عربي21:
2025-02-27@22:35:13 GMT

ديمقراطيات حول المذبحة

تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT

* يحتاج المرء صبرا جليلا حتى يحتمل إنشائيات المثقفين العرب وهم يبجّلون الديمقراطية في عز المجزرة الغزاوية؛ المجزرة التي تديرها وتمولها وتسلحها أهم وأعرق ديمقراطيات هذا العالم. يحتاج المرء صبرا جميلا حتى يحتمل الأفكار التي تخشّبت مع العقود وتحولت أصناما معبودة، ولم يعد الساجدون في محرابها يسألون أنفسهم لمن يسجدون حقا ولأي سبب.

في الأسابيع الماضية ظهرت مقارنة شقّت طريقها بين الأشلاء وصور اللحم الممزق والمدن المهدومة: مقارنة المبادرة القضائية لجنوب أفريقيا مع الموت السريري للمنطقة العربية وغيابها عما يجري. وانفتحت حينها بوابة معروفة -ومحبوبة- لمديح الديمقراطية وهجاء الاستبداد؛ الديمقراطية التي مكّنت جنوب أفريقيا من فعل ما فعلته، والاستبداد الذي شلّ المقابل العربي وأقعده عن أي فعل (عدا فعل التواطؤ).

* ليس المديح بذاته مهما ولا الهجاء، فكلاهما صار تقليدا إنشائيا راسخا، ويصعب أن تجد مثقفا عربيا معاصرا لم يدبّج نصوصا تعبيرية في هذه الثنائية؛ تبجيلا في الديمقراطية وذمّا لنقيضها. لكنّ المهمّ الفعلي لا يتعلق هنا بما قيل أو كُتب، وإنما بالمسكوت عنه والغائب الذي لا يقال: الديمقراطية التي سمحت لجنوب أفريقيا أن تفعل ما فعلته هي الديمقراطية التي سمحت للولايات المتحدة وأغلب أوروبا الغربية ومعها إسرائيل؛ أن يفعلوا ما فعلوه أيضا.

الديمقراطية التي سمحت لجنوب أفريقيا أن تفعل ما فعلته هي الديمقراطية التي سمحت للولايات المتحدة وأغلب أوروبا الغربية ومعها إسرائيل؛ أن يفعلوا ما فعلوه أيضا
ففي مقابل الصولة المشرفة لجنوب أفريقيا في محكمة العدل، فإن جمهرة من أهم ديمقراطيات العالم لا تزال -منذ مائة وأربعين يوما- تدير مجزرة فريدة في طبيعتها وهندسة إجرامها. هذه الدول، الوالغة في الدم وسحق العوائل تحت الأسقف والجدران، تدير اليوم آلة القتل والتجويع عبر نظام سياسي يحب أنصاره أن ينعتوه "أقل الأنظمة سوءا"؛ أيُّ ورعٍ بارد! ورغم أنها ليست المرة الأولى لكنها حتما الأوضحُ والأوقح: ها هو "أقل الأنظمة سوءا" يبرهن قدرته أن يكون أكثر الأنظمة التحاما بشريعة الحيوان.

* ضمن الاجتياح الغربي لخيالنا وإدراكنا، تبلورت الديمقراطية مسلَّمةً يبدأ التفكير من بعدها دوما لا من قبلها. الجدال يجري غالبا حول آلياتها، وأسباب غيابها، وأشكالها الأنسب، والإبداع الممكن في مواءمتها مع الخصوصية المحلية. هذه الاعتبارات والإشكالات لا تغير جوهر الأمر، فمِن خلفِها تجثو الصخرة الديمقراطية -بفكرتها ومفهومها- في قلب الخيال السياسي العربي، لا يزحزحها شيء. فكم عملا فكريا كُتب عربيا في رفض هذا النظام السياسي؟ في بيان توحشه الممكن تجاه الواقعين خارج مظلة "المواطنة" التي يقوم عليها؟

لا أتحدث عن أدبيات تكفير الديمقراطية ومهاجمتها لاعتبارات دينية؛ أتحدث عن رفضٍ للفكرة من منطلق نقدي "دنيوي" بحت. أليس هذا الغياب العربي مثيرا للريبة؟ ألا يُفترض بنظرية سياسية (لا فيزيائية) كائنة ما كانت أن تجد رافضين لها ومتمترسين ضدها فكريا ونظريا؟ حتى أنصار الأنظمة العربية يتحدثون عن عدم نضج الشعوب للديمقراطية، ويقدّمون الديمقراطية بذلك طموحا نهائيا في المدى البعيد (سواء صدَقوا أم كذبوا في ادعائهم، وهم كاذبون بغير شك).

* بوسع المرء طبعا أن يحشد أمثلة مضادة، ويسرد دولا ديمقراطية أبدت سلوكا مغايرا لديمقراطيات العالم الغربي (كجنوب أفريقيا مجددا). وبوسع المرء أيضا أن يشير لحركات الاحتجاج الواسعة التي اجتاحت العواصم الأوروبية ضد المذبحة. لكنّ هذا لا يزيد الأمر إلا وضوحا: أن الديمقراطية ليست ضمانة لشيء، وأنها قادرة على توليد الموقف ونقيضه، الديمقراطية ليست ضمانة لشيء، وأنها قادرة على توليد الموقف ونقيضه، وأن النافذة التي تفتحها للاحتجاج الشعبي لا تعيق مؤسساتها وقواها النافذة عن فعل ما تشاء وإبادة من تشاء، وأن هذا التعقيد المؤسسي والمشهدية المركبة للتشريعات والقوانين وفصل السلطات وآليات الرقابة وسلطة القانون و"القيم الديمقراطية"، كلها وجميعها، لا تردع هذه الدول عما نراها منغمسة فيه اليوم: محاصرة مليونيّ إنسان في قفص ثم التفنن العسكري بكسرهم وإفنائهموأن النافذة التي تفتحها للاحتجاج الشعبي لا تعيق مؤسساتها وقواها النافذة عن فعل ما تشاء وإبادة من تشاء، وأن هذا التعقيد المؤسسي والمشهدية المركبة للتشريعات والقوانين وفصل السلطات وآليات الرقابة وسلطة القانون و"القيم الديمقراطية"، كلها وجميعها، لا تردع هذه الدول عما نراها منغمسة فيه اليوم: محاصرة مليونيّ إنسان في قفص ثم التفنن العسكري بكسرهم وإفنائهم.

* عندما وصل دونالد ترامب للبيت الأبيض، انفجرت ينابيع بغير عدّ في العالم العربي للتنظير في مسألة الشعبوية. وكالعادة، كان الأمر في جُلّه محاكاةً للاهتمام الغربي الصاعد بهذا المفهوم والذي ولّدَه حدث غربي بحتٌ هو الآخر: وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض. وقُدّمت الشعبوية بوصفها خطرا يتهدد الأنظمة الديمقراطية، وانفتح النقاش الكبير حول سبل مواجهتها والتغلب عليها. أين هذا الجهد الفكري اليوم ونحن نرى فعل الديمقراطيات الغربية وسط أرضنا وعلى أشلاء شعبنا؟ لا قيمة للتنظير السابق في المسألة الشعبوية هنا، فالرئيس الأمريكي، جو بايدن، أبعد ما يكون عن هذه السمة، ولا يختلف عنه -بهذا المعنى- شركاؤه الأوروبيون في المجزرة الحالية. ألا تستوجب المجزرة الغزاوية مراجعة نقدية لمجمل الفكرة الديمقراطية؟ أم هل يتحتم على تيار فكري غربي أن يتحرك قبلنا بهذا الاتجاه حتى نبدأ نحن؟

* في صنعاء، تدير حكومة لا يكاد يعترف بشرعيتها أحد في العالم، ولا تمتّ للديمقراطية الغربية بصلة، سواء برؤيتها لنفسها أو رؤية أنصارها أو رؤية خصومها طبعا، ورغم ذلك قدّمت في سياق الحرب الحالية خطابا وسلوكا استثنائيا في إقدامه وجرأته، ومارست مخاطرة عسكرية كبرى تجاه نفسها وفرص استقرارها الاقتصادي والسياسي تثبيتا لمبدأ تضامن مع أبناء القطاع ومقاومته. ولا زال اليمن في كل أسبوع يشهد أكبر مظاهرات العالم بأسره إسنادا للقطاع، فماذا يبقى من ادعاء "غياب الديمقراطية"ليست المسألة ترويجا لنظام دون آخر، ولا دفعا لخيار على حساب سواه، بل محاولة لقول البديهي المحرّم: أن هناك أكثر من خيار، وأن فضاء السياسة لا يختزل بثنائية الديمقراطية والاستبداد، فهذه فريةٌ ديمقراطية وجزء من استبدادها بالخيال سببا لخذلان الدول العربية وسكون شوارعها وهزالة مظاهراتها؟ من الواضح أن الشرط الديمقراطي هنا مجرد كلام إنشائي، فها نحن أمام بنية سياسية غير ديمقراطية قادرة على فعل تضامني وإسنادي مؤثر كهذا.

* يقود هذا كله لسؤال سيبدو خروجا عن الموضوع لكنه في قلبه: ماذا كُتب عربيا عن هذه البنية السياسية في صنعاء خارج إطار الدعاية والتنابز بالألقاب؟ كم كتابا عربيا متخصصا قَدّم دراسة لهذه الظاهرة السياسية التي يمثلها أنصار الله والتي هي اليوم محط انتباه العالم بأسره؟ ومتى سيجد العرب الغارقون في الكتابة عن أدورنو والترجمة لماكس فيبر والتعريف بفيتغنشتاين؛ وقتا ليَنظروا في ما يجري في جوارهم وفي قلب قضاياهم وأهم ظواهرهم السياسية؟

* مسألة اليمن ضرورية في سياق حديثنا لأن الفراغ المعرفي والبحثي الذي تكشفه يعود ويؤكد مطلع الحديث كلِّه؛ هذا الارتهان الفكري المذلّ لمسلّمات وأولويات آتية من كل حدب إلا مِن حدبنا، ومن كل صوب إلا من صوبنا. ليست المسألة ترويجا لنظام دون آخر، ولا دفعا لخيار على حساب سواه، بل محاولة لقول البديهي المحرّم: أن هناك أكثر من خيار، وأن فضاء السياسة لا يختزل بثنائية الديمقراطية والاستبداد، فهذه فريةٌ ديمقراطية وجزء من استبدادها بالخيال.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية إسرائيل إسرائيل غزة الديمقراطية مجازر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لجنوب أفریقیا فعل ما

إقرأ أيضاً:

مرض غامض يودي بحياة أكثر من 50 شخصًا في الكونغو الديمقراطية

أودى مرض غامض بحياة أكثر من 50 شخصًا في شمال غرب الكونغو، حسبما قال أطباء على الأرض ومنظمة الصحة العالمية أمس الاثنين.
وقال سيرجي نجاليباتو، المسؤول الطبي في مستشفى بيكورو، الذي يعد مركزا إقليميا للرصد، لوكالة أسوشيتد برس، إن الفترة ما بين الشعور بذروة الأعراض والوفاة كانت 48 ساعة في أغلب الحالات، مضيفا" وهذا ما يثير القلق".
أخبار متعلقة كوريا الجنوبية.. مقتل 4 على الأقل جراء انهيار جسر قيد الإنشاءزلزال بقوة 5.1 درجات يضرب خليج البنغال قبالة الهند .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } مرض غامض في الكونغو - رويترز
وبدأ أحدث تفشي للمرض في جمهورية الكونغو الديمقراطية في 21 يناير الماضي، وتم تسجيل 419 حالة، من بينها 53 حالة وفاة.
ووفقًا لمكتب منظمة الصحة العالمية في أفريقيا، فإن أول تفش للمرض في بلدة بولوكو بدأ بعدما تناول ثلاثة أطفال خفاشا كطعام، ولقوا حتفهم خلال 48 ساعة في أعقاب إصابتهم بأعراض الحمى النزفية.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } مرض غامض يقتل 50 شخصًا في جنوب غرب الكونغو الديمقراطية - the guardianالتفشي الثاني
قالت منظمة الصحة العالمية إنه في أعقاب بدء التفشي الثاني للمرض الغامض الحالي في بلدة بوماتي في التاسع من فبراير الجاري، تم إرسال عينات 13 حالة إلى المعهد الوطني للأبحاث الطبية الحيوية في كينشاسا، عاصمة الكونغو، للاختبار.
وتم ثبوت خلو جميع العينات من فيروس الإيبولا أو أمراض الحمى النزفية الأخرى مثل ماربورج. وثبت وجود دلالات ملاريا في بعض العينات .

مقالات مشابهة

  • رئيس الحكومة : ملعب الدارالبيضاء سيكون جاهزاً دجنبر 2027 وكافة الشروط متوفرة لإنجاح تنظيم كأس أفريقيا والمونديال
  • سياسة ترامب تربك الأنظمة والحكومات.. هل ينتهي النظام العالمي القديم؟
  • الديمقراطية الألمانية تُجهِض الديمقراطية
  • فريدوم هاوس: تراجع الحريات حول العالم مع تشديد الأنظمة الاستبدادية قبضتها
  • رؤساء أفارقة سابقون يقودون جهود السلام بالكونغو الديمقراطية
  • رئيس إدارة تطوير الأنظمة الفضائية: مؤتمر نيو سبيس فرصة مهمة لعرض إمكانيات مصر وأفريقيا
  • ارتدى التاج ويحلم بالبقاء .. هل يهدد ترامب الديمقراطية الأمريكية؟
  • مرض مجهول يفتك بـ 25 شخصا في الكونغو الديمقراطية
  • كريم خان: قلقون مما يحدث في شرق الكونغو الديمقراطية
  • مرض غامض يودي بحياة أكثر من 50 شخصًا في الكونغو الديمقراطية