كيف هزّت حرب الاحتلال على غزة السياسة الداخلية في بريطانيا؟
تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، تقريرا، لمدير مكتبها في لندن، مارك لاندلر، قال فيه "إن المشرعين داخل البرلمان البريطاني أطلقوا صيحات الاستهجان وخرجوا من مجلس العموم احتجاجا على أسلوب تعامل رئيس البرلمان مع التصويت الداعي إلى وقف إطلاق النار في غزة".
وتابعت: "وفي الخارج، قام حشد من المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين بعرض شعار "من النهر إلى البحر" على واجهة ساعة بيغ بن، مما أثار استنكارا من أولئك الذين ينظرون إلى الشعار بأنه صرخة حاشدة للقضاء على إسرائيل".
وأوضح: "أظهرت المشاهد الفوضوية التي شهدتها لندن الأسبوع الماضي كيف أن حرب إسرائيل في غزة يتردد صداها إلى ما هو أبعد من الشرق الأوسط. فمن الولايات المتحدة إلى أوروبا، كانت عملية حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ورد الفعل المدمر من جانب إسرائيل، سببا في تأجيج المشاعر، وقلب السياسة رأسا على عقب، وزيادة التوترات داخل المجتمعات الإسلامية واليهودية".
وأضاف: "لا تقتصر المعارك على المسائل المستعصية المتعلقة بالحرب والسلام والعدالة الأخلاقية. في بريطانيا، الأحزاب السياسية والجمهور ليسوا في الواقع منقسمين حول كيفية الرد على ما يحصل في غزة.. أغلبية قوية تدعم وقف إطلاق النار. وبدلا من ذلك، أصبحت الأزمة الإنسانية في غزة أيضا بمثابة هراوة يستخدمها المعارضون للتلويح بها ضد بعضهم البعض".
"واستغل حزب المحافظين الحاكم تصريحات معادية لإسرائيل أدلى بها مرشح برلماني لحزب العمال لاتهام حزب العمال بالفشل في القضاء على إرث معاداة السامية في صفوفه. وأشار حزب العمال إلى التعليقات المهينة التي أدلى بها أحد أعضاء البرلمان من حزب المحافظين بشأن عمدة لندن المسلم كدليل على تزايد كراهية الإسلام بين المحافظين" أضاف التقرير نفسه.
وأردف: "قد ناور كلا الحزبين بشراسة في البرلمان بشأن قرار وقف إطلاق النار، ليس لأنهما اختلفا كثيرا حول جوهر القرار، ولكن لأن المحافظين رأوا فرصة لتسليط الضوء على الخلافات داخل حزب العمال بشأن دعم بريطانيا الأولي لإسرائيل".
وقال أستاذ التاريخ السياسي الفخري بجامعة نوتنغهام، ستيفن فيلدنغ: "إنه مثال على كيفية تشويه قضية خطيرة حقا من خلال منظور السياسة الحزبية في بريطانيا".
وفي الولايات المتحدة، أدى الغضب بين بعض الديمقراطيين من الدعم القوي الذي يقدمه الرئيس بايدن، لدولة الاحتلال الإسرائيلي إلى تأجيج تصويت احتجاجي في الانتخابات التمهيدية في ميشيغان، هذا الأسبوع، ممّا أثار تساؤلات حول ما إذا كانت الحرب يمكن أن تغير نتيجة الانتخابات الرئاسية التي شهدت منافسة متقاربة.
وفي فرنسا، اضطر الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى التراجع عن موقفه المؤيد لدولة الاحتلال الإسرائيلي تحت ضغط من الجالية المسلمة الكبيرة في فرنسا. وفي ألمانيا، في ظل مسؤوليتها عن المحرقة، ظل دعم الاحتلال الإسرائيلي مبدأ راسخا، على الرغم من أن وزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، بدأت مؤخرا في التأكيد على أهمية "بقاء الفلسطينيين".
وقد أيقظ الصراع أشباحا في السياسة البريطانية أيضا: فعندما قال النائب المحافظ الفاقع، لي أندرسون، إن "الإسلاميين" "يسيطرون" على صادق خان، عمدة لندن، كان يتاجر بنوع من المشاعر المعادية للمسلمين التي اندلعت قبل عقدين من الزمن بعد أن تعرضت لندن لهجمات إرهابية من قبل متطرفين مسلمين.
عندما ادعى مرشح حزب العمال، أزهر علي، أن دولة الاحتلال الإسرائيلي "سمحت" بعملية حماس، أعاد ذكريات معاداة السامية التي لوثت حزب العمال في عهد زعيمه السابق، جيريمي كوربين. وقام الزعيم الحالي، كير ستارمر، بتطهير كوربين كجزء من حملة للقضاء على التحيز ضد اليهود. كما سحب دعم الحزب لترشيح علي.
وقال دانييل ليفي، وهو الذي يدير مشروع الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وهي مجموعة بحثية مقرها لندن ونيويورك: "بسبب عصر كوربين، أصبحت إسرائيل جزءا من حرب ثقافية في هذا البلد بطريقة لم تحدث قبل عقدين من الزمن".
واعترف ليفي بأن العديد من المشرعين كانوا يتصرفون انطلاقا من اقتناعهم بشأن غزة. لكنه قال إن الغضب الذي حدث في الأسبوعين الماضيين لم يكن يتعلق بارتفاع عدد القتلى أو أفضل طريقة للتعامل مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بقدر ما يتعلق بالتاريخ والسياسة المحيرة التي تغلف القضايا اليهودية والإسلامية في بريطانيا.
بالنسبة لحزب العمال، فإن اللحظة الحرجة التالية في هذه الدراما يمكن أن تأتي يوم الخميس، عندما يصوت الناخبون في روتشديل، شمال مانشستر، لعضو جديد في البرلمان ليحل محل نائب حزب العمال الذي توفي في كانون الثاني/ يناير. وعلى الرغم من تنصل الحزب من أزهر علي، إلا أنه لا يزال على بطاقة الاقتراع ولا يزال بإمكانه الفوز بالمقعد.
لكن تعليق علي الفوضوي في المرحلة الأخيرة فتح الباب أمام مرشح متمرد، وهو جورج غالواي، الذي كان في السابق نائبا عن حزب العمال ويترشح الآن كزعيم لحزب العمال اليساري المتطرف في بريطانيا (Workers Party of Britain). وهو يناشد العدد الكبير من السكان المسلمين في روتشديل برسالة مؤيدة للفلسطينيين، مجادلا بأن العديد من البريطانيين "مشمئزون" من دعم حزب العمال لإسرائيل.
وقال ليفي: "إذا كان أداء جورج غالواي جيدا بما فيه الكفاية، فإن ذلك سوف يشجع عددا كبيرا ممن هم على هامش حزب العمال على الترشح لهذه القضية".
وقد يسبب ذلك المزيد من الصداع لستارمر بينما يستعد لإجراء انتخابات عامة ضد المحافظين في وقت لاحق من هذا العام. لكن مع تقدم حزب العمال بـ20 نقطة مئوية أو أكثر على حزب المحافظين في استطلاعات الرأي، قال محللون إنه من غير المرجح أن يؤثر الصراع في غزة على نتيجة الانتخابات.
وفي الأسابيع الأخيرة، قامت حكومة رئيس الوزراء، ريشي سوناك، أيضا بتغيير موقفها بشأن الصراع بما يكفي لطمس الخلافات مع المعارضة. وفي رحلة إلى جزر فوكلاند الأسبوع الماضي، دعا وزير خارجيته ديفيد كاميرون إلى وقف إطلاق النار، قائلا إن القتال يجب أن يتوقف "فورا".
وقال ساندر كاتوالا، مدير معهد المستقبل البريطاني، وهو معهد أبحاث يركز على الهجرة والعرق والهوية: "ديفيد كاميرون وكير ستارمر لهما نفس الموقف بشأن إسرائيل وغزة، وكلاهما لهما نفس موقف ثلثي الجمهور".
ومع ذلك، إذا فاز ستارمر في الانتخابات العامة، فقد تشكل دولة الاحتلال الإسرائيلي مشكلة باقية بالنسبة له في الحكومة. وفي عام 2006، أيد توني بلير، آخر رئيس وزراء منتخب من حزب العمال في بريطانيا، بقوة غزو رئيس الوزراء إيهود أولمرت للبنان. لقد سارت الحرب بشكل سيئ وتعرض بلير للأضرار الجانبية.
وقال جوناثان باول، الذي كان كبير موظفي بلير: "يمكن القول إن هذه كانت مشكلة سياسية أكبر لتوني حتى من حرب العراق".
بالنسبة للمحافظين، يمثل الصراع في غزة مجموعة مختلفة من التحديات. فمثله كمثل الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، اتخذ موقفا قويا لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وهو الموقف الذي لا يولد معارضة داخلية تذكر. لكن المحافظين يتعاملون الآن مع تداعيات التصريحات المناهضة للمسلمين التي أدلت بها شخصيات يمينية مثل أندرسون وسويلا برافرمان، وزيرة الداخلية السابقة.
وبعد المناقشة التي دارت في البرلمان حول وقف إطلاق النار، والتي تحولت إلى فوضى قبيحة بسبب الخلاف حول كيفية تعامل رئيس البرلمان، ليندساي هويل، مع الأمر، كتبت برافرمان في صحيفة "ديلي تلغراف" أن "الإسلاميين والمتطرفين ومعاداة السامية هم المسؤولون الآن". وقالت إن الشرطة أطلقت العنان للمتظاهرين. وفي مثل هذه الأجواء المحمومة، تتزايد المخاوف بشأن التهديدات بالعنف ضد أعضاء البرلمان.
وقد رفض أندرسون الاعتذار عن قوله إن خان "أعطى عاصمتنا لرفاقه". وقال لقناة جي بي نيوز اليمينية إن الإسلاميين "سيطروا على خان وسيطروا على لندن".
ووصف خان التعليقات بأنها "عنصرية ومعادية للإسلام ومعادية للمسلمين"، وقام سوناك، تحت ضغط من المحافظين المسلمين البارزين، بتعليق عضوية أندرسون في الحزب. لكن الآن يواجه سوناك انتقادات من الجناح اليميني للحزب لمعاقبته شخصية تحظى بشعبية لدى بعض الناخبين في مناطق "الجدار الأحمر[المؤيدة للعمال]" في إنجلترا، الذين كانوا حاسمين في فوز حزب المحافظين في الانتخابات العامة لعام 2019.
ونظرا لوضع حزب المحافظين المحزن في استطلاعات الرأي، قال بعض المحللين إن هناك قدرا كبيرا من المواقف في الغضب بشأن غزة، وهو جزء من مسابقة أوسع لقيادة الحزب أو الظهور بعد هزيمة متوقعة في الانتخابات.
وقال بن أنسيل، أستاذ المؤسسات الديمقراطية المقارنة في جامعة أكسفورد: "هناك الكثير من أعضاء البرلمان المحافظين الذين سوف يفقدون مقاعدهم، لذا فهم يبحثون عن فرص إعلامية". لكن المناشدة بالمشاعر المعادية للمسلمين تعكس أيضا شيئا آخر: محاولة الرمق الأخير من قِبَل المحافظين لعرقلة زخم حزب العمال.
وقال كاتوالا: "إذا نظرت إلى ما يستخدمه المحافظون ضد حزب العمال، فهو أنه لا يمكنك الوثوق بهم لأنه سيتم التحكم بهم من قبل الآخرين. وفي الوقت الحالي، يتحولون من 'يساريي الصحوة' إلى 'الإسلاميين'"
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية سياسة دولية غزة الفلسطينيين العراق العراق لبنان فلسطين غزة المزيد في سياسة سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال الإسرائیلی الولایات المتحدة وقف إطلاق النار حزب المحافظین فی الانتخابات فی بریطانیا حزب العمال فی غزة
إقرأ أيضاً:
ما بعد الأحزاب.. مستقبل السياسة في السودان
لهفي على السودان من دخلائه
لهفي على السودان من أحزابه
ليست الحرب وتداعياتها فقط ما يجب أن يخشاه السودانيون على مستقبلهم، فما الحرب إلا نتيجة لداء أعظم وأفدح، وما تداعياتها إلا عنوان فرعي لمحتوى مأساوي ومخيف. ما يجب أن يخيف السودانيين هو تفكك عُرى المؤسسات المعنية بالمحافظة على تماسك الوحدة الوطنية من ناحية، وعلى التخطيط المحكم للمستقبل من ناحية أخرى.
فقد تهاوت المنظومات السياسية والمؤسسات الاجتماعية التي بدأت في التشكل منذ فترة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري (1898-1956)، تحت متوالية الفشل المستمر لكل أنظمة الحكم الوطني التي تعاقبت على السودان منذ فجر استقلاله الباكر، وإلى تاريخ الحرب الحالية التي تحكي مآسيها قمة فشل النخبة السياسية السودانية بجميع تياراتها المتصارعة (على اللاشيء).
وبالنظر المتعمق للراهن الوطني اليوم، تبرز الحقيقة المؤلمة أن السياسة في هذا البلد المنكوب قد وصلت إلى مرحلة الإفلاس الفكري التام، وتحطمت كل التجارب الفكرية يسارية ويمينية، قومية وإسلامية، طائفية وعسكرية دون أن تحقق المطلوب الوطني المتلخص في بناء نهضة شاملة تصون كرامة المواطن السوداني وتحقق طموحاته وأحلامه.
وما من خطر يهدد مستقبل الشعوب وراهنها إلا الوصول إلى مرحلة فقدان البوصلة نحو الأمام، وفراغ كنانتها من أي فكرة صالحة للتطبيق. وهل يجادل مجادل اليوم، وعلى وقع ما نعيشه، أننا استنفدنا طاقة التجريب لكل الأفكار ووصلنا إلى هذه النتيجة؟ نتيجة الانهيار الفكري الشامل والذي علامته غياب المشروع الفكري للدولة، وازدراء العقل وكل ما ينتج عنه من مواقف، وسيادة ثقافة التفاهة وتعظيم رموزها، وتناسل الكيانات الهلامية، والاستكانة للواقع المرير أو ما يمكن تسميته بالعجز المطلق.
إعلانولم يكن أمر الوصول لنقطة الفشل هذه غائبًا عن كل وطني مخلص، أو مثقف مستبصر، أو مواطن سليم الفطرة والنظر. ذلك أن جرثومة الفشل وُلدت باكرًا مع ميلاد الحركة الوطنية السودانية.
يقول غسان علي عثمان في كتابه عنف النخبة: "يصح لنا القول في هذه النقطة إن النخبة الأولى وعلى رأسها إسماعيل الأزهري هي من وضعت اللبنة الخبيثة في جسد الدولة السودانية عبر انتخاب أضعف الأهداف والتركيز على الهروب من الأسئلة المركزية".
ومع تمام الاتفاق مع غسان، نضيف أن هذه اللبنة الخبيثة سبقت تكوين مؤتمر الخريجين، إذ بذرت بذرتها مع ميلاد مجتمع المثقفين بعيد تأسيس كلية غوردون التذكارية التي بدأت في رفد الواقع السوداني بشريحة جديدة هي طبقة الأفندية، أو البروليتاريا الفكرية بحسب سبنسر تريمنغهام، الذي يصفهم بأنهم: "الذين تلقوا التعليم العصري ويرتدون الملابس الغربية، ويعانون التمزق الثقافي والحياة الدينية. كلهم تلقوا تعليمهم في السودان، إن أسلوب ومحتوى التدريب فيما عدا الدين هو الأسلوب والتدريب الغربي، وتأثيره تأثير ممزق، فضلًا عن كونه تأثيرًا موحدًا. لقد عرض عقولهم لدمار هائل وترك أرواحهم جائعة. لقد تعلموا كيفية أداء العمل الكتابي والفني ولكن ليس كيف يعيشون".
إذن، لقد كان لضعف التكوين الروحي والفكري للطبقة الجديدة دور كبير في طريقة تعاطيهم مع المعضلات الوطنية لاحقًا، وهو الذي انتهى بهم إلى الارتماء في أحضان الطائفية التي حاربوها ابتداءً، أو إلى التصالح مع فكرة الانقلابات العسكرية ورعايتها أو المشاركة فيها. وذلك بعد أن انهزمت دعوتهم لبناء كينونة مستقلة تجترح مسارًا وطنيًا بعيدًا عن الطائفية السياسية ورموزها التقليدية، من بعد ما "اكتشف المثقف السوداني أنه يعيش مرحلة تشكل وطني غير ناضج"، بحسب أبو القاسم حاج حمد، أو ضعيف الحيلة كما يعرفه غسان علي عثمان: "كثير الخطابة، عظيم الطلب، قليل الحيلة".
إعلانومن رحم ذلك الفقر في الرؤية، وانعدام الاستشراف المستنير للمستقبل، وُلدت الأحزاب السياسية بمخاض استبق تاريخ الاستقلال بسنوات قلائل. ومع بدايات فترات الحكم الوطني، استبان أن النخبة الوطنية التي وُلدت من رحم المؤسسات الاستعمارية لا تمتلك الحس التاريخي الكافي للتعامل مع وطن بحجم السودان، متعدد الأعراق والثقافات، متباين الديانات والأفكار.
بدأ الفشل حين عجزت هذه النخبة عن بناء مؤسسات وطنية مستقلة ومحايدة تكون ترياقًا للفساد والتسييس المُضر. عوضًا عن ذلك، تمسكت النخبة بما ورثته دون أي تطوير يضفي عليه روح الاستقلال الوطني، أو كما يقول وائل حلاق وهو يصف حال النخبة في البلاد العربية: "حافظت على هياكل القوة التي ورثتها من التجربة الاستعمارية التي حاربتها أثناء الحقبة الاستعمارية بعدما نالت بلادها ما يُطلق عليه اسم الاستقلال".
تجربة الحكم الوطنيتراوحت تجربة الحكم الوطني بين ثلاث حكومات ديمقراطية وثلاث حكومات عسكرية. كانت تجارب الحكم الديمقراطي من نصيب الأحزاب التقليدية: (حزب الأمة وطائفة الأنصار، والحزب الديمقراطي وطائفة الختمية).
كان العامل المشترك لحكم الأحزاب هو الانغماس في الخلافات الصغيرة، واتباع التكتيكات والمناورات (والانقسام على أسس شخصية وأيديولوجية)، كما لخّص روبرت كولينز صراعات الحزب الشيوعي. انسحب هذا الأمر على عدم قدرة هذه الأحزاب على المحافظة على الديمقراطية أولًا، وعلى عدم تقديم أي مشروع إستراتيجي للتنمية ثانيًا.
تحت هذا الفشل المتواصل من ناحية، وفي ظل التضييق الذي تعرضت له جراء الانقلابات العسكرية من ناحية أخرى، تحولت الأحزاب الطائفية إلى ما يشبه (الملكية الأسرية)، حيث ضاقت قياداتها التاريخية بالآراء الحرة وبالدعوات من أجل التجديد والانفتاح.
ومن المعلوم أن كبت الحريات داخل الأحزاب لا بد أن يؤدي إلى الانفجار والانقسام، وهو ما حدث بالفعل. حيث انتهى حزب الأمة إلى أكثر من خمسة أحزاب تحمل نفس الاسم وتتكئ على ذات الشريحة الاجتماعية التي ناصرت الحزب أول أمره بعد الاستقلال.
إعلانأما صنوه، الحزب الاتحادي الديمقراطي، فلا يقل انقسامًا وتشظيًا عن خصمه التاريخي. هذا الواقع المتشظي انتهى بهذه الأحزاب إلى ما يشبه الشلل التام، والعجز عن إطلاق أي مبادرة ذات قيمة وطنية.
أما الحزب الشيوعي السوداني، الذي كان ذات يوم أقوى الأحزاب الشيوعية في أفريقيا، فيبدو أنه قد استقال من الأدوار الوطنية البناءة متأثرًا بتداعيات انقلاب هاشم العطا بداية السبعينيات (والمقتلة التي قام بها النميري ضد قياداته). حيث أصبحت مواقفه دائمًا مبنية على الرفض المطلق لكل الحلول، بينما يقوم بالتعاون مع الحركات المسلحة ذات الصبغة اليسارية مكتفيًا في ذلك بدور المؤازرة والاحتجاج.
أما عن إنتاجه الفكري، فإنه في ظل تمسكه العنيد بسلفيته اليسارية العتيدة غادرته جموع مثقفيه الحائرين بين الليبرالية الجديدة والحنين إلى الاشتراكية المستحيلة. أما الحزب، فقد استبدل الأفكار بالأشعار، وأراح نفسه من الديالكتيك غير المنتج بأطروحة التغيير الجذري الغامضة والمبهمة.
لم يتبقَ من قوة مؤثرة في المشهد إلا (الإسلاميون)، الذين يتفوقون على كل هذه القوى السياسية بالحضور الجماهيري في القطاعين التقليدي والحديث. على أن رؤيتهم الكلية ومشروعهم الفكري لمستقبل البلاد بحاجة لمراجعات عميقة وإصلاحات جذرية، خاصة بعد خروجهم من تجربة الحكم الممتدة ثلاثين عامًا، وتعرض المشروعية الأخلاقية لأطروحة الحكم الإسلامي المستندة إلى فكر الصحوة الإسلامية لتحديات كبيرة، من حيث تصالحها مع المتغيرات الفكرية العالمية، وقدرتها على مخاطبة المخاوف المحلية والدولية، والتعايش مع واقع تتباين حقائقه مع جوهر النظرية التي تقوم عليها دعائم فكر الحركة الإسلامية الحديثة.
أما الشواغل الخاصة بالإسلاميين، فتتمثل في قدرتهم على تجاوز ما أفرزته تجربة سقوط الحكم على وحدتهم والمحافظة على فاعلية التيار الإسلامي، توظيفًا لقدراته البشرية فيما ينفع الوطن ويتجنب تجارب الأحزاب السودانية النزّاعة للانقسام (على أسس شخصية وذاتية).
إعلانوعلى الرغم من وجودهم المؤثر في مشهد معركة الكرامة، فإن (حجم التشويه الذي تعرض له التيار الإسلامي وعظم الضغوط الإقليمية) قيّدت طلاقته الوطنية الجهيرة وكبّلت قدرته على إطلاق مبادرات وطنية توازي حجم تأثيره المجتمعي.
يزيد هذا المشهد الحزبي المتداعي خطورة ظهور عامل جديد في السياسة السودانية، وهو (عسكرة العمل السياسي)، حيث صعدت إلى الواجهة حركات مسلحة تمارس السياسة، لا هي أحزاب بالمفهوم التقليدي للحزب ولا هي جيش نظامي يحتكر العنف لصالح الدولة كما ينادي ماكس فيبر. وبالتأكيد، لا يُنتظر منها رؤية لمشروع وطني للنهضة والازدهار.
يبقى أن نقول إن الأحزاب السياسية استنفدت طاقتها خلال المسيرة الطويلة، والمشهد بحاجة ماسّة لتأسيس جديد تقوم دعائمه على توافق وطني واسع وعريض يتفق على أن المسيرة السابقة قد أوصلتنا إلى (حافة الإفلاس). نحن بحاجة إلى تواضع جماعي نقر فيه بأخطائنا المشتركة، وإلى تصالح مع الذات يمنحنا القدرة على مراجعة مسلماتنا الفكرية التي ظننا أنها فوق النقد والمراجعة.
إن التطور الفكري في المجال السياسي أثبت أن الأيديولوجيات الصماء المنغلقة على نفسها قد تهاوت وتجاوزها الزمن، وأنه لا مناص من إعادة بناء المشهد السياسي على أسس علمية راسخة، وتشييد مؤسسات وطنية قوية مستقلة ومحايدة تتولى أمر التخطيط لمستقبل الدولة وصيانة وحدتها وقوتها.
أما الأحزاب السياسية، فإنها بحاجة إلى دراسة الظاهرة الشعبوية التي اجتاحت العالم وتجاوزت الدور القديم للأحزاب. وإن لم تفعل عاجلًا، فإنها لن تحافظ على الماضي ولن تبلغ المستقبل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية