حرب السودان : جدلية الانتصار، والهزيمة
تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT
لئن كان متمردو قوى الحرية والتغيير بشقيها المدني، والعسكري يسوِّقون للسؤال عمن أطلق الرصاصة الأولى في الحرب، ويريدون أن يبنوا مشروعا سياسيا على أرضية هذا السؤال؛ مشروعا يستدعي تحقيقا دوليا، لئن كانوا يريدون ذلك، فإن الشعب السوداني يسأل، وبإلحاح: لماذا تأخر الجيش عن إطلاق الرصاصة الأولى، وهو المسؤول عن حماية الدستور، وقد كان يرى الأصابع الأجنبية تحرك في دُمى المتمردين بشقيهم؛ للإجهاز على السودان الدولة، وليس الحكومة، ولئن كانت هناك مطالب بالتحقيق، فلن تكون في غير التأخر في التصدي للأعداء من الأجانب وعملائهم ممن عاثوا الفساد في كل مناحي الحياة.
عند بداية المعركة لم يكن هناك من يشك أنها بدأت بأفضلية للمتمردين عَددا، وعُددا، بالإضافة لأفضلية السبق للارتكاز في الأماكن الحيوية؛ حيث كان التخطيط لهذه الحرب قد بدأ من وقت مبكر، فكان أن بنى المتمردون أحلافا إقليمية، ودولية تضمن لهم استمرار الإمداد، وسد الحاجة للإخلاء عند الضرورة، بالإضافة لفرق الإسناد السياسي، والدبلوماسي.
أدرك الجيش من أول وهلة أن الهدف المتفق عليه بين أطياف الحلفاء في الداخل، والخارج هو تفكيك الجيش، وبعد ذلك لكل منهم وجهته؛ فالكل يسعى لهندسة واقع سوداني يحقق أهدافه من وجهة نظره..
لم يفت على قادة الجيش أن تفكيك الجيش محصلته النهائية هي زوال الدولة، وتفرق جغرافتيها بين المتربصين، وتشتت شعبها بين الملاجئ، فكان لا بد من وضع خطة لإدارة المعركة بعقل بارد، وخطوات واعية، وقد كانت هذه الخطة ذات ثلاثة أضلاع كما يأتي:
أولا: تعزيز الالتفاف الشعبي العارم مع الجيش، وضد المليشيا:
لقد كانت هذه المهمة صعبة، وسهلة في آن واحد؛ فهي صعبة، لأن حلفاء المليشيا المدنيين كانوا قد صوروا الحرب، وكأنها صراع بين جناحين في الجيش طمعا في كراسي السلطة، وذلك حتى يقف الشعب موقفا محايدا في الحرب؛ فيخسر الجيش أهم مصادر قوته، وهي حاضنته الشعبية، وحتى تنجح تلك المساعي، أطلقوا حملة لا للحرب، التي كانت تمثل تغليفا جميلا لهذه الخطة القاتلة، وقرنوا كل ذلك مع غطاء إقليمي، ودولي، تَمَثل في الدعم المباشر في عمليتي الإمداد، والإخلاء، وكذلك الإسناد الإعلامي، المصاحَب بصمت مطبق عن كل الانتهاكات التي ترتكبها المليشيا، أو قرْن الجيش معها إن لم يكن هناك بد من الحديث عنها.
كما أن هذه المهمة كانت سهلة؛ لأن المليشيا كانت قد شنت الحرب على الشعب أكثر مما تفعل مع الجيش، فقد بلغت المدى في انتهاك حرمة الدماء، والأعراض والأموال، مع حرص غبي على توثيق كل ذلك باعتباره انتصارات لها، فكان على الجيش فقط التركيز على إعلان ذلك في بياناته الرسمية، فلا تكاد تجد في بيان للجيش شيئا غيرها؛ مما عمق البغض لهذه المليشيا، وأحكم الالتفاف حول الجيش، حتى انه لا يطفو إلى سطح الأحداث حديث عن تفاوض، إلا وتعلو الأصوات الرافضة من كل أطياف الشعب، مع التربص الشعبي بحلفاء المليشيا في مَهَارِبِهم للإيقاع بهم، وعلى نقيض ذلك، لا يظهر قائد من قادة الجيش، أو أي فرد من أفراده، إلا ويعلو الهتاف المؤيد، وزغاريد النساء، وهكذا أنجز الجيش مهمته الأولى بنجاح، ولم يبقَ عليه إلا المحافظة عليها..
ثانيا: المحافظة على الدولة:
إن أول ما سعت إليه المليشيا المتمردة، وحلفاؤها هو اختطاف الدولة، وفرض الوصاية السياسية على الأغيار السياسيين، وأعني بالأغيار كل ما سوى المليشيا والقوى المتحالفة معها، وقد بدأوا في فرض هذه الوصاية بتوقيعهم على الاتفاق الإطاري، ورفض أي تعديل عليه يمكن غيرهم من المشاركة فيه بحجة واهية، ومضحكة، وهي عدم السماح بإغراق العملية السياسية، وهذه الحجة الواهية كانت تمثل المخدر الذي حُقِنوا به حتى يساقوا، ومعهم كل البلاد إلى هذا الواقع الذي تعيشه الآن، فتحت سكرة التأييد الدولي الظاهري رفضت المليشيا، وحلفاؤها كل مساعي ضم بقية القوى السياسية إلى الاتفاق الإطاري، وفي محاولة للي ذراع الجيش، شرعوا في عقد ورشهم التي نص عليها الاتفاق الإطاري حتى وصلوا إلى موضوع دمج الدعم السريع في الجيش، ولأنه أصبح أداة قحت العسكرية، ويده التي تبطش بها تواطئوا معه ليكون الدمج في عشر سنوات، وألا يتبع للقائد العام للقوات المسلحة، ولم يكن أمام الجيش من بد من رفض التوقيع، فكان التهديد بإشعال الحرب لإرغام الجيش على التسليم، ثم إشعال الحرب التي ظلوا يعدون لها منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير، وكان ترويض الدعم السريع، أو إرغامه على الانضمام لمعسر قحت هو آخر لبنة في بناء خطة اختطاف الدولة السودانية.
كانت الأيام الأولى للحرب غاية في الصعوبة بسبب هول الصدمة، والإعداد الجيد للحرب من قبل المليشيا، وحلفائها، لكن بعد توفيق الله، والتخطيط الموفق تم إجهاض هذا الهدف بإعفاء حميدتي من منصب نائب رئيس مجلس السيادة، وتسمية مالك عقار في هذا المنصب، وشروع الحكومة في ممارسة مهامها من بورتسودان، ولقد كان اختيار مالك عقار موفقا جدا؛ حيث أغلق كثيرا من أبواب مناهضة الحكومة، ثم كان تماما على ذلك خروج رئيس مجلس السيادة في عملية جريئة، وتوليه أمر الحكومة؛ حيث أضفى ذلك الخروج حيوية على الحكومة خاصة بزياراته الميدانية، والدولية المتكررة، وريدا رويدا مات مشروع اختطاف الدولة.
بقي أمر آخر هو أيضا في غاية الخطورة؛ وهو المحافظة على الشرعية الخارجية للحكومة، فقد عملت المليشيا مع حلفاء خارجيين على سحب هذه الشرعية، تحت غطاء ان البرهان لا شرعية لديه بعد انقلابه على حكومة حمدوك، صرح بذلك الرئيسان الإثيوبي، والكيني، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، لكن كان للجهود الجبارة التي بذلتها الخارجية السودانية خاصة بعثتها في الأمم المتحدة، وكذلك الدبلوماسية الرئاسية التي نشط فيها رئيس مجلس السيادة، ونائبه كان لها الأثر البالغ مع الصبر في المحافظة على الاعتراف الدولي القائم بالحكومة، ثم تحولت الحكومة بعد ذلك إلى الهجوم بعد أن كانت تلتزم الدفاع؛ فكان تجميد مباشرة إيقاد للاضطلاع بالقضية السودانية قاصمة ظهر للتدخل الإفريقي، ومناصرته للمليشيا، ثم فضح الدور الإماراتي، والتشادي، والجنوب سوداني، وباقي الأدوار الإفريقية إيذانا ببدء انحسار ثوب العزلة، وكشف غطاء دعم المليشيا، وما يزال الطريق طويلا في هذا الأمر.
ثالثا: المحافظة على الجيش:
وعند الحديث عن المحافظة على الجيش لا بد من المرور على محورين أساسين في إطار تحقيق هذا الهدف هما:
الأول: المحافظة على القوة المادية:
ففي بداية هذه الحرب فقد الجيش الاغلبية الساحقة من قواته البرية في عملية التمرد، حيث كان الدعم السريع يمثل أساس هذه القوة، وهيكلها العظمي، فلما وقع التمرد، لم يبقَ من مشاة الجيش إلا القليل، ممن لا يقارن عددهم بأعداد الدعم السريع؛ تمردوا بكامل عتادهم، فكان لزاما على الجيش العمل على إدارة المعركة بهدوء، وتعقل لتحقيق أقل خسارة في قواته، وحتى يكسب وقتا لتعويض الفرق في الأعداد بينه، وبين المتمردين.
لم يكن من الحكمة، والحال هذا الاندفاع في المعركة، فذلك يعني إبادة كامل ما تبقى من قوات المشاة، خاصة في ظل تمركز قوات القنص التابعة للمتمردين في البنايات العالية، مع السبق إلى الأماكن ذات الأفضلية في أرض المعركة، فكان القرار المدروس باعتماد سياسة دفاعية تستدرج المتمردين ثم تقوم بحصدهم بواسطة المدفعية، وسلاح الطيران، والمسيرات، فأحدثت في صفوفهم خسائر بعشرات الآلاف في غضون الشهور الأولى من المعركة، كما عمل الجيش على تخفيف الضغط عليه باستدراج المتمردين للانتشار الجغرافي الواسع تحت عناوين أوهام تحقيق الانتصارات، ثم عزل كل قوة عن بقية القوات، وتقطيع أوصالها، ورغم الخسائر البشرية، والمادية هنا، وهناك، وترويع المواطنين في كل الأماكن التي دخلها المتمردون، وما يزالون فيها، إلا أن ذلك جعل المتمردين يفقدون ميزة التفوق العددي بشكل متدرج، لكنه سريع، وبموازاة ذلك كان الجيش يقوم بالاستنفار، والانتقاء من المستنفرين لأصلب العناصر، وأقواها، حتى استطاع بناء قوة تفوق أعداد قوة التمرد، كل ذلك صحبه عمل دؤوب لقطع طرق الإمداد الخارجي، والداخلي عن التمرد، فكان التدمير شبه المبرم لكل قوة يراد إلحاقها بالمتمردين من دارفور، أو من دول الجوار، ولولا قيود القانون الدولي، وتقديرات سير المعركة لطال الطيران مطارات الإمداد الخارجية في المدن الحدودية لبعض الدول.
ثم إن الجيش، وفي إطار السعي للمحافظة على قوته المادية نجح كذلك في المحافظة على تفوقه النوعي في التسلح، فلم يفرط في سلاح المدفعية، ولا سلاح الطيران اللذَيْن يعطيانِه أفضلية ليس على قوات متمردي الدعم السريع، بل حتى على معظم جيوش الإقليمين؛ العربي، والإفريقي، كما إنه نجح في تعزيز هاتين القوتين بشكل واضح أثناء سير المعركة.
الثاني: الالتزام:
حينما تذكر الجيوش النظامية، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الالتزام، ويقصد بالالتزام التقيد بالقوانين، والاتفاقيات الدولية الضابطة للأعمال العسكرية؛ فمن المعلوم أن كل جيش نظامي يستند في وجوده على دستور بلاده الذي يؤسس لشرعية وجوده، ويؤطر القانون عقيدته، وعلاقته بباقي مؤسسات الدولة، وينظم أعماله في المعتاد، هذا القانون يبين تفاصيل نشاطاته في حالة السلم، والحرب، والمخالفات، وجزاءاتها، كما أن هناك اتفاقيات دولية تكمل القوانين الداخلية للدول في ضبط الأعمال العسكرية؛ من أهمها القانون الدولي الإنساني الذي ينظم التعامل مع المدنيين، والأعيان المدنية وقت الحروب.
إذا عُلم ذلك، علم أن على الجيش السوداني التزامات دستورية، وقانونية، ودولية بموجَب عضوية السودان في المنظمات الدولية الإقليمية، ومصادقته على الاتفاقيات، وحينئذ يجب عليه في الحرب مراعاة ما قد لا تراعيه المليشيا المتمردة، فهو يجب عليه الالتزام بحماية المدنيين، والأعيان المدنية مهما تكن، ومن باب أولى في الحالة السودانية حيث تمثل حماية المدنيين، وممتلكاتهم مصدر شرعية أعمال الجيش، فهؤلاء شعبه، وهذه ممتلكاتهم، فوجوب الالتزام هنا مضاعف؛ فلذلك كان حرص الجيش السوداني على حماية المدنيين هو ما أخر حسم كثير من المعارك الحربية ، لكنه في المقابل عجل بكسب معركة الالتزام الأخلاقي، والقانوني في مقابل مليشيا دمرت البنية التحتية المدنية، واحتلت بيوت المواطنين، واتخذت منهم دروعا بشرية ونهبت ممتلكاتهم، فضلا عن القصف العشوائي للمستشفيات، وأماكن السكن المكتظة بالسكان، ولعله بعد أن تضع الحرب أوزارها سترفع دعاوى بارتكاب جرائم إبادة، وجرائم ضد الإنسانية يأخذ بعضها برقاب بعض، وستأخذ بتلابيب المليشيا، والداعمين لها؛ أفرادا، وجماعات، ومنظمات، ودول، ولعله قد كان الجيش قد وضع خطته منذ البداية للخروج منها منتصرا، وهو الآن في فسحة من أمره بهذا الانضباط، وبالمقابل، فإن الجيش، وهو يلتزم بهذا الانضباط يحقق إشباعا دينيا، وأخلاقيا لجنوده، علاوة على تفويت الفرصة على المتآمرين الذين يتربصون به الهزيمتين، كلتيهما، أو إحداهما، ولقد تجاوز الأولى، وما وقع في فخ الأخرى، فمن المعلوم أن المنظمات الحقوقية تراقب عن كثب، وهي ليست إلا واجهات سياسية لدول تبتغي حصد ثمار هذه الحرب، وكلما وجدت بابا مفتوحا ولجت منه، فالالتزام يغلق باب العقوبات التي يمكن أن تفرض على الجيش السوداني من القوى المؤثرة في السياسة الدولية، فتعوق تسليحه، وإعادة بنائه بعد الحرب، بل ويغلق الباب أمام أي تدخل متوقع، أو يضيق عليه مَوالجَه.
كان أساس الخلاف الظاهر بين الجيش، المليشيا المتمردة هو عملية دمجها في القوات المسلحة، وصولا لتوحيد الجيوش في السودان، ولقد كان هذا الشعار مرفوعا، وقد ضمن الوثيقة الدستورية الحاكمة، واتفاقية جوبا للسلام، وحتى الاتفاق الإطاري الذي وقعت عليه المليشيا، ودُعي الجيش للتوقيع عليه، ولم يبدِ الجيش أي ممانعة في ذلك من حيث المبدأ، غير أن الميليشيا اشترطت أن يكون الإدماج في عشر سنوات، وأن تتبع قواتها لرئيس الوزراء، وألا يكون للقائد العام للجيش أي ولاية عليها، مما أبان النوايا الحقيقية للمليشيا، وحلفائها؛ إذ كيف يمكن أن تبقى هذه القوات لمدة دورتين حكوميتين، ونصف الدورة خارج ولاية الجيش، مما يعني بناء جيش مواز بكل صنوف الأسلحة التي ما كان يمكن أن تحصل عليها المليشيا بحسبانها لا يسمح بامتلاكها إلا للجيوش النظامية.
مع هذا الواقع، وبعد اندلاع الحرب غير الجيش استراتيجيته في التعامل مع المليشيا، فبعد أن كان الهدف هو دمجها في الجيش، أصبح الهدف هو سحقها تماما، وهذا ما عمل عليه الجيش، ووضع له الخطط التي أصبحت توتي أكلها كل حين، فتآكلت تلك القوة الضاربة للمليشيا، وأصبح الموت في صفوفها بالمآت يوميا أمرا عاديا، حتى لم يبقَ من تلك القوات التي كانت تقدر بمائة، وأربعين ألفا مدججة بأحدث أنواع الأسلحة لم يبقَ منها إلا بضعة آلاف، وما تزال آلة القتل تعمل فيهم.
أ.د. الخاتم عبد الرحمن أبو الحسن
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الاتفاق الإطاری المحافظة على الدعم السریع على الجیش قد کان لم یبق لم یکن
إقرأ أيضاً:
هذه أبرز النزاعات التي تواجه العالم في عام 2025.. حروب ترامب من بينها
قالت صحيفة "الغارديان" تقريرا إن أنظار العالم ظلت متركزة على الشرق الأوسط وأوكرانيا، لكن وحشية الحرب تنتشر في أماكن أخرى من العالم.
وأضافت الصحيفة في تقرير لها ترجمته "عربي21" أن الشعور المنتشر هذه الأيام هو أن العالم أصبح مكانا خطيرا، لكن هل هذا صحيح؟ لا تساعد المقارنات التاريخية للإجابة على هذا السؤال، بحسب التقرير.
يشير التقرير إلى أن القراءة الأخيرة لـ"ساعة القيامة"، والتي تقدم إجراءات رمزية لاقتراب الكوارث الدولية وفق مجموعة من علماء الذرة الدوليين، أن الساعة الآن هي عند 89 ثانية قبل منتصف الليل، مشيرة إلى التهديدات الناجمة عن تغير المناخ والأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي. حيث تقدمت ساعة القيامة مرة أخرى أقرب إلى منتصف الليل وسط تلك التهديدات.
وكانت الساعة تشير إلى 90 ثانية قبل منتصف الليل خلال العامين الماضيين.
وقال دانييل هولز، رئيس مجلس العلوم والأمن في "مجموعة القيامة" التي أسسها ألبرت أينشتاين ويوليوس روبرت أوبنهايمر وعلماء مشروع مانهاتن في شيكاغو عام 1947: "عندما تكون على هذه الهاوية، فإن الشيء الوحيد الذي لا تريد القيام به هو اتخاذ خطوة إلى الأمام".
والمهم من تحذيرات العلماء هي أن التهديدات هذه لم تعد تدار بطريقة جيدة. وعززت الكوارث الطبيعية والصحية، مثل حرائق لوس أنجلوس، والجفاف بمنطقة الساحل، واندلاع مرض إيبولا، من مفاهيم أن العالم يخرج عن السيطرة.
ويقول تيسدال إن التصرفات التخريبية للدول والحكومات هي عامل مهم في زعزعة استقرار العالم، من خلال ميلها المتزايد إلى انتهاك ميثاق الأمم المتحدة والحدود الدولية وحقوق الإنسان الأساسية والمحكمة الجنائية الدولية.
فعندما يهدد الرئيس الأمريكي الذي يعد تقليديا الحارس الرئيسي للنظام القائم على القواعد والذي أنشئ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، بمهاجمة حليف في أوروبا الغربية عسكريا للاستيلاء على أراضيها ذات السيادة، فلا عجب أن يشعر الجميع بمزيد من غياب الأمن. ومع ذلك، هذا هو بالضبط ما يفعله دونالد ترمب في محاولته ترهيب الدنمارك لتسليم غرينلاند.
ويواجه جيران ترمب في بنما والمكسيك وكولومبيا وكندا ترهيبا مماثلا.
وقامت المنظمة غير الربحية "أماكن النزاعات المسلحة وبيانات الأحداث" المعروفة باسها المختصر "أكليد" بإعداد معلومات وتحليلات للمساعدة في تتبع العنف والتخفيف منه.
وتشير التقديرات إلى أن الصراعات العالمية تضاعفت على مدى السنوات الخمس الماضية، وأن حوادث العنف السياسي في عام 2024 زادت بنسبة 25% عن عام 2023، وأن واحداً من كل ثمانية أشخاص في جميع أنحاء العالم عانى من الحرب.
وبهذه المقاييس، فإن الاعتقاد بأن العالم أصبح أكثر خطورة مبرر تماماً.
وفي حين تحظى بعض الحروب، مثل الحرب على غزة والحرب الروسية الأوكرانية، باهتمام إعلامي ضخم، فإنها تشكل استثناءات.
فمعظم الصراعات الحالية، سواء كانت تنطوي على حروب وغزوات في السودان والكونغو، أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في أفغانستان والتيبت، أو حرب العصابات في هاييتي وكولومبيا، أو المجاعة الجماعية في اليمن والصومال، أو القمع السياسي في نيكاراغوا وبيلاروسيا وصربيا، لا تحظى بالتغطية الكافية أو يتم نسيانها أو تجاهلها.
وتحتاج الحروب المتطورة كتلك بين الصين وتايوان، والولايات المتحدة- إسرائيل وإيران إلى اهتمام قريب. وكل هذه النزاعات تقدم صورة رهيبة عن عالم أصبح مدمنا على الحرب.
الكونغو- رواندا
ولو ألقينا نظرة خاطفة على حالة العالم الحالية والحروب المندلعة فيه فإننا نرى أن الحرب قد اندلعت وتطورت بشكل كبير بين رواندا والكونغو.
فالحرب المستمرة على الحدود بين البلدين أصبحت في مركز الأخبار عندما دخلت القوات الرواندية ومجموعات المتمردين المعروفة باسم "أم23" مدينة غوما في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث اتهمت الأمم المتحدة الرئيس الرواندي بول كاغامي بتوجيه ودعم "أم 23" وإرسال قواته إلى داخل الأراضي الكونغولية.
وفي قلب النزاع صراع على المصادر الطبيعية في منطقة فقيرة من الكونغو، فهي غنية بخام كولتان المطلوب بشدة في الغرب.
ففي الوقت الذي أدى الهجوم الأخير إلى جلسة طارئة في مجلس الأمن الدولي، شجبت فيها فرنسا وبريطانيا رواندا ودعمت الولايات المتحدة سيادة الكونغو على أراضيها، وأعلنت ألمانيا دعمها لرواندا، إلا أن الخطوات هذه متأخرة، وبخاصة أن الاتحاد الأوروبي وقع اتفاقية استراتيجية للمعادن مع نظام كيغالي. كما يأتي شجب بريطانيا فارغا، فقد اعتبرت الحكومة السابقة في لندن نظام كاغامي بأنه نموذج يمكن نقل طالبي اللجوء السياسي في بريطانيا إليه. وأكثر من هذا فالنزاع في الكونغو مستمر منذ عقود.
ميانمار
وهناك النزاع في ميانمار، فقد شهد العام الماضي مقاومة مسلحة للمجلس العسكري الذي أطاح بحكومة الحائزة على جائزة نوبل للسلام، أونغ سان سوكي عام 2021.
ورد الجنرالات بما أسمته منظمة هيومان رايتس ووتش بأساليب "الأرض المحروقة". وتشمل هذه الضربات الجوية العشوائية ضد المدنيين والقتل والاغتصاب والتعذيب والحرق العمد "التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
وتقول الأمم المتحدة إن ميانمار في" سقوط مستمر" حيث سيحتاج 20 مليون شخص إلى المساعدة في عام 2025.
وتم فرض التجنيد الإجباري على الشباب والأطفال باستخدام عمليات الاختطاف والاحتجاز.
ولا تزال أونغ سان سوكي قيد الاعتقال، وهي واحدة من 21 ألف سجين سياسي. ولا يزال المدنيون من أقلية الروهينغا المسلمة مستهدفين في ولاية راكين.
ويظل السياق الأوسع للنزاع في ميانمار هو فشل مجموعة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" للرد على هذا الكابوس وتسامح الصين مع النظام العسكري، فيما تورد روسيا السلاح للنظام العسكري.
هاييتي
وفي هاييتي، التي توصف بأنها أفقر دولة في الجزء الغربي من الكرة الأرضية، ولديها سمعة بأنها غير محكومة، حيث فشلت سلسلة من التدخلات الخارجية قادتها أمريكا بتحقيق الاستقرار.
واحتلت امريكا البلد فعليا ما بين 1915 و 1934. وفي آخر تدخل أمريكي أرسل بيل كلينتون في عام 1994 20 ألف جندي لفرض النظام، ولم يستمر ذلك إلا لفترة مؤقتة، وجاءت قوات الأمم المتحدة وخرجت.
ودخلت هاييتي في الفوضى بعد مقتل الرئيس جوفينل مويس عام 2021 وسيطرت العصابات المسلحة على البلد. وآخر مساعدة خارجية جاءت من كينيا. وقتل في الفوضى الحالية أكثر من 5,300 شخص وشرد 700 ألف شخص.
إثيوبيا- الصومال
أما النزاع الصومالي- الإثيوبي، فقد تعرضت صورة إثيوبيا كنموذج للمساعدات الدولية وجهود التنمية لإعادة مراجعة كبيرة في السنوات الأخيرة، وتزامنا مع صعود رئيس وزرائها، آبي أحمد، إلى السلطة في عام 2018.
ولم يتم حتى الآن تقديم محاسبة كاملة وعلنية للحملة العسكرية المدمرة التي شنها آبي أحمد في إقليم تيغراي الشمالي والتي انتهت بهدنة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.
وقد ساءت سمعة إثيوبيا والقوات الإريترية المتحالفة مع متمردي التيغراي بسبب انتهاكات حقوق الإنسان الصارخة.
وتتواصل هذه في ظل آبي أحمد إلى جانب تراجع الديمقراطية وقمع حرية التعبير ومنع الإنترنت إلى جانب النزاع مع الصومال بشأن الوصول إلى مياه البحر.
كما يزداد القلق بشأن منطقة أمهرة الإثيوبية، حيث تتصاعد أعمال القمع والاعتقالات واسعة النطاق لمعارضي الحكومة وسط صراع مستمر مع الجماعات المسلحة.
إيران
في إيران فإن نظام الحكم عانى من ضربات موجعة في عام 2024، وخسر عددا من حلفائه في لبنان وسوريا. ويواجه النظام عددا من التحديات المحلية، وليس أقلها السكان وغالبيتهم من الشباب الغاضبين بشكل متزايد على الفساد والعنف والقمع ومن العجز الحكومي. وشهدت إيران خلال الـ 15 عاما الماضية ثلاث انتفاضات واسعة، عام 2009 و2019 و 2022.
تركيا- سوريا
وعلى الحدود التركية- السورية هناك تغيرات كبيرة، فقد استطاعت هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع الإطاحة بالرئيس بشار الاسد، حليف إيران وسوريا. ورغم ترحيب الغرب ودول الخليج بالتغيير إلا أن الخطوات تجاه إعادة تأهيل النظام الجديد بطيئة. ولكن الوضع الأمني لا يزال هشا في البلد وبخاصة المواجهات بين جماعات الأكراد المدعومة من أمريكا وتلك التي تدعمها تركيا.
السودان
وفي السودان، عادة ما يشير المعلقون الصحفيون إلى الوضع الأمني والكارثة الإنسانية هناك بأنه "النزاع المنسي"، والحقيقة هو أنه أسوأ، فهو ليس منسيا لكن تم تجاهله منذ الفوضى في عام 2023.
نزح الملايين من مدنهم ومجتمعاتهم وانتشرت المجاعة نتيجة للنزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، حيث تتهم الأخيرة بارتكاب إبادة جماعية بدارفور واستخدام العنف الجنسي كوسيلة حرب هناك.
وربما انتهى التجاهل الدولي للسودان في عام 2025، ويقول مدعى الجنائية الدولية، كريم خان إنه سيسعى إلى اعتقال المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب وفظائع أخرى في دارفور على افتراض أنه يمكن القبض عليهم.
وبمعنى ما، يعيد التاريخ نفسه. في عام 2003، أصبحت دارفور مرادفة للإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ارتكبتها ميليشيا الجنجويد، سلف قوات الدعم السريع. مع أن وقف الحرب الأوسع في جميع أنحاء السودان أكثر تحديا.
باكستان- أفغانستان
وعلى جبهة باكستان وأفغانستان، فقد كان تخلي المجتمع الدولي عن أفغانستان لصالح طالبان في عام 2021 مخزيا ومكلفا سياسيا. وخسرت النساء والفتيات الأفغانيات، اللائي تعرضن مرة أخرى لمنعهن مرة من الحريات الشخصية والحق في التعليم وتولي الوظائف.
وفي الأسبوع الماضي، اتخذت المحكمة الجنائية الدولية خطوات لمعالجة هذه الانتهاكات، حيث أعلنت أنها ستسعى إلى اعتقال كبار قادة طالبان مثل هيبة الله أخوندزاده وعبد الحكيم حقاني بتهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية تتمثل في الاضطهاد على أساس الجنس، وهي الأولى من نوعها على مستوى العالم.
ويظل منظور الاستقرار في أفغانستان عام 2025 موضع شك، حيث تعاني الدولة من الفقر.
كما تبدو باكستان المجاورة غير مستقرة إلى حد كبير بعد عام من الاضطرابات السياسية التي تركت رئيس الوزراء السابق الشعبي عمران خان في السجن وسياسي مدعوم من الجيش، شهباز شريف، في السلطة.
اليمن
في اليمن، وصف البلد بأنه أسوأ حالة طوارئ إنسانية في العالم، وربما لا يزال كذلك، على الرغم من الأهوال المتزايدة في السودان.
ولكن منذ هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحول الاهتمام العالمي بعيدا عن الأزمة المحلية في اليمن إلى الحوثيين. لقد أثارت هجماتهم الصاروخية على السفن الغربية في البحر الأحمر، وعلى "إسرائيل"، دعما لشعب غزة، أعمالا انتقامية من الولايات المتحدة وبريطانيا وآخرين. وبعد وقف إطلاق النار في غزة، توقفت هجمات الحوثيين ضد السفن، لكن الحرب الأهلية الأوسع مستمرة.
الولايات المتحدة- المكسيك
وأخيرا هناك النزاع الأمريكي- المكسيكي، وكأن المكسيك بحاجة للمزيد من المشاكل فوق ما تعاني. فعسكرة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب للحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك ومطالبه الصبيانية بإعادة تسمية خليج المكسيك بخليج أمريكا، من المؤكد أنها ستجعل الأمور أسوأ.
وقد حذر مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي الأسبوع الماضي من أن "استخدام ترامب الأساليب العقابية للهجرة سيثقل كاهل دولة المكسيك بمزيد من الأعباء ويعرقل النمو الاقتصادي الإقليمي ويثري العصابات الإجرامية"، مما يجعل البلدين أقل أمانا وأقل ثراء. كما أن سياسة ترامب القائمة على "البقاء في المكسيك" للمهاجرين قد تزعزع استقرار البلد في وقت تعهدت فيه الرئيسة الجديدة كلوديا شينباوم ببداية جديدة.