عربي21:
2025-04-17@06:34:58 GMT

من الإسلام الطائفي إلى الإسلام المقاوم

تاريخ النشر: 2nd, March 2024 GMT

عندما جاء "طوفان الأقصى" كنّا من أوائل الذين ربطوا هذا الحدث التاريخي بمقولة "الاستبدال" القرآنية، وقد أسمينا ذلك بـ"الاستبدال العظيم" لأنه عندنا في حكم الحتمية التي لا مهرب منها للأفراد والجماعات، سواء أكان ذلك الاستبدال مطلبا إلهيا متعاليا أم واجبا بشريا محايثا.

فأمام التهديدات الوجودية التي يُمثلها المشروع الصهيوني -أو الإمبريالية في مرحلتها المتصهينة- لم يعد التغير الجذري خيارا بل ضرورة لا يقابلها واقعيا إلا القبول بأن يكونوا جزءا من "إسرائيل الكبرى"، سواء بالاحتلال المباشر أو بالاستعمار الفكري والاقتصادي.

ولذلك فإن العرب والمسلمين قبل غيرهم مضطرون إلى تغيير ما بأنفسهم في مستوى البنى الفكرية والمخيالية والمرجعية -أي تغيير أنساق ذواتهم الفردية والجماعية- حتى لا يتأبدوا في وضعية "الأضحية المقدّسة" للتغييرات العنيفة (رمزية ومادية) التي تفرضها القوى الصهيو-صليبية ومجموعاتها الوظيفية فيما يُسمّى بالدول الوطنية. فهذه الدول لم تكن يوما –في مستوى سياساتها العامة أو في علاقتها بالخارج والداخل- إلا منظومات للاستعمار الداخلي مهما كانت شرعياتها التقليدية والحداثية.

رغم أن المقاومة الإسلامية -بجناحيها السني والشيعي- لم تتخلص من مرجعياتها الطائفية، ورغم أن هذا المطلب قد يكون ضربا من المثالية في هذه المرحلة التاريخية، فإن التقاءها في مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة هو خيار يخترق السياج المذهبي ويمهّد لتحولات فكرية ومراجعات أصولية تتجاوز القضية الفلسطينية، بل تتجاوز إقليم الشرق الأوسط برمته
رغم أن المقاومة الإسلامية -بجناحيها السني والشيعي- لم تتخلص من مرجعياتها الطائفية، ورغم أن هذا المطلب قد يكون ضربا من المثالية في هذه المرحلة التاريخية، فإن التقاءها في مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة هو خيار يخترق السياج المذهبي ويمهّد لتحولات فكرية ومراجعات أصولية تتجاوز القضية الفلسطينية، بل تتجاوز إقليم الشرق الأوسط برمته. فهي تنسف الكثير من المصادرات الطائفية التي عطّلت التقاء جناحي الأمة، واستضعفتهما ووظفتهما لخدمة مشاريع استعمارية لا يمكن أن تستمر إلا بتغذية الطائفية وغيرها من أشكال التفتيت وإضعاف الجبهات الداخلية.

إن مشروع المقاومة المشتركة لا يستوي على سوقه إلا إذا خرج الشيعيُ من تلك الصورة النمطية التي تراه "أشد كفرا من اليهود والنصارى" وورثتهم في التحالف الصهيو-صليبي، كما أن ذلك المشروع لا يمكن أن ينجح إذا استمر اختزال السُّني في كونه وريث يزيد أو قاتل الحسين أو الحليف الموضوعي للاستكبار العالمي بقيادة "الشيطان الأكبر" (أمريكا). وهو ما يعنى أننا أمام تمثّلات/أطروحات جديدة قد لا تنسف المقولات التراثية، ولكنها ستخلخلها أو على الأقل ستحيّدها موضوعيا في انتظار القيام بمراجعتها جذريا ولو بعد حين.

إن الإسلام الطائفي ليس فقط انتقالا "من إسلام القرآن إلى إسلام المحدثين" في الدائرة السّنية (وهو عنوان الكتاب الهام الذي ألفه الراحل جورج طرابيشي وصدر في طبعته الأولى عن دار الساقي في بيروت سنة 2010)، وليس هو أيضا مجرد انتقال من "إسلام القرآن إلى إسلام الأئمة المعصومين" عند الشيعة، أي ليس فقط انتقالا من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، ومن إسلام "أم القرى" إلى إسلام الفتوحات.

إن الإسلام الطائفي عندنا هو تلك الأنساق الفكرية والمخيالية التي استصحبت روح القبلية (إسلام السنة) أو العشيرة (إسلام الشيعة) وأسست عليها تراتبيات اجتماعية وأنساقا حجاجية تدعي جميعها احتكار "الحق" والوفاء لروح النبوة الخاتمة. كما أن الإسلام الطائفي هو ذلك الإسلام الذي يتماهى مع "الإسلام المحمدي"، فيختزل الأمة في الطائفة ويطابق بين قول "المشرّع الأصلي" (الله سبحانه وتعالى) وبين كل مصادر التشريع المشتقة (ما يُنسب إلى الرسول والأئمة وأصحاب المذاهب الفقهية والعقدية وما يختاره العلماء المعتبرون في الطائفة وغيرهم ممن بلغ رتبة الإفتاء).

إن الإسلام الطائفي هو في جوهره كل تلك المشاريع السلطوية، سواء أوصلت للحكم أم بقيت في المعارضة، تلك المشاريع التي لا يمكن أن تكتسب شرعيتها إلا بإنكار ضمني لاكتمال الدين وتمام النعمة على عهد الرسول. وهو اكتمال جاء صريحا في الآية الثالثة من سورة المائدة بقوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".

ولا يشك عاقل في أن الدين الذي اكتمل -بشهادة القرآن ذاته- لم يكن فيه كتب حديث ولا متون أصول ولا مدوّنات عقدية وفقهية، ولكنّ مشكلة ذلك "اليوم" القرآني وما سبقه أو تلاه في حياة الرسول تكمن في أنه لم يكن قابلا للاسترجاع إلا بعيون طائفية، أي بعقول تختزل الرسول ومشروعه "الخلاصي" في خياراتها هي دون غيرها. ونحن نذهب -على عكس المقولات الطائفية- إلى أنّ "يوم الله" هو يوم قرآني بالضرورة، بحيث يكون البحث عنه خارج الوحي ابتعادا مؤكدا عن روح النبوة الخاتمة ومشروعها لتحرير الإنسان من عبادة الإنسان، أي لمشروعها التوحيدي الذي لا معنى له اجتماعيا إلا بتوحيد ثان مداره حرية الإنسان وكرامته.

تاريخيا، أكدت كل التجسيدات الطائفية للمشروع المحمدي أنها مجرد مشاريع سلطوية قهرية لا يحضر الدين فيها إلا لخدمة "لصوص الله" (وهو عنوان الكتاب القيم لعبد الرزاق الجبران) مهما كانت مرجعياتهم المذهبية. ولا شك عندنا في أن سرقة الرعية (أو الشعب) محوجة إلى سرقة الله ونبيه. إن جوهر الإسلام الطائفي في عالمنا الحالي هو "أسلمة" المنطق القبلي بتهميش ورثة أبي ذر وإعلاء كلمة الملأ القرشي بعد وضعها كذبا وبهتانا على فم الرسول، كما أن الإسلام الطائفي يستمد علة وجوده من سرقة كل معاني الحرية والكرامة والعدالة والمسؤولية التي جاء بها الإسلام، وإخراجه للناس بصورة تحرّض واقعيا على تأليه الحاكم (ومن يسنده من الفقهاء)، وتشيع الاتكالية وتؤبد الصور النمطية التراثية للعدو "القريب" (أي المختلف طائفيا) للتغطية على العدو الأقرب، أي العدو المتصهين الذي يتحكم من خلف ألف حجاب في مناويل التنمية ومناهج التعليم وجميع المنتجات الثقافية.

عندما نتحدث عن الإسلام المقاوم باعتباره تجاوزا جدليا للطائفية، فإننا لا نتماهى مع العديد من الأطروحات "الحداثية" التي تدعو إلى العودة إلى الإسلام القرآني باعتباره النقيض الموضوعي للإسلام الطائفي أو إسلام التاريخ، فأغلب هذه الأطروحات "القرآنية" لا تدعو إلى الاكتفاء بالقرآن لتحكيمه بين الناس أو لإشراكه في إدارة الفضاء العام، بل هي تفعل ذلك فقط لنقض أطروحات الإسلام السياسي القائمة على الموروث الطائفي بأطروحاته المعلومة. عندما نتحدث عن الإسلام المقاوم باعتباره تجاوزا جدليا للطائفية، فإننا لا نتماهى مع العديد من الأطروحات "الحداثية" التي تدعو إلى العودة إلى الإسلام القرآني باعتباره النقيض الموضوعي للإسلام الطائفي أو إسلام التاريخ، فأغلب هذه الأطروحات "القرآنية" لا تدعو إلى الاكتفاء بالقرآن لتحكيمه بين الناس أو لإشراكه في إدارة الفضاء العام، بل هي تفعل ذلك فقط لنقض أطروحات الإسلام السياسي القائمة على الموروث الطائفي بأطروحاته المعلومةوهي تتعامد وظيفيا مع السلطات القائمة مهما كانت طبيعة شرعياتها (تقليدية أو حداثية)، بل هي تلتقي موضوعيا مع العديد من الأطروحات الاستشراقية القائلة بـ"الاستثناء الإسلامي"، أي باستحالة التوفيق بين الإسلام في ذاته (بما في ذلك القرآن) وبين العقل السياسي الحديث.

إن العودة إلى "القرآن" عندنا لا تعني "محو" التاريخ أو نفيه بصورة متخيلة، ولا تعنى أيضا وضع كل التراث الطائفي في سلة واحدة ورميها في بحر النسيان، بل هي تعني مراجعة ذلك التراث واستخلاص ما ينفع الناس فيه -وليس فقط المسلمين- وتفعيله في مشروع "المقاومة".

ختاما، فإننا لا نعتبر مشروع المقاومة مجرد مشروع لتحرير فلسطين وإن كانت تلك نقطة بدئه، ولا نعتبره أيضا مجرد مشروع لتحرير العرب والمسلمين من أغلال الطائفية ومشاريع الاستلحاق الاقتصادي والثقافي برعاية النخب الدينية والحداثية "المتصهينة"؛ إن مشروع المقاومة هو أساسا مشروع "إسلامي" لتحرير الإنسانية جمعاء من الإمبريالية في لحظتها الصهيونية بعد تحرير العرب والمسلمين من "الرواكد"، أي من كل القوى التي لا حياة لها إلا في الماء الآسن للطائفية وللتحديث المشوّه.

ونحن نؤمن أنّ طوفان الأقصى هو مجرد معركة في حرب فكرية وعسكرية طويلة الأمد، كما أننا نؤمن أنّ مستقر تلك الحرب لن يكون إلا خروج العرب والمسلمين من وضعية "النقطة الكونية السوداء" أو الهامش الوظيفي للإمبريالية؛ إلى وضعية "الرحمة للعالمين" أو وضعية الفاعل الكوني بقيم "إسلامية" حقيقية قد يظن المسلمون قبل غيرهم -من شدة تهميشها أو تغييبها المتعمد- أنها ليست من الإسلام، وما هي إلا جوهر الإسلام الذي سيعود غريبا (عن الأطروحات الطائفية والحداثية الزائفة) كما بدأ غريبا (عن وعي المستكبرين من الملأ القرشي).

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة الشيعة السنة المسلمين السنة الشيعة المقاومة المسلمين مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العرب والمسلمین إسلام القرآن إلى إسلام تدعو إلى کما أن

إقرأ أيضاً:

في مئـويّـة «الإسـلام وأصـول الحكـم»: الكــتابُ القـضيّـة

لم تُـغـيِّـر المائـةُ عـامٍ التي تـفصلـنا عـن صـدور كـتاب الإسـلام وأصول الحكـم للشّـيخ عليّ عبـد الرّازق من المكانـةِ الاعـتـباريّـة للكـتاب، في الفكـر العـربيّ والإسلامـيّ المعاصـر، ولا هي نالت من قيـمته النّـظريّـة وروحـيّـتـه الاجتهاديّـة في مسـألةٍ هي في جملـةِ أمّـهات مسائـل ذلك الفـكـر: العلاقـة بين السّـياسة والدّيـن في تاريـخ الإسـلام؛ فـلقـد زادتِ القيمـةَ تلك كـثـافـةً وسلّطت عليها ضـوءَ الإبـانة والتّـظهيـر، في نطـاق دوائـرَ فكـريّـةٍ عربيّـة تخطّـت دائـرة الفـكـر الإسـلاميّ، وأَبْـدَتْ (= الدّوائـرُ تـلك) من آيات الاحتـفاء المستـمرّ بـه ما لم يتـمتّـع بـه كـتابٌ أو تأليف في التّـاريخ الفـكـريّ المعاصـر.

فَـرَضَ كـتـاب عبد الرّازق نـفـسـه في ميدانـه وتَـنَـزَّل من ذلك الميـدان - وفي الموضوع المطروق فيـه - منـزلـةَ النّـصّ المرجعـيّ الذي عليـه مبْـنى القـول في عـلاقات الدّيـنيِّ والسّياسيّ في الإسـلام. ومع أنّ التّـشنـيع عليه استـمرّ يُـطِـلّ برأسـه، طَـوال هـذه الأعـوام المائـة، في بيـئـات فـكـريّـة وفـقـهيّـة محافظـة وتـقـليـديّـة استـأنـفت جـداليّـاتها ضـدّه، بـل حـربها عليه، إلاّ أنّ ذلك ما نـال مـن صورة النّـصّ في الوعـي العربيّ ولا أَحْـدَث خـدْشـاً فيها؛ على الأقـلّ في أوساط مَـن وقـفـوا على وجـوه الجِـدّة والرّصانـة في أطـروحـتـه، وأكـثـرُهـم من المدافـعيـن عن الحداثـة والمناصـريـن للاجتـهاد. والحـقُّ أنّ أعظـمَ الاستـقبـال الطيّـب لكـتاب عليّ عبد الرّازق، وأكـبـرَ الاحتـفـاء بـه والبـناءِ عليه، إنّمـا جـرى في هـذه البيـئـات الـفكـريّـة الحديثة التي قـدّرتْـه حـقّ قـدْره فيـما حـافَ عليه مفكّـرو الإسـلام المعاصـرون وأَنْـكـروه، بـل نـبـذوهُ من مصادرهم فما أتـوْا عليه بالذّكـر إلاّ في معـرض الهـجوم والقـدْح والتّـقريـع!

لا نجـادل، طـبـعاً، في أنّ المائـة عـامٍ هـذه التي تفـصلنـا عـن صدوره شهِـدتْ على وجـوهٍ من التّـطـوير والصّـقـل للأفكـار التي وردت في الكـتاب عـن المشروع النّـبـويّ، وعـن مكانةِ الدّيـن والسّـياسـة منـه، وعـن مؤسّـسـة الخـلافة في الإسـلام ومـدى مشروعيّـتـها أو بطـلانِ دعـوى الحاجـة إليها؛ بـل لقـد شهِـدتْ على صُـوَر متـعـدّدة مـن مجاوَزة التّـأليف الفـكـريّ في هـذا الغـرض لِـمَـا أفصح عنـه الشّـيخ المجـتهـد في كـتابـه وارتيادِ ذلك التّـأليف آفـاقـاً ما كانت لتـدخُـل، قبـل قـرنٍ من اليـوم، ضمـن الأفـقـه الذّهـنـيّ لعبـد الرّازق ولا في عِـداد ممـكـناتِ معارفِـه المتاحـة.

وعـندي أنّ التّسليـم بوجـود حالةٍ من المجاوزَة، في هـذا الباب، تسليـمٌ بسُـنّـة التّـطوّر الموضوعـيّ وسلطـانِ أحكامه. مع ذلك، مَـن يملك منّـا أن يجـحـد حـقيقـة أنّ النّـصّ هـذا نـصٌّ مؤسِّـس، وأنّـه هـو الذي فَـتَـح ودشَّـن وفَـلَـقَ الأفـقَ أمـام البحـث السّياسيّ أو البحث الفكريّ في السّياسة؛ ومَـن يملك أن يـتـجاهـل مـدى الجَـراءَة التي بـلغـها خطـاب الشّـيـخ عليّ عبـد الرّازق في كـسْـرِ المحظـور في بيئـات العلم الدّيـنيّ التّـقـليديّ السّـائـد في مِـصَـر وسائـر البـلاد العـربيّـة إبّـانـئـذٍ. تكـفي الحمْـلاتُ الشّـعواء التي شنّـها فـقـهاء كُـثـر على الكتاب وصاحبه، والتي بلغ فيها الطّـعـنُ على رأيـه مبلـغاً من الشّـدّة والعـنـف غيـرَ مسبوقٍ ولا مألوف؛ ويـكـفي ما لـقـيَـه من إنكـارٍ رسمـيّ ومن عـقابٍ مبـرِّح مـسَّ مـركـزَه وعَـمَله لـيُـطْـلِعنا على حـجم تلك الرّجّـة الهائـلة التي أحـدثها الكِـتاب في الأوساط المحافظـة ومؤسّـساتها، وما نَـجَـم منها من شعـورٍ بالخـوف - من جانب تلك الأوساط - على مكانـة المعارف التّـقـليـديّـة.

لـقـد أتى يـقـدّم أوّل اجتـهادٍ فـكـريّ جريء، من داخـل الفـكـر الإسلامـيّ، يراجع ما استـقـرّ عليه العلـمُ الدّيـنيّ التّـقـليـديّ من يـقيـنـيّـاتٍ في شـأن المسألة السّياسيّـة في الإسلام وصلـةِ الدّولة بالدّيـن ونِصـاب الخـلافة في الاجتماع الإسلامـيّ.

ولـقـد يحْـسُـن بالنّـاظـر في كـتاب الشّـيخ عبـد الرّازق وظـروفِ صـدوره، وما جـرّه ذلك الصّـدور مـن ضـروب الهجـوم عليه بعـنـفٍ لفـظيٍّ بـالغ، أن يـلْـحظ واقـعـتـيْـن وقَـعـتَـا، وقـتـئـذٍ، وأن يعـتـبـر بهما من أجـل إحسان فـهـم قيـمة الكـتـاب، مـن وجْـهٍ، ودواعـي القسـوة في ردود مَـن ردّوا عليه... من وجْـهٍ ثـان.

فأمّـا الواقعـة الأولى فـتـتـمثّـل في إلـغاء نظـام الخـلافة في تركيا (مارس 1924)، بعـد حـلّ مصطـفى كمال أتاتـورك نظام السّـلطنـة قبـل ذلك بعاميـن، مع ما تَرَكَـهُ ذلك الإلغاء من حسـرةٍ لـدى التّـقـليـديّـيـن والمحافظيـن، حتّى الذين لم يُـوالوا الدّولـة العثمانيّـة منهم.

وأمّـا الواقعـة الثّانيّـة - وهـي شـديـدة الاتّـصال بالأولـى - فـتـكـمَـن في إقـدام أحـد كبـار مراجـع الفـكـر الإسـلاميّ، وتـلمـيذ محمّـد عـبده، السّـيّـد محمّـد رشيـد رضـا على إحـياء مـوضوعـة الخـلافـة - في لحـظـة انهـيـار نظامـها في تركيـا - بكتابـة سلسلة مـقالاتٍ جُـمِـعت في كـتـابٍ حمـل عـنـوان: الخـلافـة أو الإمـامـة العظـمـى.

في سـياق الواقـعتيـن هاتيـن، بَـدَا الكـتـاب وكأنّـه تــكرَّس للـرّدّ عليـهمـا معـاً، فكـان على صاحبـه أن يـواجـه دعاةَ الخـلافة من الفـقـهاء ومـن الأمـراء على السّـواء، وأن يتـلـقّـى الأذى منهمـا.

إذا كـان رشيـد رضـا قـد وضَـع كـتـابـه دفـاعـاً عـن خـلافـةٍ رآهـا تـتـهالك أمـام ناظـريْـه ثـمّ تُـفارق الوجـود بإيـعازٍ من مصـطفى كمـال - الذي بـجَّـله رضـا طـويلاً ورفَـع مـن مقامـه وسـوّقـه في كـتابـاتـه قـبل أن يـنـقـلب عليه -، فـقـد أعـاد بوضـعـه الكـتاب ذاك إحـياءَ «عـلـمٍ» إسلامـيّ تـقـليديّ هـو الفـقـه السّـياسيّ أو فـقـه السّـياسـة الشّـرعـيّـة بعـد أن تجـاوزُه فـكـرُ الإصلاحيّـة الإسلاميّـة التي كان رضـا ينـتمي إليها.

كـان الشّـيـخ علـيّ عبـد الرّازق مـن نسْـلِ الإصـلاحيّـةِ الإسلاميّـة التي تَمَسَّـك بتقاليدها الفـكـريّـة الاجـتـهاديّـة التي أرساها جمـال الدّيـن الحسـيـنيّ (الأفـغانـيّ) ومحمّـد عـبده، لذلك مـا كـان يسـعه أن يسـتسيـغ خطاب رضـا العائـد بالوعـي الإسلامـيّ إلى أُزعـومة الخـلافة وأنـفـاق فـقـه الإمـامة أو فـقـه السّـياسـة الشّـرعيّـة. لذلك يـبـدو نـقْـضُـه لنظـام الخـلافة نقـضاً غـيـرَ مباشـر لأطـروحة محمّـد رشيـد رضـا حولها. وعلى ذلك، إذا كـان محمّـد عبـده قـد سـدّد ضربـةً موجـعـةً للـفـقه السّياسيّ الإسلامـيّ التّـقـليـديّ بالانـصـراف عنـه إلى الدّفـاع عـن فكـرة الدّولـة الوطنـيّـة الحـديثـة، فإنّ مقـالة عـليّ عبـد الرّازق تـسـتأنـف صـنيـع محمّـد عـبده وتضـيف إليـه إنكـارَها مشـروعيّـة ذلك الفـقـه السّـياسـيّ من أساسـه والقـولَ ببـطـلان حاجة الاجتـمـاع الإسلامـيّ إليـه.

على أنّ إلغـاء الخلافة في تركيـا لـم يمـرَّ مـن دون أن تخـامر بعـضَ المحافـظيـن فكـرةُ اصـطنـاع خـلافة في مصـرَ لـم يُخْـف الخـديـوي فـؤاد الأوّل استحـسانـه لـها بـل السّـعي إليها. هـذا ما يفـسّـر لماذا ارتـفع الطّـلبُ على فكـرة الخلافـة في البيئـات العلميّـة التّـقـليـديّـة في مِـصْـرَ وخارجِـها، وتَـزايَـد التّـأليـفُ فيـها والدّفـاعُ عنها في تلك البيـئات. بـل هـذا ما يفـسّر اشتـداد الحمـلة على الشّـيخ عـبد الرّازق مـن قِـبَـل أقـلام ذات نـفوذٍ مـؤسّـسيّ ديـنيّ (مـن قـبيـل ما كـتبـه كـلّ مـن الشّـيـخ محمّـد الخضـر حسيـن، والشّـيـخ محمّـد بخـيت المطـيـعي، والشّـيـخ محمّـد الطّاهـر بـن عـاشـور دحـضاً لكـتـاب علي عـبد الرّازق) ، وبـلـوغَـها حـدّ محاكمـةٍ لـه في الأزهـر لم يكـنِ القـصـرُ بعـيـداً عـن الإيـعاز بـها: على ما تـدلّ على ذلك البـرقـيّـةُ التي رفعـها شيـخ الجامـع الأزهـر أبـو الفضـل الجيـزاوي إلى الملك فـؤاد عـقـب قـرار الأزهـر بـفصـل عليّ عبـد الرّازق وتجـريـده من شهادة العالميّـة. لـقـد كـان الكـتـاب في قـلـب هـذه الحسابـات السّـياسيّـة التي أسّـست لـفكـرة تـأليـفـه ومساهمةً من صاحبه في دحض دعوى الخلافة وإبطال مسوّغات من سوّغوا لها في عصره.

مقالات مشابهة

  • مصرع ستة أشخاص جراء الأمطار والعواصف في إسلام آباد
  • الزمالك يصعد ضد زيزو.. ما علاقة السفارة الأمريكية؟
  • شقيق حسام عبدالمجيد: الأولوية للزمالك.. والأهلي لم يفاوضنا
  • كيف يمكن للسلطة الجديدة بسوريا إدارة ملف التنوع الطائفي؟
  • 960 مليون وردة سنويًا.. عطر الورد الطائفي يفوح في أرجاء المملكة
  • في مئـويّـة «الإسـلام وأصـول الحكـم»: الكــتابُ القـضيّـة
  • فنون الطهي تشارك في جناح الورد الطائفي ضمن فعاليات سباق الفورمولا1
  • البشائر يخطف انتصارا مثيرا من السيب في دوري الطائرة
  • الأمير تركي الفيصل: هنيئًا لنا بقيادتنا التي فتحت لنا أبواب الرقي والازدهار.. فيديو
  • إسلام أبازيد يطلق الدليل المطبوع للخدمات دعما للصحفيين