في قلب أفريقيا، يواجه السودان حالة طوارئ إنسانية على نطاق غير مسبوق، مما يدفعه إلى دائرة الضوء الدولية باعتباره أزمة إنسانية مستمرة في 2024. وقد دفعت هذه الأزمة، التي تفاقمت بسبب الصراع المستمر والتدخل الخارجي، البلاد إلى وضع رهيب بسبب النزوح واسع النطاق، وتصاعد العنف، والأزمة الحادة في وصول المساعدات الإنسانية.
وفي خضم هذه الفوضى والصراعات المشتعلة، يضيف دور الجهات الخارجية طبقة من التعقيد إلى الصراع، مما يثير أسئلة حاسمة حول مستقبل السودان والتداعيات الأوسع على الاستقرار الإقليمي والعلاقات الدولية.
أزمة إنسانية مستمرة ومنسية
قبل اندلاع الصراع، كان السودان يعاني بالفعل من أزمة إنسانية تغذيها الصدمات المناخية الشديدة، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، مما أدى إلى الفقر والجوع والمزيد من النزوح. ومع استمرار الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تدهور الوضع بسرعة، مما دفع السودان إلى تصدّر قائمة مراقبة الطوارئ لعام 2024.
وامتدت الحرب، التي بدأت في 15 نيسان/ أبريل 2023، إلى ما هو أبعد من الخرطوم إلى مناطق أخرى، لا سيما دارفور، حيث أدت عمليات القتل الجماعي والنزوح إلى تقارير عن عمليات تطهير عرقي واسعة النطاق. وأدى الصراع إلى مقتل أكثر من 12,000 شخص وتشريد ما يقرب من 5.9 مليون شخص داخل البلاد، مما يجعله أكبر أزمة نزوح داخلي. بالإضافة إلى ذلك، أدى توسع الصراع في ولاية الجزيرة على سبيل المثال، وهي "سلة الخبز" في السودان، إلى نزوح أكثر من 500 ألف شخص وتفاقم أزمة الغذاء في البلاد.
إن النظام الصحي في السودان على وشك الانهيار، حيث إن أكثر من 70 في المائة من المرافق الصحية في المناطق المتضررة من النزاع إما غير صالحة للعمل أو مغلقة. وقد أدى ذلك إلى فرض ضغط هائل على موارد الرعاية الصحية، وتفاقم ذلك بسبب تحديات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية. وأودى تفشي مرضي الحصبة والكوليرا بحياة العديد من الأشخاص في جميع أنحاء البلاد، حيث تجاوز عدد حالات الكوليرا المشتبه فيها 8,500 حالة في كانون الأول/ ديسمبر 2023، مما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بشهر تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام.
ودعا خبراء الأمم المتحدة إلى إجراء مفاوضات سياسية شاملة عاجلة مصحوبة بوقف إطلاق نار إنساني، لنقل السودان نحو حكومة مدنية وتمهيد الطريق للتنمية المستدامة. وشددوا على ضرورة قيام جميع أطراف النزاع بحماية المدنيين، وخاصة النساء والأطفال، والسماح وتسهيل إيصال الإغاثة الإنسانية بشكل آمن وفي الوقت المناسب. وهناك أيضا دعوة قوية للمساءلة، والحث على محاكمة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان وحصول الضحايا على التعويض الكامل.
وقد تم حث المجتمع الدولي على زيادة التمويل للمجتمع المدني لمساعدة الضحايا والاستجابة الإنسانية لتقديم المساعدة المنقذة للحياة لـ25 مليون شخص في جميع أنحاء السودان من المحتاجين في عام 2024. ومع ذلك، اعتبارا من أوائل عام 2024، لم يتم جمع سوى 3.1 في المائة من المبالغ المطلوبة للتعامل مع هذه الأزمة.
العامل الخارجي ودوره في تأجيج الصراع
في ظل خلفية هذه الأزمة الإنسانية التي تتفاقم في ظل تغاضي دولي، هناك دور لبعض الدول في تأجيج الصراع بين الفرقاء في السودان بدلا من الدعوة إلى مصالحة سودانية-سودانية تُخرج البلاد من هذا النفق المظلم، حيث أصبح دور الإمارات العربية المتحدة في الصراع تحت المجهر.
اتهم وزير الخارجية السوداني علي صادق، في مقابلة مع "بي بي سي عربي"، الإمارات بدعم قوات "الدعم السريع" بالسلاح والمعدات العسكرية الأخرى، مما يورطها في الدمار الذي تشهده البلاد. كلمات صادق في هذه المقابلة تسلط الضوء على سيناريو قاتم، حيث يساهم الدعم الخارجي للمليشيات في تآكل النسيج الاجتماعي وتفاقم الوضع الإنساني في السودان.
وتعتبر قوات الدعم السريع، تحت قيادة محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، شخصية محورية في هذا الصراع، حيث أدى الدعم الإماراتي "المزعوم" إلى تفاقم الكارثة الإنسانية. كما أن رواية التدخل الأجنبي وتداعياته لا تتكشف بمعزل عن غيرها، ففي جميع أنحاء السودان ترتفع الأصوات الشعبية احتجاجا على تورط الإمارات، مما يعكس استياء أوسع نطاقا لا يقتصر على السودان بل يجتاح القارة الأفريقية.
وتجد المظاهرات في السودان ضد النفوذ الإماراتي أصداء في دول مثل إريتريا، حيث اتخذت الحكومة قبل ثلاثة أشهر من اليوم خطوات حاسمة لطرد سفير الإمارات، مما يشير إلى رفض التدخلات العسكرية والسياسية الإماراتية في القارة الأفريقية.
إن ردود الفعل الشعبية والرسمية في أفريقيا ضد دور الإمارات العربية المتحدة ليس فورة مفاجئة، بل هو تتويج لمظالم طويلة الأمد. ويعكس الموقف الجماعي للقارة الأفريقية، والذي تجلى بشكل خاص في الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمر المناخ الثامن والعشرين، مقاومة عميقة الجذور لمحاولات الإمارات التأثير والتدخل في هذه القارة. تسلط الاتهامات الموجهة ضد التدخل الخارجي في إمداد أطراف الصراع بالأسلحة والعتاد العسكري؛ الضوء على الشبكة المعقدة من الجغرافيا السياسية الدولية التي تعقد الطريق إلى المصالحة والسلام. وبينما يفكر المجتمع الدولي في خطواته التالية، يجب على أصوات الشعب السوداني، الذي يتحمل وطأة هذه المأساة، أن يوجه الجهود نحو حل مستدام يعطي الأولوية لحقوقه وكرامته وتطلعاته إلى مستقبل سلميإن الجدل الدائر حول استثمارات دولة الإمارات في مجال الطاقة المتجددة في أفريقيا والسيطرة على الثروات الطبيعية هناك؛ دفع إلى حذف برامج الإمارات في القارة الأفريقية من جدول أعمال قمة المناخ بالإضافة إلى امتناع العديد من قادة القارة الأفريقية من المشاركة في القمة.
ختاما، إن الأزمة الإنسانية التي تتكشف في السودان، والتي تفاقمت بسبب الصراع الداخلي والتدخلات الخارجية، تدعو إلى استجابة عالمية فورية وموحدة. إن الحجم المخيف للنزوح والخسائر في الأرواح وانهيار البنية التحتية يؤكد الحاجة الملحة لمعالجة هذه الأزمة، ليس فقط كمسألة مساعدات إنسانية، ولكن كخطوة حاسمة نحو ضمان السلام والاستقرار على المدى الطويل في المنطقة.
تسلط الاتهامات الموجهة ضد التدخل الخارجي في إمداد أطراف الصراع بالأسلحة والعتاد العسكري؛ الضوء على الشبكة المعقدة من الجغرافيا السياسية الدولية التي تعقد الطريق إلى المصالحة والسلام. وبينما يفكر المجتمع الدولي في خطواته التالية، يجب على أصوات الشعب السوداني، الذي يتحمل وطأة هذه المأساة، أن يوجه الجهود نحو حل مستدام يعطي الأولوية لحقوقه وكرامته وتطلعاته إلى مستقبل سلمي. إن الطريق إلى التعافي طويل ومليء بالتحديات، ولكن مع الدعم الدولي المتضافر والالتزام بالعدالة والمساءلة والتخلي عن تأجيج الصراع، هناك أمل في مستقبل أكثر إشراقا للسودان.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أفريقيا السودان الصراع الإمارات حميدتي السودان أفريقيا الإمارات صراع حميدتي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القارة الأفریقیة فی جمیع أنحاء هذه الأزمة فی السودان
إقرأ أيضاً:
الأزمة التي تحتاج إليها ألمانيا
تُـعَـد ألمانيا النموذج المثالي لكل ما يشوب الاقتصاد الأوروبي من عيوب؛ فالناتج المحلي الإجمالي في طريقه إلى الانخفاض للعام الثاني على التوالي. والصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الكيماويات والأعمال المعدنية في حالة ركود. كما أعلنت شركات وطنية كبرى، مثل Volkswagen وThyssenKrupp، عن تخفيضات غير مسبوقة في الوظائف وإغلاق مصانعها.
دأبتُ لفترة طويلة على الزعم بأن أفضل طريقة لفهم هذه المشكلات أن ننظر إليها باعتبارها نتيجة سلبية لنجاح ألمانيا الاقتصادي السابق والركائز المؤسسية التي قامت عليها الإنجازات السابقة. وتشكل الوعكة الاقتصادية الألمانية الحالية دليلا آخر على هذا. في أعقاب الحرب العالمية الثانية -فترة من الاضطرابات والأزمات لكنها أيضا كانت فترة من التجديد والفرص- طورت ألمانيا الغربية آنذاك مجموعة من المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي تناسبت بشكل مثالي مع الظروف في ذلك الوقت. وللاستفادة من براعتها القائمة في التصنيع عالي الجودة، وضع صنّاع السياسات برامج ناجحة للتدريب المهني والتلمذة الصناعية، والتي نجحت في توسيع المعروض من الميكانيكيين والفنيين المهرة. لاستغلال التجارة العالمية المتنامية بسرعة واختراق أسواق التصدير العالمية، ضاعفت الصناعة الألمانية من إنتاج المركبات الآلية والسيارات والسلع الرأسمالية، وهي المجالات التي طورت فيها ميزة نسبية واضحة.
في الوقت ذاته، أنشأت ألمانيا الغربية نظاما ماليا قائما على البنوك لتوجيه الأموال إلى الشركات المهيمنة في هذه القطاعات. ولضمان الانسجام في شركاتها الكبرى والحد من الارتباكات في أماكن العمل، طورت نظاما للمشاركة في اتخاذ القرارات الإدارية، والذي أعطى ممثلي العمال مدخلات في قرارات كبار المسؤولين التنفيذيين. وأخيرا، للحد من السياسات الـمُـعَـطِّـلة، وعلى وجه التحديد لكبح جماح ذلك النوع من التطرف السياسي والتفتت البرلماني الذي طارد ألمانيا في الماضي، وُضِـع نظام انتخابي نسبي يسمح لكل أحزاب التيار السائد بأن يكون لها صوت، مع مراعاة العتبة 5% كحد أدنى للتمثيل البرلماني (للحد من نفوذ الأحزاب الهامشية).
كانت النتيجة السعيدة لهذا التوافق بين المؤسسات والفرص هي «Wirtschaftswunder»، «معجزة النمو الاقتصادي» في الربع الثالث من القرن العشرين، عندما تفوقت ألمانيا الغربية على منافسيها من الاقتصادات المتقدمة الرئيسية (باستثناء اليابان).
من المؤسف أن هذه المؤسسات والترتيبات ذاتها أثبتت أن تعديلها أمر بالغ الصعوبة عندما تغيرت الظروف. أصبح التركيز على التصنيع عالي الجودة ينطوي على مشكلات معقدة مع صعود منافسين جدد، بما في ذلك الصين، ومع ذلك ظلت الشركات الألمانية مُـوَظَّـفة بشكل كبير في خدمة هذه الاستراتيجية.
كان مبدأ المشاركة في اتخاذ القرار سببا في إحباط محاولات تغيير تنظيم محل العمل، ناهيك عن إغلاق المصانع غير الاقتصادية. لم يكن تمويل الشركات البادئة في قطاعات جديدة الميل الطبيعي للبنوك الـمُـحافِظة التي اعتادت التعامل مع الزبائن الراسخين المنخرطين في خطوط أعمال مألوفة. كما أسفر النظام الانتخابي النسبي مع العتبة 5% عن نتائج غير مرضية وائتلافات غير مستقرة عندما انتقل الناخبون إلى التطرف، فأصبح حزب البديل من أجل ألمانيا على اليمين وتحالف العقل والعدالة (Sahra Wagenknecht Alliance) على اليسار لكسب التمثيل البرلماني، في حين تُـرِكَ المنتمون إلى الحزب الديمقراطي الحر (Free Democrats) الأكثر اعتدالا عُـرضة لخطر الاستبعاد.
والحلول، كما يبدو، واضحة؛ زيادة الاستثمار في التعليم العالي والإقلال منه في التدريب المهني العتيق الطراز حتى تتمكن ألمانيا من أن تصبح رائدة في مجال الأتمتة (التشغيل الآلي) والذكاء الاصطناعي. وتطوير صناعة رأس المال الاستثماري بما يجعلها قادرة على خوض المجازفات التي لا ترغب البنوك في تحمّلها. واستخدام سياسات الاقتصاد الكلي لتحفيز الإنفاق بدلا من الاعتماد على أسواق التصدير الخاضعة للرسوم الجمركية. وإعادة النظر في نظام المشاركة في اتخاذ القرار والنظام الانتخابي النسبي المختلط الذي لم يَـعُـد مجديا.
أخيرا، وليس آخرا، تخفيف «مكابح الديون»، والتي تشكل إرثا آخر من الماضي يحد من الإنفاق العام. هذا من شأنه أن يسمح للحكومة بزيادة الاستثمار في البحث والتطوير والبنية الأساسية، وهما عاملان حاسمان في تحديد النجاح الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين. قد يكون تصوّر مثل هذه التغييرات سهلا، لكن تنفيذها ليس كذلك. فالتغيير صعب دائما، بطبيعة الحال. لكنه صعب بشكل خاص عندما يسعى المرء إلى تعديل مجموعة من المؤسسات والترتيبات التي يعتمد نجاح تشغيلها، في كل حالة، على تشغيل مؤسسات وترتيبات أخرى. تشبه محاولة تنفيذ مثل هذا التغيير استبدال جهاز نقل الحركة في سيارة فولكس فاجن بينما المحرك يعمل. على سبيل المثال، تشعر البنوك الألمانية، التي تعتمد على علاقاتها القائمة مع الزبائن، بأكبر قدر من الارتياح عندما تقرض شركات راسخة تعمل بطرق راسخة.
في المقابل، تعمل هذه الشركات على نحو أفضل عندما تكون لديها علاقات طويلة الأمد مع البنوك التي يمكنها الاعتماد عليها في التمويل. والاستعاضة عن هذه الشركات القائمة بشركات بادئة من شأنها أن تجعل البنوك التي تفتقر إلى الخبرة التي تتمتع بها صناديق رأس المال الاستثماري في مأزق عميق. وإذا أقدمت على الإقراض رغم ذلك فإنها تعرض نفسها لخطر الإفلاس. وإذا استعضنا عن البنوك بصناديق رأس المال الاستثماري، التي لا تهتم كثيرا بشركات ثني المعادن الثقيلة الحركة، فسوف تفقد هذه الشركات القدرة على الوصول إلى التمويل الخارجي الذي تعتمد عليه.
هذه هي طبيعة الجمود المؤسسي في ألمانيا. الخبر السيئ إذن هو أن الأمر ينطوي على تناقض خطير بين الوضع الاقتصادي الحالي في ألمانيا وإرثها المؤسسي، وأن هناك عقبات كبرى تحول دون تغيير هذا الإرث لإعادة تنظيمه بما يتماشى مع الوضع الحالي. أما النبأ السار فهو أن الأزمة التي تدفع إلى إعادة التفكير الشامل في هذا الإرث المؤسسي قد تؤدي إلى كسر الجمود. ولعل هذه هي الأزمة التي تحتاج إليها ألمانيا.