فلسفة الواقعية السحرية
تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT
مارس 1, 2024آخر تحديث: مارس 1, 2024
إبراهيم أبو عواد
كاتب من الأردن
إنَّ الواقعية السِّحْرية لَيْسَتْ تَيَّارًا أدبيًّا يَجْمَع بَين الواقعِ والخَيالِ ضِمْن إطار إبداعي فَحَسْب ، بَلْ هِيَ فلسفة إنسانية مُتكاملة تَرْمي إلى اكتشاف العناصر الغامضة في الواقع المُعاش ، والانقلابِ عليه ، وإعادة إنتاجه أفقيًّا وعَمُوديًّا ، مِن أجل تَحويلِ العناصر الرُّوتينية إلى رُموز عجائبية ، ونَقْلِ الأنساقِ الحياتية مِن الرَّتابة الخاضعة للزمنِ والمكانِ إلى السِّحْرِ السائلِ في التراكيبِ اللغوية العابرةِ للتَّجنيسِ والحُدودِ.
إذا كانَ الإنسانُ هُوَ الساحرَ الذي يُنَقِّب عَن وجهه بَيْن الأقنعةِ ، ويَبحَث عَن الأحلامِ الوَرديةِ في الواقعِ الجريحِ ، فإنَّ الواقعية السِّحرية هي انقلابُ السِّحْرِ على الساحر ، وهذا الانقلابُ لا يَكُون دمويًّا ولا مُتَوَحِّشًا ، لأنَّ الهدفَ مِنْه هُوَ إحلالُ الحِبْرِ مَكانَ الدَّمِ ، وتَتويجُ القَلَمِ سَيْفًا على الأوهامِ لا سَيْفًا على الرِّقَابِ ، وقَتْلُ الوَحْشِ داخل الإنسان ، ولَيْسَ قتل الإنسان . وبالتالي ، يُصبح العملُ الأدبي عمليةَ حَفْرٍ في الأحلامِ الورديةِ والحُلُولِ السِّحْريةِ في رُوحِ الزمنِ وجَسَدِ المكانِ ، ولَيْسَ حاجزًا عسكريًّا بَين الحُلْمِ والكابوسِ ، أوْ نُقْطَة تَفتيش عسكرية في مَسَارِ الفِعْلِ الاجتماعي المُنْدَمِج معَ التجربة الإبداعية الإنسانية . لذلك ، كانت الثقافةُ الحقيقيةُ هِيَ زَمَنَ الخَلاصِ لا زَمَنَ الرَّصَاصِ .
في أحيان كثيرة ، يَكُون الواقعُ المُعاشُ أكثرَ غُموضًا مِن السِّحْرِ، وأكثرَ عجائبيةً مِن الخَيَالِ ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحياةَ اليومية كَنْزٌ مِن الأسرار ، يَحتاج إلى بَحْثٍ دائم ، وتَنقيبٍ مُستمِر . واللغةُ هي أداةُ الحَفْرِ في جَوْهَرِ الواقعِ ، وحقيقةِ الحياةِ ، وصُلْبِ المَوضوع . وبِدُون اللغةِ سَيَكُون الإنسانُ شَبَحًا هُلامِيًّا بلا خريطة ولا بُوصلة ، يُشبِه الذاهبَ إلى المَعركةِ بِلا سِلاح . واللغةُ هي مِحْوَرُ التوازن بين السِّحْرِ والساحرِ . وكُلُّ لُغَةٍ تُولَد خارجَ رَحِمِ الدَّهْشَةِ والإبهارِ هِيَ تراكيب مِيكانيكية بِلا رُوح ، وكُلُّ وَاقِعٍ يُولَد خارجَ نِطاق الفِعْل الاجتماعي الإبداعي هُوَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَة. وإذا اجتمعَ الواقعُ واللغةُ في بُنيةِ الوَعْي المَنطقي المُتَسَلْسِل ، صارَ الأدبُ جَسَدًا للخَيَالِ في هُوِيَّةِ المُجتمع ، وصارت الثقافةُ تَجسيدًا للمَعرفةِ الإنسانية في رِحلة البحث عن المَعنى .
إنَّ السِّحْرَ اللغوي لَيْسَ حُقْنَةً مُخَدِّرَةً في جَسَدِ الواقع ، وإنَّما هُوَ إعادةُ إنتاج مَعرفي للتاريخِ والجُغرافيا والذكرياتِ ، بِحَيث تُصبح نَقْدًا عقلانيًّا لتفاصيلِ المُجتمع الحَيِّ والحُرِّ ، وكَشْفًا للصِّرَاعَاتِ المُستترة في أعماقِ النَّفْسِ الإنسانية. والسِّحْرُ اللغوي هُوَ القُوَّةُ الدافعة للتَّعبير الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ، الذي يَعمل على عَقْلَنَةِ الأُسطورةِ وأنْسَنَتِهَا ( جَعْلِها عَقلانيةً وإنسانية ) مِن أجل نَقْلِ الزمنِ مِن طَبيعةِ الواقعِ إلى رمزية الوُجودِ ، ونَقْلِ المَكانِ مِن زاوية الرُّؤيةِ إلى رُؤيةِ الحُلْمِ .
والتَّعبيرُ الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ يُمَثِّل صِياغةً جَديدةً لإرادةِ المَعرفةِ ، بِحَيث تُصبح طريقةً لتحليل الدَّورِ الوظيفي للإنسانِ في الحياة ، وتَرتيبِ تفاصيل الحياة ضِمْن نظام تَرَاتُبي مِن التجارب الشُّعوريةِ والأدبيةِ ، يَسْتَنْبِط العناصرَ الخياليةَ المُتشظية مِن الواقع المادي المُنكمِش على نَفْسِه بِفِعْلِ ضَغط النظامِ الاستهلاكي . وبالتالي ، تُصبح الواقعيةُ السِّحرية عملية إحلال لتجربةِ الكِتابة الرُّوحية الإبداعية مَكَانَ النَّسَقِ الماديِّ الوظيفي الذي يَسْحَق رُوحَ الإنسانِ ، ويُعيد هَندسةَ مَشاعرِه وأحاسيسِه بشكل مِيكانيكي آلِيٍّ ، بِحَيث يُصبح الإنسانُ سِلْعَةً ضِمْن قانونِ العَرْضِ والطلبِ ، وشَيْئًا مِن الأشياءِ المَسحوقةِ بِلا هُوية مَعرفية .
وأهميةُ الواقعيةِ السِّحْرية تَكْمُن في أمْرَيْن: تَفجير الطاقةِ الرمزية في اللغة،وتَجديد شَبابِ اللغةِ. وهاتان العَمليتان تَحْدُثان بشكل تَزَامُني ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى احتراقِ المُبْدِعِ ذاتيًّا كَي يُضِيءَ العناصرَ المُحيطة به . وعمليةُ الاحتراق الذاتي تَشْمَل الأحلامَ والذكريات، وتُولِّد طاقةً معرفية قادرة على جمع شظايا قلب المُبْدِعِ. وهكذا، ينبعث المُبْدِعُ مِن احتراقِه، ويُولَد مِن مَوْتِه . وفي هذه الرحلة، ينبغي أن يَجِد المُبْدِعُ نَفْسَه خارج نطاق الأقنعة ، وخارج نُفُوذ المرايا ، لأنَّ التَّقَمُّصَ والتقليدَ يَقتلان رُوحَ الإبداعِ ، ويُحوِّلان النَّصَّ إلى نُسخة مُقَلَّدَة ومُزَوَّرَة ، وقيمةُ المُبْدِعِ تَتَجَلَّى في صَوْتِه الخاص المُتَفَرِّد . وإذا تَحَوَّلَ إلى صَدى سَيَفْقِد سُلطته الاعتبارية ، ويَفْقِد النَّصُّ مَركزيته الأدبيةَ .
والواقعيةُ السِّحْريةُ لَيْسَتْ عمليةَ رَش للسُّكَّرِ على مَوْتِ الواقع ، وإنَّما هي منظومة لِجَعْلِ الأحلامِ مَرئيةً في مَرايا الحياةِ اليوميةِ ، وخرائطِ النَّفْسِ الإنسانية ، مِن أجْلِ تَحريرِ التجاربِ الإبداعية مِن سَوداويةِ الواقعِ ، وتحقيقِ التوازنِ بَين الألَمِ والأمَلِ .
المصدر: وكالة الصحافة المستقلة
كلمات دلالية: الم ب د ع
إقرأ أيضاً:
إعلان انخفاض نسبة الفقر والبطالة في العراق.. هل يعكس الواقع الكامل على الأرض؟
بغداد اليوم – بغداد
علق المختص في الشؤون الاقتصادية والمالية نوار السعدي، اليوم الثلاثاء (28 كانون الثاني 2025)، حول اعلان وزارة التخطيط انخفاض نسبة الفقر والبطالة في العراق.
وقال السعدي لـ"بغداد اليوم"، إن "الادعاءات التي تشير إلى تراجع معدلات الفقر والبطالة في العراق تحتاج إلى تحليل دقيق يتجاوز الأرقام الرسمية، وبالرغم من أن وزارة التخطيط تعلن عن انخفاض نسبة الفقر إلى 17.6% والبطالة إلى 14%، فإن هذه الإحصائيات قد لا تعكس الواقع الكامل على الأرض".
وبيّن أن "الاقتصاد العراقي يعاني من تحديات هيكلية عميقة، منها الاعتماد المفرط على النفط كمصدر رئيس للدخل، وضعف تنويع الاقتصاد، بالإضافة إلى الأزمات السياسية والأمنية التي تعرقل الاستثمار والتنمية، ما زالت العديد من القطاعات الإنتاجية تعاني من الجمود، ولا تزال الفرص الوظيفية محدودة في ظل ضعف القطاع الخاص وعدم قدرة القطاع العام على استيعاب المزيد من القوى العاملة".
وأضاف أنه "يمكن أن تكون هذه الأرقام قد تأثرت ببرامج مؤقتة أو إجراءات حكومية قصيرة الأمد، مثل توسيع شبكة الحماية الاجتماعية أو تقديم مساعدات غذائية ومالية، ورغم أهمية هذه الإجراءات، إلا أنها لا توفر حلولًا مستدامة"، مردفا، أن "انخفاض معدلات البطالة والفقر بشكل حقيقي يتطلب تحسين البنية التحتية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتطوير التعليم والتدريب المهني، وتشجيع ريادة الأعمال".
وتابع السعدي، أن "المؤشرات غير الرسمية التي يمكن ملاحظتها من الواقع الاجتماعي والاقتصادي، مثل زيادة أعداد العاطلين عن العمل في صفوف الشباب، والهجرة المتزايدة بحثًا عن فرص أفضل، قد تشير إلى أن معدلات الفقر والبطالة لا تزال مرتفعة بشكل كبير، وربما أعلى من النسب المعلنة".
وختم المختص في الشؤون الاقتصادية والمالية قوله، إن "هناك حاجة إلى مراجعة أكثر شفافية ومنهجية للإحصائيات الرسمية، مع التركيز على السياسات الاقتصادية طويلة الأمد بدلًا من الإجراءات المؤقتة، لضمان تحسين حقيقي ومستدام في مستوى معيشة المواطنين".
وكان الناطق باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي، أعلن في وقت سابق من اليوم الثلاثاء (28 كانون الثاني 2025)، أن نسب البطالة أشرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية انخفاضا، فيما بيّن أن البطالة كانت نسبتها 5, 16 بالمئة وأصبحت الآن 14 بالمئة، وأن معدل الفقر انخفض من 23 بالمئة إلى 17 بالمئة".
وقال الهنداوي في بيان تلقته "بغداد اليوم"، إن "جامعات وكليات البلاد الحكومية والأهلية تخرج أكثر من 350 ألف طالب سنويا بمختلف التخصصات العلمية والإنسانية، لذلك لا تستطيع الدولة استيعاب هذه الأعداد الهائلة بسبب عملية ترشيق التوظيف، بعد أن أثقل الجسد الحكومي بكثرة الإنفاق الاستهلاكي وصعوبة توفير الرواتب والأجور".