خلال خطبة فضيلة الشيخ د محمد حسن المريخي بجامع الإمام .. دنيا تسلطت فيها النفوس على أكثر الناس
تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT
أوضح فضيلة الشيخ د محمد حسن المريخي خلال خطبة الجمعة التي ألقاها بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب أن دنيا الناس اليوم، دنيا صعبة عسيرة، غريبة عجيبة، وفي نفس الوقت خطيرة، فقد تفقد المرء حياته ودينه وخلقه، بل وحتى تفسد عليه آخرته "يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور"، دنيا تسلطت فيها النفوس على أكثر الناس، واستولت على شؤونهم وأحوالهم، بل وأخذت بزمامهم ورقابهم، فهي التي ترسم لهم منهج حياتهم، وصراط مستقبلهم ودينهم وأخلاقهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم، وهذا الحال المتردي عباد الله قوبل باستسلام عجيب منقطع النظير، وترحيب كبير، وغفلة عريضة عن الدين الحنيف، وإرخاء وإهمالا للنفوس وأزمتها، نفوس تعربد وتخرب، وتهدم وتتخلى عن المستقيمات، استولت على الرقاب، فأخذتها ذات اليمين، وذات الشمال حتى أسقتها من الحنظل حسيا ومعنويا وأقنعتها بالشرب من كؤوس الحرام، والمحظور والخبيث، ثم قذفتها في أودية الردى والهلاك، والخسران، نفوس عمياء مريضة تحب السوء والفحشاء، وتلتهمه وتبغض الخير والطيب وتمجه وتنبذه، لا ترى الحق، ولا تقبل الطيب، ولا تحب المستقيم، لكنها تتبنى الباطل، وتأنس للخبيث، وترافق الاعوجاج، هذه هي حقيقة النفوس الأمارة بالسوء إذا لم تعالج، وتداوى بدين الله تعالى الحنيف بمتابعة منهج سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام.
وأضاف الخطيب: تطلق النفس على ذات الإنسان وروحه، والنفوس ثلاثة نفس شريرة وهي الأمارة بالسوء، ونفس خيرة وهي المطمئنة، تأمر بالخير ويمدح صاحبها، ويثنى عليه، ونفس لوامة، وهي التي تترنح بين الخير والشر، تغالب شهواتها تارة، وتسقط في حمأة المعصية تارة أخرى، فصاحبها يستحضر الملامة والحسرة، والخشية عقب اقتراف أي ذنب، فيتوب ويؤوب، قال الله تعالى "ولا أقسم بالنفس اللوامة"، وهذه نفس طيبة لأنها رجاعة للحق ولا يوجد فيها إصرار أو تحدي، وكل أنواع هذه النفوس كلها مذكورة في القرآن، فالنفس الشريرة التي تأمر بالسوء مذكورة في سورة يوسف عليه السلام "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء"، وأما النفس المطمئنة الخيرة التي تأمر بالخير فهي في سورة الفجر "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك فادخلي في عبادي وادخلي جنتي"، ونحن عباد الله بصدد النفس الشريرة التي استولت واستحوذت على أكثر ناس هذا الزمان.
وقال الشيخ د. محمد المريخي لقد قدم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه وسنة نبيه الوصية بالنفس، قدم الوصية بالنفس، ورعايتها، وحذر من الغفلة عنها، والانتباه، واليقظة لها لخطورتها، وسوء عاقبتها، فقال الله تعالى "إن النفس لأمارة بالسوء"، فهي أمارة، وليست آمرة، لكثرة أمر صاحبها بالسوء الذي لا تشبع منه من الفواحش وسائر الذنوب، وهي مركب الشيطان، وقال تعالى "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، قد أفلح من طهر نفسه وأصلحها، ووقف عليها بصوت الطاعة، وقد خاب وخسر، وضل من أهملها، وأرخى لها الحبل فأغوته وأعمته عن الحق، واكتساب الحسنات، والاستعداد ليوم الدين، قال الله تعالى "فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"، ومن الاهتمام الكبير بالنفس عباد الله، والخوف منها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء ربه عز وجل، يطلب استقامة نفسه وهدايتها، وتزكيتها ويستعيذ ويلوذ به سبحانه وتعالى ليحميه من شر النفوس وطغيانها، يقول صلى الله عليه وسلم "اللهم آتي نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها"، "اللهم إني أعوذ بك من علم الله ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها" وكان يقول أيضا "اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي"، ويقول "اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه".
وأردف: أمر الله تعالى بحفظ النفوس، واتخاذ أسباب حفظها وأوصى سبحانه وتعالى برعايتها وحفظها من الهلاك والانتحار، أو بأي سبب يؤدي إلى التهلكة، فقال سبحانه "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما"، وقال تبارك وتعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل قتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وصححه الألباني، ومن كبير رعاية الدين الحنيف للنفوس أنه اعتبر من تسبب في إنقاذ نفس من الهلاك أو تسبب في فساد النفوس بأي طريقة حسية أو معنوية، فكأنما أهلك الناس جميعا، ومن أحيا النفوس، بأي حياة حسية أو معنوية ترضي الله تعالى، فكأنما أحيا الناس جميعا"، يقول الله تعالى "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، يعني من أنجاها وتسبب في نجاتها من هلاك حسي أو معنوي، فله أجر كبير كأجر من تسبب في نجاة الناس جميعا، فكيف إذن سيكون جزاء من أحيا نفوسا حياة إيمانية مرتبطة بالتوحيد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟.
وقال الشيخ د. محمد المريخي إن النفوس اليوم جشعة متمردة، تبطش بقوة، وتأكل الحرام بشراهة، وتعتدي وتسرق وتنهب، وكأنها فكت من قيدها، كثير من النفوس، اليوم عباد الله تقود أصحابها، وتتولى أمرهم، فأوردتهم الموارد والمهالك، والخزي وألقت بهم في أودية الرذيلة، والفسوق والحسرة، حتى عادت بعض النفوس من شدة فلتانها، عادت كأنها إله يعبد من دون الله تعالى، واتخذت ما تمليه على أصحابها دينا، وشريعة تسير عليه، وتتصرف بناء عليه، حتى ألقت بهم في الحرج مع الله عز وجل، ماتوا وهم عبيد لأنفسهم، قال الله تعالى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون". قال المفسرون هذا الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه وفعله، لأنه لا يؤمن بالله، ولا يحرم ما حرم الله، ولا يحل ما أحل الله، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به "لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم".
وإن البلوى كلها هي نسيان النفس، والغفلة عنها وإهمالها وإرخاء حبلها وقاربها، فتغدو في سخط الله وتروح في غضبه وتبيت في غير رضاه، وإن نسيان الله تعالى أو نسيان دينه كارثة سيدفع العبد ثمنها غدا يوم تبلى السرائر، إن نسيان الله تعالى والرضا بالدنيا ومتاعها والتفرغ لها ذنب كبير وحمل ووزره ثقيل عاقب الله عليه أقواما اقترفوه وسكنوا فيه فعاقبهم وحذر منهم سبحانه فقال "ولا تكونوا كالذين نسوا اله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" نسوا الذي من أجله خلقوا، حتى خرجوا من الدنيا، فعاقبهم بأن أنساهم أنفسهم بأن يقيمونها في طاعته، فخرجوا من الدنيا خاسرين، وتوعدهم وغيرهم بالتضييق عليهم في الدنيا قبل الآخرة، "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"، لا يرى الحجج ولا البراهين.
وذكر الخطيب أن النفوس السيئة الظالمة سوف تتخلى عن أصحابها في يوم عظيم لا تنفع فيه الحسرة ولا الندامة، قال الله تعالى عن الشيطان "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم".
ولفت الخطيب أن النفوس لا تحفظ ولا تصان ولا تعالج إلا بدين الله تعالى بتشريعات الدين، ولا تشتط النفوس عباد الله، ولا تستأسد إلا عند ضعف سلطان الدين عليها، وعند الابتعاد عنه، والتمرد عليه، وإلا فسلطان دين الله تعالى حصن حصين، وسياج منيع، وسور عظيم لا يمكن اقتحامه ولا تسوره، ولا القفز عليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حتى حين ينتهبها وهو مؤمن"، وقال صلى الله عليه وسلم "لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده عليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه"، وقال "لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ينزع عنه الإيمان كما يخلع أحدكم قميصه فإن تاب تاب الله عز وجل عليه".
ونوه الخطيب بأنه لما كانت الوسوسة عباد الله وحديث النفس شيئا يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، تفضل الله تعالى على الأمة فعفا عنها، فلا يؤاخذ عليها، لا يؤاخذ عبده على الوسواس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" رواه البخاري ومسلم، فاتقوا الله عباد الله واحفظوا أنفسكم مما يسخط الله ويغضبه من المعاصي والذنوب والأغاني التي هدمت أخلاق الناس وأفسدت عليهم دينهم وأخلاقهم وصدتهم عن ذكر الله وعن الصلاة، احفظوا النفوس عباد الله بالصلاة، ومتابعة ما أمر الله والرسول، احفظوا النفوس عباد الله من الجرأة عليه، وعلى دينه، وعلى رسوله، وكتابه وسنة رسوله، احفظوا النفوس من التقول على الله، والاستهزاء والسخرية بأحكامه وتشريعاته، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، عالجوا النفوس عباد الله بالوحي المنزل بالكتاب والسنة، احفظوا النفوس من الفكر الشاذ، والثقافات المغشوشة، يحفظوها من إرخاء حبلها، ومن ظلم الناس واحتقارهم، وهضم حقوقهم، والتسلط عليهم وقهرهم، ومن أكل أموال الناس بالباطل بالغش والتزوير، والكذب، والحجج الباطلة، والدلو عند القضاء ومن الطمع والجشع، ومن الاستكبار والاستعلاء والغرور، وقهر الفقراء والمساكين واليتامى، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، يقول عمر رضي الله عنه "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم وتهيأوا للعرض الأكبر "يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
المصدر: العرب القطرية
كلمات دلالية: خطبة الجمعة صلى الله علیه وسلم قال الله تعالى الناس جمیعا وهو مؤمن إن الله الشیخ د
إقرأ أيضاً:
التعصب ليس مرتبطا بالدين وحده.. موضوع خطبة الجمعة اليوم
يلقي الأئمة اليوم 12 من ديسمبر 2025م، الموافق 21 من جمادى الآخر 1447ه، خطبة الجمعة فى المساجد تحت عنوان:"التعصب ليس مرتبطا بالدين وحده".كشفت الأوقاف عن موضوع خطبة الجمعة اليوم يتناول التوعية بخطورة التطرفُ وانه ليسَ ظاهرةً قاصرةً على النصوصِ الدينيةِ ، أو محصورةً في الزوايا الشرعيِّةِ ، بل هو انحرافٌ سلوكيّ ، واقتتالٌ فكريّ، يظهرُ حيثما يختلُ ميزانُ العدل، ويغيبُ سندُ الاعتدال.وأوضحت الأوقاف أن الهدف من هذه الخطبة هو التوعية بخطورة التعصب بجميع أشكاله لا سيما التعصب الرياضي.
وجاء نص خطبة الجمعة اليوم كالتالي:
التطرفُ ليسَ فِي التديُّن فقط
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، فطرَ الكونَ بِعَظَمَةِ تَجَلِّيه، وأنزلَ الحقَّ على أنبيائِه ومُرْسلِيه، نحمدُه سبحانَهُ على نعمةِ الإسلامِ، دين السماحةِ والسلامِ، الذي شرعَ لنا سُبلَ الخيرِ، وأنارَ لنا دروبَ اليُسرِ، وَنَسْأَلُه الهُدَى وَالرِّضَا وَالعَفَافَ وَالغِنَى، ونَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، ونَشْهدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبِيبُهُ، صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ، النَّبِيُّ المُصْطَفَى الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيهِ، وعلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّينِ، وَبَعْدُ:
فالتطرفُ ليسَ ظاهرةً قاصرةً على النصوصِ الدينيةِ ، أو محصورةً في الزوايا الشرعيِّةِ ، بل هو انحرافٌ سلوكيّ ، واقتتالٌ فكريّ، يظهرُ حيثما يختلُ ميزانُ العدل ، ويغيبُ سندُ الاعتدال ، فالغلوُ حالةٌ تنشأُ حينما يُصَادَرُ الفهمُ ، ويُهمل العقلُ ، فيظهرُ في أماكنِ العبادة ، وملاعبِ الرياضة ، والخلافاتِ العائلية، والنَّعَراتِ القبليَّة ، فالمتأملُ يلحظُ تشابهًا في الجذورِ، وإنْ تباينتِ الألوانُ ، وتعددتِ المظاهرُ ، والتعصبُ لفريقٍ يحملُ سماتَ التشنجِ لمذهب، وكلاهُما مرضُ الذهن، وعلةُ البصيرةِ، التي تُحوِّل الاختلافَ إلى خصامٍ ، والرأيَ المخالفَ إلى سُمٍّ زُعَافٍ، فالآفةُ ليست في حكمٍ مُنَزَّلٍ ، ولا رأيٍ معتبرٍ ، بل في نفسٍ لَمْ تَتزِنْ، وعقليةٍ لَمْ تُوَجَّهْ ، وصَدَقَ اللهُ القائلُ في محكمِ آياتِهِ مُرسِّخًا لِرِسَالةِ التوازنِ والأمانِ: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.
سادتي الكرام: أَلَمْ يَكُنْ منهجُ النبوةِ عنوانهُ: «خيرُ الأمورِ أوسَطُها»؟، أَلَمْ يُحذِّرْ الجنابُ المحمديُّ من الوقوعِ في مظاهرِ الغلوِ ودعاوى التعصبِ؟، لقد أضاءتْ تعاليمُ الإسلامِ بنورِها الوضَّاءِ، وحَمَلتْ أَخْلاقاً رصينةً وآداباً مَتينَة، وحَذرتْ من مزالقِ التطرفِ بِشَتى طرقِهِ وأصنافِهِ، فجاءتْ نصوصُ الوحيينِ صافيةً في دعوتِها، مُحْكَمَةٌ في غايتِها، تدعو إلى الوسطيةِ منهَجاً، والاعتدالِ سِراجَاً، فالإسلامُ يرسخُ فينا ميزاناً دقيقاً، يحفظُ للإنسانِ سكينَتَهُ وتوازُنَه، ويُجنِّبُه مغبةَ الانْدفَاعِ، وعواقبَ الانْقطَاعِ، حتى نكونَ شُهُوداً لله في الأرضِ على الحقِّ واليَقِين، لا على النِّزاعِ والتَّلوين، إنَّ هذا المنهجَ القويمَ يَتَجلى في أَبهى صُوَرِه، كَمَا أشَارَ إِليهِ الحقُّ سبْحانَهُ في وصْفِ عِبادِ الرَّحمنِ بقولِهِ سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾.
أيها النبلاء: إنَّ الانتماءَ المحمودَ فِطرةٌ إنسانيَّةٌ أصيلة، واعْتِزازٌ بالمحَلِ والمنشأِ والأصل، فاعتزازُ المرءِ بِقَبيلتِهِ أو وطنِهِ دون أنْ يُقصِيَ الآخرَ فعلٌ محمودٌ، وغرضٌ مقصودٌ، فمتى تجاوزَ الحدَّ، يَصيرُ تَعصُّبًا أعْمَى أو حميةً جَاهِليةً مذمومةً تقودُ إلى الشقاقِ والمفاصلةِ، واستدعاءِ العُصْبَةِ للنِزاعِ والمغَالبةِ، ليتحولَّ بذلكَ منْ شُعُورٍ طبِيْعيٍّ بالوحدةِ إلى داءٍ مقيتٍ يَقطعُ أَوَاصرَ الإيمانِ والمحبةِ، ويَصرفُ عن الهدفِ الأًسْمى وهو التعارفُ والتَّكامُل، ويستبدلُ ميزانَ التقوى والحقِّ، الذي هو أساسُ التفاضلِ، بِباطلِ الأحقادِ ودواعي التفرقةِ، وقَدْ كانَ هذا السلوكُ الانْحرافيُّ دعوةً جاهليةً، بعناوينَ قَبَلِيَّة، استنكرها الجنابُ المعظَّمُ أشدَّ الاستنكارِ وقال متسائلًا: «َبِدعوىَ الجاهليةِ وأنا بينَ أظهرِكُم؟»
*********
الخطبــة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين، سيدِنا محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وبعدُ:
فالتطرفُ الرياضيُّ بمظاهرِهِ المُنْفلتَةِ، وبعصبيتِهِ المفرطةِ، هو انحرافٌ خطيرٌ عن سننِ الاعتدالِ، يضعُ صاحبَهُ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع المحظوراتِ الشرعيةِ والآدابِ الأخلاقيَّةِ، والسلوكياتِ البغيضةِ التي تشملُ السخريةَ المهينةَ، والتنابزَ بالألقابِ المشينةِ، وإطلاقَ عباراتِ السبِّ والشتمِ، وصولًا إلى الاحتقارِ الذي يهدمُ أساسَ الأخُوَّةِ والكرامةِ، ولا يقفُ الأمرُ عندَ الإيذاءِ اللفظيِّ، بل قد ينجرفُ هذا التعصبُ إلى ما هو أشدُّ وأخطرُ، من اشتباكٍ بالأيدي واعتداءٍ جسديّ؛ لتخرجَ الرياضةُ من إطارِها النبيلِ كوسيلةٍ للتنافسِ الشريفِ والترفيهِ المباحِ، وتصبحَ بؤرةً للخصومةِ والصراعِ المذمومِ، فالمؤمنُ الحقُّ المستنيرُ بتعاليمِ الوحي، يدركُ أنَّ حفظَ اللسانِ وصونَ الأعراضِ من أهم الثوابتِ التي لا يجوزُ المساسُ بها تحتَ أيِّ ذريعةٍ، فالرياضةُ في أصلِها لا يمكنُ أنْ تكونَ مسوغًا للتعدي على حقوقِ الآخرينَ، أو تجاوزَ ضوابطَ السلوكِ القويمِ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
أيها المكرمون:
اغْرِسوا في عقولِ شبابِ الأمةِ أن روحَ الشريعةِ الإسلاميةِ هي روحُ الألفةِ والوئامِ، فهي تُرَغِّبُ دائمًا في كلِ ما يجمعُ القلوبَ ويقيمُ الروابطَ، وتغرسُ في النفوسِ معاني الألفةِ بدلَ البغضاءِ والخصام، فالإسلامُ يقفُ موقفَ الرفضِ والتحذيرِ من كلِّ سلوكٍ يثيرُ العداوةَ أو يقطعُ وشائجَ العلاقاتِ الاجتماعيِّةِ، ويدعو إلى الاعتصام بحبلِ الوحدةِ ونبذِ الفرقةِ، فالتنازعُ يُبدّدُ الطاقاتِ، ويُضْعِفُ المجتمعاتِ، ويُذْهِبُ ريحَها، ويُوهِنُ قوتَها، فمهما كانت محبةُ المرءِ للرياضةِ، يجبُ ألا تُخرجَهُ هذه المحبةُ عن حدودِ الشريعةِ وواجباتِ الأخلاقِ وضوابطِ السلوكِ، فالرياضةُ كاشفٌ دقيقٌ لمعدنِ الخُلقِ الحقيقيِّ الذي يُظهِرُ مدى التزامِ الإنسانِ بضوابطِ الاعتدالِ، وعلاجُ التعصبِ الرياضيِّ يكمنُ في ضبطِ اللسانِ، واحترام المنافسِ، وتعميقِ الوعيِ بمقاصدِ الرياضةِ الأصيلةِ كأداةٍ لبناءِ الجسدِ والروحِ؛ ليظلَّ ميزانُ التفاضلِ هو التقوى والأخلاقُ الحسنةُ، لا التعصبُ الأعمى والانتماءاتُ الزائلةُ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
اللهم احفظْ بلادَنا من كلِّ مكروهٍ وسوءٍ، وابسُط فيها بِسَاطَ اليقينِ والأمنِ والأمانِ.