من البوعزيزي لبوشنيل.. واشنطن بوست: إحراق الذات هناك عمل بطولي وهنا جنون؟
تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT
قال كاتب أميركي إن الولايات المتحدة بلد منقسم على نفسه، ليس بسبب الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة فقط؛ ولكن بسبب نظرتها المتناقضة -كذلك- لحادثتي إحراق الذات وقعت إحداهما قبل أيام قليلة أمام سفارة تل أبيب في واشنطن، والأخرى في تونس العاصمة في 2010.
وأوضح عضو هيئة التحرير بصحيفة واشنطن بوست وكاتب العمود فيها، شادي حامد، أن بعض ردود الفعل على إحراق الجندي في القوات الجوية الأميركية آرون بوشنيل نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن مؤخرا وهو يصرخ "فلسطين حرة"، لم تقتصر على الرفض بل انطوت -أيضا- على سخطها لما أقدم عليه.
وعلّق الكاتب على ردود الفعل تلك بالقول إن مسارعة بعض الناس إلى تفسير تصرف بوشنيل بأنه ناجم عن علّة نفسية يوحي بازدواجية معايير.
واستدل على ذلك بوصف مايكل ستار في مقاله بصحيفة جيروزاليم بوست حادثة الانتحار احتجاجا على حرب غزة، بأنها "حالة من الهستيريا"، بينما وصم الصحفي مارك جوزيف ستيرن من يُقْدمون على هذا الفعل بأنهم "يعانون من اختلال عقلي".
البوعزيزي
وعندما تعلّق الأمر بانتحار البائع التونسي المتجول محمد البوعزيزي بإحراق نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 احتجاجا على مصادرة الشرطة عربته اليسيرة، وهي الحادثة التي أشعلت ثورات الربيع العربي– لم يشكك أحد حول ما إذا كان يعاني من مرض عقلي، بل إن الرئيس باراك أوباما أشاد به حينها معدّا إياه "بطلا"، وفق مقال واشنطن بوست.
ونادرا ما وصفت وسائل الإعلام الغربية وفاة البوعزيزي بأنه انتحار، وإزاء هذا الكيل بمكيالين، يتساءل الكاتب شادي كيف يمكن لحادثة انتحار أن تكون عملا بطوليا، بينما الأخرى تُعدّ تصرفا جنونيا؟"، و"ما الذي يجعل حادثة انتحار عملا نبيلا، والأخرى فعلا ناجما عن اعتلال نفسي؟".
ويقارن المقال بين انتحار بوشنيل والبوعزيزي، مشيرا إلى أن الجندي الأميركي فكّر مليا على ما يبدو ونبّه وسائل الإعلام إليها قبيل تنفيذ فعلته بساعات، بخلاف البائع التونسي المتجول الذي كان تصرفه ردا على مصادرة السلطات بضائعه وإساءة الشرطة معاملته.
وأشار أحد المنتقدين إلى أنه في حين كان البوعزيزي يحتج على حكومته، كان بوشنيل منشغلا بــ"صراع عرقي وديني بعيد". ويعتقد الكاتب في مقاله أن الجندي الأميركي ليس له "وشائج قربى" بالمنطقة، "فلماذا ينتابه شعور عارم تجاه مشكلات الآخرين؟".
انقسام
ويقودنا هذا –حسب الكاتب- إلى وجود انقسام جوهري يتعلق بالكيفية التي يفسر بها الأميركيون الحرب على غزة. ووفقا للمقال، فهذه الحرب ليست مجرد صراع خارجي فتك بأرواح عشرات الآلاف، وهي ليست بعيدة، كما يعتقد بعض المحللين.
ويتابع شادي القول إن الولايات المتحدة هي الراعي العسكري الرئيس لإسرائيل، إذ تزودها بأسلحة "الطوارئ" والإمدادات التي تحتاجها للاستمرار في حربها. والأكثر من ذلك –على حد تعبير شادي- أن القوات الجوية الأميركية التي كان بوشنيل أحد جنودها، تزود إسرائيل بمعلومات استخباراتية تعينها على استهداف موقع في غزة بالقصف الجوي المكثف.
ويؤكد كاتب العمود أن الولايات المتحدة متورطة بصورة مباشرة على نحو لا يحدث في أي صراعات أخرى.
ولم ينظر بوشنيل إلى الحرب في غزة على أنها صراع بعيد عنه، بل قال "لن أتورط بعد الآن في الإبادة الجماعية"، محذّرا في الوقت نفسه من أنه على وشك القيام بعمل "احتجاجي متطرف"، لكنه استدرك أنه بمقارنة ما ظل يشهده الناس في فلسطين "على أيدي من يحتل أرضهم، فإن (الاحتجاج) ليس تطرفا على الإطلاق كما دأبت نخبتنا الحاكمة على إقراره بأنه وضع طبيعي".
وطبقا لمقال واشنطن بوست، لعل من غير المنطقي أو حتى من الخبل التفكير بالقيام بمثل ما قام به بوشنيل، لكن من غير المعقول ألا يشعر بوشنيل –وملايين آخرون من الأميركيين- بإحساس متزايد بالعجز إزاء ما تقوم به حكومتهم من تسهيل عمليات القتل الجماعي لشعب أعزل إلى حد كبير.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: واشنطن بوست
إقرأ أيضاً:
كيف يقوّض شات جي بي تي الحافز على الكتابة والتفكير من خلال الذات؟
عندما أطلقت شركة «أوبن إيه آي» (OpenAI) برنامجها الجديد للذكاء الاصطناعي «شات جي بي تي» (ChatGPT) في أواخر عام 2022، أثار قلق المتخصصين في مجال التعليم، لقد تمكّن البرنامج من توليد نصوصٍ تبدو وكأنها كُتبت من طرف إنسان، فكيف للمدرّسين أن يكتشفوا ما إذا كان الطلبة قد استخدموا برنامج الدردشة الآلي القائم على الذكاء الاصطناعي للغش في كتابة النصوص التي تُطلب منهم؟
وباعتباري عالمة متخصصة في اللسانيات تدرس التأثيرات التي تُمارسها التكنولوجيا على الطريقة التي يقرأ بها الناس ويكتبون ويفكرون، أعتقد أن هناك مخاوف أخرى لا تقل إلحاحا عن مخاطر الغش، ويتمثل الأمر خصوصا فيما إذا كان الذكاء الاصطناعي، بشكل عام، يهدّد مهارات الكتابة لدى الطلبة، والقيمة التي تكتسيها عملية الكتابة وأهميتها كوسيلة للتعبير عن الأفكار.
وفي إطار الأبحاث التي أجريتها لتأليف كتابي الجديد حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الكتابة البشرية، أجريت مقابلات مع العديد من الشباب في كلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا حول عدة قضايا، وقد شاركوني مجموعة من الهواجس، وكيف أن أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تقوّض قدرتهم على الكتابة، غير أن هذه المخاوف في الحقيقة قد بدأت تطفو على السطح منذ مدة.
الآثار السلبية للتوليد الآلي للنصوص
لا تمثل الأدوات مثل «شات جي بي تي» سوى الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من برامج الذكاء الاصطناعي المصممة لتحرير النصوص وتوليدها، ولقد بدأت ملامح الخطر الأول لتقويض الذكاء الاصطناعي لمهارات الكتابة والحافز على التأليف من خلال الاعتماد على الذات تتشكل في الحقيقة منذ عقودٍ من الزمن.
وتُعد المدقّقات الإملائية والبرامج المتطورة التي تراجع القواعد النحوية والأسلوب، مثل «جرامرلي» (Grammarly) و«مايكروسوفت إديتور» (Microsoft Editor)، من بين أكثر أدوات التحرير شهرة، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، فضلًا عن التدقيق الإملائي للنصوص ومراجعة علامات الترقيم، فإنها تتعرّف على الأخطاء النحوية وتقترح على المستخدم صياغات بديلة.
وتشمل التطورات الحاصلة في مجال توليد النصوص باستخدام الذكاء الاصطناعي الاقتراحات الآلية في عمليات البحث عبر الإنترنت والنص التنبؤي (Predictive Text)، على سبيل المثال، اكتب عبارة «هل روما» في بحث على موقع «جوجل» وستحصل على قائمة بالاختيارات مثل «هل روما بُنيت في يوم واحد؟»، أو اكتب كلمة «إذا» في رسالة نصية وسيقترح عليك البرنامج «إذا سمحت» أو «إذا كان من الممكن»، وتتدخل هذه الأدوات في أعمالنا الكتابية دون دعوة منا، وتطلب منا باستمرار أن نتّبع اقتراحاتها.
ولقد أعرب الشباب في الاستطلاعات التي أجريتها عن تقديرهم للمساعدة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي فيما يخص طريقة كتابة الكلمات وإتمام العبارات، لكنهم تحدثوا أيضا عن الآثار السلبية التي ينطوي عليها ذلك، وقال أحد المشاركين في الاستطلاع: «إذا اعتمدنا كثيرا على هذه البرامج فإننا نخاطر بأن نفقد مهاراتنا الإملائية»، ونبّه آخر إلى أن «برامج التدقيق الإملائي والذكاء الاصطناعي يمكن أن تشجع الناس على اختيار الطريق الأسهل»، وأشار أحد المستجوبين في الاستطلاع إلى الكسل كسبب لاستخدام ميزة النص التنبؤي: «إنها ميزة عملية جدًا حينما لا أجد رغبة في بذل الجهد».
الأسلوب الشخصي في خطر
يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تؤثر أيضًا على أسلوب الكتابة لدى الشخص، وقال أحد المشاركين في الاستطلاع: «لا أشعر بأني أنا المؤلف»، حينما يكتب معتمدًا على خاصية النص التنبؤي، وعبّر طالب في مدرسة ثانوية بريطانية عن القلق نفسه عندما وصف تطبيق «جرامرلي» (Grammarly) قائلا: «بدلا من أن يعتمد الطلبة على أسلوبهم الخاص في الكتابة، يمكن للتطبيق أن يجرّدهم من أسلوبهم من خلال اقتراح تعديلات مهمة على ما كتبوه هم بأنفسهم».
وفي الاتجاه نفسه، أعرب الفيلسوف إيفان سيلينجر (Evan Selinger) عن قلقه من أن النص التنبؤي قد يُضعف من قوة الكتابة باعتبارها نشاطًا ذهنيّا وتعبيرًا شخصيّا:
«بوسع تقنية النص التنبؤي، من خلال تشجيعنا على عدم التفكير مليًّا في الكلمات التي نستخدمها، أن تغيّر الطريقة التي نتفاعل بها مع بعضنا البعض، نحن نمنح الآخرين مزيدًا من الخوارزميات والقليل من أنفسنا... إن الأتمتة قد تُعيقنا عن التفكير».
لطالما رأت المجتمعات المتعلمة في الكتابة وسيلة لمساعدة الناس على التفكير، ولقد استشهد كثيرون بتعليق المؤلف فلانري أوكونور (Flannery O’Connor): «أكتب لأنني أجهل ما أفكر فيه إلى أن أقرأ ما أقول»، كما عبّر العديد من الكتّاب البارزين الآخرين، من ويليام فولكنر (William Faulkner) إلى جون ديديون (Joan Didion)، عن هذا الشعور، إذا قامت برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي بالكتابة نيابة عنا، فإننا نحدّ بذلك من قدرتنا على التفكير بأنفسنا.
إن إحدى النتائج الغريبة المترتبة على استخدام برامج مثل «شات جي بي تي» هي أن النصوص تكون مثالية من الناحيتين الإملائية والنحوية، غير أن خلو النص من الأخطاء قد يكون علامة على أن الذكاء الاصطناعي وليس الإنسان هو من كتب كلماته، لأن الكتاب والمحررين البارعين أنفسهم يرتكبون الأخطاء، والكتابة البشرية هي عملية مستمرة، ونحن نسائل ما كتبناه في البداية، فنعيد صياغته، أو نشرع في الكتابة من الصفر في بعض الأحيان.
التحديات في المدارس
عند تكليف طلبة المدارس بإنجاز مهام كتابية، فمن الأفضل أن يكون هناك حوار مستمر بين المدرّس والطالب من أجل مناقشة ما يرغب هذا الأخير في الكتابة عنه والتعليق على مسوّداته الأولى، ثم تُتاح له الفرصة بعد ذلك من أجل أن يعيد التفكير بشأن ما كتبه ويقوم بمراجعة نصّه، لكن ذلك لا يتم في كثير من الأحيان إذ لم يعد لدى معظم المدرّسين ما يكفي من الوقت للقيام بهذا الدور التربوي المتمثل في مواكبة الأعمال التحريرية للطلبة.ويقوم الطلبة الواعون بأهمية هذه الخطوات أحيانًا باتباعها من تلقاء أنفسهم، على غرار المؤلفين المحترفين أنفسهم، لكن إغراء الاعتماد على أدوات التحرير وتوليد النصوص مثل «جرامرلي» و«شات جي بي تي» يظل قويًا للغاية لأنه من السهل أن تحلّ ثمار التكنولوجيا الجاهزة مكان فرص التفكير والتعلم.
كما يقوم الخبراء في مجال التعليم على التفكير في الكيفية المثالية للاستفادة من تقنية الكتابة المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، ويلفت البعض منهم النظر إلى إمكانات الذكاء الاصطناعي فيما يخص التحفيز على التفكير أو التعاون، وقبل ظهور شات جي بي تي، كانت هناك نسخة سابقة من البرنامج نفسه (GPT-3) مُتاحة للمستخدمين من قبل مشروعات تجارية مثل «سودورايت» (Sudowrite)، ويمكن للمستخدمين أن يكتبوا عبارة أو جملة ثم يطلبوا من البرنامج إضافة كلمات أخرى، مما يمكن أن يحفّز إبداع المؤلف البشري.
إلى من ترجع ملكية النص؟
غير أن بين التعاون والتجريد من الملكية، ثمّة منحدرٌ زَلق، وتعترف الكاتبة جنيفر ليب (Jennifer Lepp) أنها مع اعتمادها على «سودورايت» بشكل متزايد، لم تعد تشعر بأنها مالكة النصوص الناتجة عن تعاونها مع البرنامج، «لقد كان من غير المريح لي للغاية حينما أراجع ما كتبته ألا أشعر بارتباط حقيقي مع الكلمات أو الأفكار». وبالمقارنة مع محترفي الكتابة المتمرّسين، فإن الطلبة أقل مقدرة على رسم الحدود الفاصلة بين الحصول على دعمٍ بسيط في الكتابة وتفويض محتوى وأسلوب مقالاتهم إلى برنامج توليد النصوص القائمة على الذكاء الاصطناعي.
ومن المرجّح، مع تزايد قوة التكنولوجيا وشيوع استعمالها، أن تعمل المدارس على توعية الطلبة بإيجابيات وسلبيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، غير أن إغراء الفعالية قد يجعل من الصعب مقاومة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك يتعلق بتشذيب الكتابة فقط أو تفويضها بالكامل، ولقد فُتحت هذه الطريق بالفعل مع ظهور برامج التدقيق الإملائي والنحوي والإتمام الذاتي للعبارات.
الكتابة بوصفها عملية بشرية متواصلة
لقد سألت «شات جي بي تي» عمّا إذا كان يمثّل تهديدًا للحافز على الكتابة عند البشر، وإليكم رده«سيكون ثمّة على الدوام طلبٌ على المحتوى الإبداعي والأصيل، وذلك يتطلّب منظورًا فريدًا وبصيرةً لكاتبٍ بشري، وتلبّي الكتابة العديد من الاحتياجات عند الإنسان التي تتجاوز مجرد إنشاء المحتوى، مثل التعبير الشخصي والتواصل وتنمية الذّات، ومن شأن ذلك أن يستمر في تحفيز الناس على الكتابة رغم أن بعض أشكال الكتابة قد تُفوّض إلى الآلة».
لقد أسعدني كثيرًا أن البرنامج بدا وكأنه يدرك حدوده، وآمل أن يكون المدرّسون والطلبة أيضًا على حدّ سواء واعين بهذا الأمر، وينبغي أن يكون الهدف من كتابة الواجبات التي يكلّف بها الطلبة أكثر من مجرد تقديم عمل يحصل بفضله الطالب على درجات، ويجب أن تكون الكتابة عبارة عن رحلة، وليست مجرد وجهة.
نومي بارون أستاذة اللسانيات بالجامعة الأمريكية
عن موقع The Conversation