت الوصية للطباخين أن يطبخوا في القدر البرام المكية فإنها أجود ما يجوّد فيه الطعام”.
مؤخرا وقع بين يدي كتاب (الطاهي يقتل الكاتب ينتحر) الصادر عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب المصري عزت القمحاوي (62 عاما) الذي يقول: “بالحكاية والطبخ تمكن البشر من استئناس بعضهم بعضا وصارت لدينا مجتمعات بشرية”، ويقول في الكتاب أيضا: “لكي تطبخ، عليك أن تتحمل تبعات أن تكون قاتلا تقبض أرواحا لكي تصنع منها أشباحا”.
ومن الكُتاب المرتبطين بالطبخ الكاتب الكردي السوري سليم بركات (72 عاما) والمقيم في السويد، إذ يقول في حوار مع الكاتب والشاعر العراقي وليد هرمز نشرته صحيفة العربي الجديد: “المطبخ هو المكان الذي لا ينازعك أحد عليه، متفردا بامتلاك خزائنه وأدراجه، قديرا في إدارة التوابل مطمئنا إلى ولاء السكاكين بحاشية من الصحون الجليلة، أكتب في المطبخ ما سيجري التعديل فيه مساء على توزيع المحاربين الفرسان على خيول وعلى أفيال وترتيب المدافعين بالأسلحة الكبار عن أجناب المعاني”.
هكذا يتجاوز الطبخ دوره في إنضاج الأطعمة إلى تنضيد النصوص وتشكيل العبارات متبلة بأصناف عدة من الصور الخيالية والمعاني التي يختلف القارئ في تأويلها أو هضمها أحيانا.
محمد الشحري – صحيفة عمان
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
تعداد للسكان في العراق للمرة الأولى منذ 37 عاما.. كم كلّفت؟
انطلقت اليوم الأربعاء إجراءات التعداد العام للسكان في العراق، الذي سوف يستغرق يومين، من أجل أن يغطّي البلاد بأكملها، وذلك لأول مرة منذ 37 عاما.
وقال مدير تعداد كركوك في وزارة التخطيط العراقية، مصطفى أكرم، إن: "التعداد بدأ في عموم محافظة كركوك كما في عموم العراق".
وأضاف أكرم، في حديثه لوكالة "الأناضول": "أنهم بدأوا في تلقّي المعلومات العائلية منذ حوالي 4 أيام"، فيما أبرز في الوقت نفسه، أنهم: "يقومون بزيارة المنازل منذ اليوم، وفحص المعلومات التي حصلوا عليها سابقا".
وذكر أكرم أنه: "تم تكليف 5600 موظف لزيارة المنازل التي سوف تستمر لمدة يومين في محافظة كركوك". مردفا أنهم: "يقدرون عدد سكان كركوك بنحو مليون و800 ألف نسمة؛ وأن عدد سكان المدينة الحالي سوف يتضح بنهاية هذا التعداد".
أما فيما يتعلّق بالكلفة المالية للتعداد العام للسكان في العراق، كان الخبير الاقتصادي، نبيل المرسومي، قد كشف عن ارتفاعها، بالقول إن: "كلفة المشروع تبلغ 459 مليار دينار أي ما يعادل 348 مليون دولار، بزيادة تبلغ 53 في المئة عن التخصيصات المالية للتعداد في موازنة 2024 والبالغة 300 مليار دينار".
وكانت الجبهة التركمانية العراقية، قد قالت في وقت سابق، إنها رصدت ما وصفتها بـ"انتهاكات"، قبل بدء التعداد السكاني الذي انطلق الأربعاء في البلاد، ويستمر غدا الخميس.
وتمثّلت الانتهاكات التي تحدّثت عنها الجبهة، في: "إحضار أعداد كبيرة من العائلات من محافظات إقليم كردستان العراق، إلى محافظة كركوك، لكي يتم تسجيلها بسجلات كركوك".
إلى ذلك، فرضت السلطات العراقية، منذ منتصف ليلة أمس، حظرا للتجول في البلاد، لمدة يومين، من أجل تسهيل إجراء التعداد العام للسكان الذي سيستمر اليوم وغدا.
وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية، مقداد ميري، إن: "فرض حظر التجوال يومي 20 و21 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 هو لتقييد حركة المواطنين والسيارات والقطارات بين المدن والأقضية والريف باستثناء الحالات الإنسانية والضرورية لتسهيل حركة المكلفين بإجراء التعداد".
وأضاف أنّ: "الحركة الجوية وحركة التبادل التجاري مفتوحة وغير مشمولة بالحظر، وأن هناك توجيها من الأجهزة الأمنية لمساعدة الحالات الإنسانية".
كذلك، قرّرت الحكومة العراقية، عدم إدراج أي أسئلة تتعلق بالانتماء العرقي والطائفي في التعداد السكاني المرتقب، وذلك من أجل "تجنب حدوث أي انقسام داخل المجتمع المكوّن من مكونات مختلفة".
تجدر الإشارة إلى أن آخر تعداد سكاني قد أجراه العراق كان في عام 1997 خلال حكم نظام صدام حسين، غير أنه لم يكتمل، بسبب عدم شمول مناطق كردستان التي كانت تتمتع آنذاك، بسلطة شبه مستقلة عن الحكومة في بغداد.