رشا عوض

هذا السودان شهد أربعا وخمسين سنة من الحكم العسكري، ثلاثون منها ما يسمى بالإنقاذ، وهي عبارة عن تزاوج الفاشية العسكرية مع الفاشية الكيزانية.

طيلة هذه السنوات كان هناك عملاً منهجياً لغسيل أدمغة السودانيين لتوطين كراهية الديمقراطية والتسبيح بحمد العسكر والاستبداد الذي يستظل ببنادقهم! وهذا ما يفسر أن هناك من يردد ببغائية ونحن في طاحونة هذه الحرب: يا أحزاب كفاية خراب!!!

الدانات والرصاص وقذائف المدفعية والطيران التي تحصد أرواح السودانيين الأبرياء وتحيل أجسادهم إلى أشلاء وبيوتهم إلى أنقاض سببها الصراع على السلطة بالسلاح بين أطراف مسلحة هي الجيش الذي بعض قياداته الطامعة في الحكم العسكري القابض، و”الكيزان” الذين لديهم مركز ثقل عسكري داخل الجيش والأمن والشرطة.

فضلاً عن كتائبهم المسلحة.

وبهذه الترسانة الضخمة يريدون الاستيطان في السلطة إلى الأبد (زمان قالوا لن نسلم السلطة إلا لعيسى) في إشارة إلى آخر الزمان وعلامات الساعة التي من بينها نزول المسيح عيسى -عليه السلام، لكن لسان حالهم الآن يقول إنهم تراجعوا عن فكرة التسليم لعيسى وما بعيد يطلعوهو قحاتي).

والطرف الثالث هو الدعم السريع الذي أنشأه وسلحه ودربه “الكيزان” وعناصرهم المتنفذة داخل الجيش ليكون عصاهم التي يضربون بها الحركات المسلحة المتمردة عليهم.

لكن انقلب السحر على الساحر، وأصبح الدعم السريع طرفاً أصيلاً في صراع السلطة، ونتيجة هذا الصراع على السلطة بين أطراف مسلحة اندلعت هذه الحرب المدمرة التي خربت السودان تخريباً من العيار الثقيل على الصعيد المادي والمعنوي.

فضلاً عن الخراب السياسي والاقتصادي المتراكم خلال أكثر من نصف قرن من الحكم العسكري و”الكيزاني”، وهي حرب تنذرنا بتغيير جغرافية السودان التي سبق أن تغيرت بانفصال الجنوب.

في عز دوي الانفجارات والحرائق المشتعلة والجثث المتحللة والمباني المنهارة على رؤوس الأبرياء، فإن الهتاف الذي يمكن أن يردده كل سوداني موجوع على وطنه من الخراب والدمار الذي حاق به هو:

يا كيزان كفاية خراب

ويا جيش كفاية خراب

ويا دعم سريع كفاية خراب

ويا جيش ويا دعم سريع ويا كيزان ما عايزين حكم عسكري في السودان!

هذا هو المنطق المسنود بحقائق موضوعية ومعلومات صلبة وواقع محسوس وملموس!

السودان على مدى 55 عاماً من سنوات استقلاله الـ 68 محكوماً عسكرياً وكيزانياً بمعنى أن مركز ثقل السلطة الفعلية كان في قلب المؤسسة العسكرية وهذه المؤسسة على مدى ثلاثين عاماً احتلت مفاصلها القيادة “الكيزانية”.

حتى بعد ثورة ديسمبر المجيدة كانت المؤسسة العسكرية الضخمة غير خاضعة للسلطة المدنية بل مستعلية عليها بالسلاح وبحكم سيطرتها على جل الموارد الاقتصادية.

وهذا أمر واقع أنتجته عقود طويلة من الهيمنة العسكرية على الحكم ثم الهيمنة الكيزانية، وعندما حاولت قوى الثورة تغيير هذا الواقع بصورة إصلاحية متدرجة عبر الإصلاح الأمني والعسكري وتفكيك التمكين كانت النتيجة انقلاب 25 أكتوبر ثم حرب 15 أبريل.

في ظرفنا الراهن كل من يرفع عقيرته: يا أحزاب كفاية خراب فهو متورط بوعي أو دون وعي في عملية الغسيل المجاني أو مدفوع القيمة للكيزان والعسكر بكل تشكيلاتهم، مستخدماً في هذا الغسيل وسيلة الـ (blame shifting) ، أي تحويل اللوم من المجرم الأصلي إلى آخرين!

هذه الألاعيب مكشوفة لكل صاحب فطرة وطنية سليمة مهما أسرف المثقفون النافعون في الحذلقة والالتواء والأكروبات السياسية.

لا يمكن أن يتجرأ شخص طبيعي ويقول أن “الكيزان” والعسكر لم يخربوا السودان! الوسيلة الوحيدة لتبرئتهم هي تفريق دم إجرامهم بين الأحزاب بطرق ماكرة وخبيثة وضلالية توحي بأن هذه الأحزاب المفترى عليها هي صاحبة الدور الأكبر في تخريب البلاد وهي المسؤولة بشكل شبه كامل حتى عن هذه الحرب اللعينة! وهذا درك من الكذب الفاجر والتضليل الأرعن لا يمكن أن يتورط فيه من يمتلك الحد الأدنى من النزاهة واحترام الذات قبل احترام عقول الآخرين.

هذا لا يعني على الإطلاق أن الأحزاب السياسية السودانية لم ترتكب أخطاء استراتيجية في مسيرة السودان الوطنية منذ الاستقلال، فالنقد الجذري للأحزاب واجب في سياق تقويم تجربتنا الديمقراطية لا في سياق التواطؤ مع الاستبداد العسكري أو الكيزاني، فكل شعار لا بد من فحصه على ضوء السياق الكلي للصراع السياسي والمعطيات الموضوعية للواقع.

لدي ورقة منشورة في كتاب صغير ضمن سلسلة منشورات الفكر الديمقراطي بعنوان “ديمقراطيات بلا ديمقراطيين الأحزاب وثورة أكتوبر”.

هذه الورقة حملت حزبي الأمة والوطن الاتحادي كامل المسؤولية عن انهيار التجربة الديمقراطية بعد ثورة أكتوبر لسبب موضوعي هو وجودهما على رأس السلطة في ذلك الوقت.

وهذا التوضيح مهم جداً لفيالق الحمقى التي ستتكالب على هذا المقال وتختزله في أنه تطبيل مغرض للأحزاب أو تملقاً لها لمصالح خاصة، وهذا في سياق التهرب من النقاش الموضوعي لانخراط مجموعات بعينها تمارس أقصى درجات المزايدة الثورية وانطلاقاً من هذه المزايدة تسرف في تعلية نبرة هتاف (يا أحزاب كفاية خراب) إلى أعلى مستوى.

والغريب المريب أنها فعلت ذلك أثناء مناهضة انقلاب 25 أكتوبر 2021 وأثناء حرب 15 أبريل 2023!.

الوسومرشا عوض

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: رشا عوض

إقرأ أيضاً:

هل دخل السودان عصر الميليشيات؟

هناك أكثر من سردية لبداية الحرب في السودان، ومن هو صاحب المصلحة في إشعال الحرب، لكن السردية الحكومية الرسمية تقول إن ميليشيا «قوات الدعم السريع» تمردت على سلطة الدولة وحاولت الاستيلاء على السلطة، فاضطر الجيش للتصدي لها. لكن حتى من يقول بتلك السردية يعترف بأن «قوات الدعم السريع» تكونت في عهد حكومة الإنقاذ الإسلامية، وكانت مهمتها هي القيام بالأعمال التي لا يمكن للجيش أن يقوم بها، بخاصة في دارفور التي كانت مشتعلة. وصدر قانون «الدعم السريع» في ظل حكومة الإنقاذ، وتم السماح لها بالتمدد من ناحية العدد ونوعية التسليح حتى صارت تشكل خطراً حقيقياً، ثم جاء الفريق عبد الفتاح البرهان وعدّل قانون «الدعم السريع» ليمنحها مزيداً من الصلاحيات، ويعطيها قدراً من الاستقلالية عن القوات المسلحة السودانية.

إذا افترضنا حسن النية في كل ما حدث، إن كان ذلك ممكناً، فالطبيعي أن يتعلم الناس من التجربة، ويمتنعوا عن تكرارها، على الأقل في المستقبل القريب، ويتجهوا ناحية تقوية الجيش الرسمي، وإعادة تأهيله وتسليحه وتدريبه ليكون القوة الوحيدة الحاملة للسلاح، ولكن ما حدث عكس ذلك تماماً.

أعلنت الحكومة الاستنفار، وكان المفهوم هو قبول متطوعين من المدنيين للالتحاق بالجيش. وفعلاً بدأ هذا العمل في عدد من الولايات، لكن في الوقت ذاته ظهرت «كتيبة البراء بن مالك» التابعة للحركة الإسلامية، وبدأت من جانبها فتح باب التجنيد وسط الشباب، واتخذت لنفسها شعاراً وراية مختلفين، وأدبيات مستوحاة من تاريخ الحركة الإسلامية وفصائلها المسلحة في العهد الماضي، ثم أعلنت حركات دارفور المتحالفة مع الحكومة تخليها عن الحياد وانضمامها لصفوف الجيش، مع فتح معسكرات للتجنيد والتدريب داخل وخارج السودان، وبالتحديد في دولة إريتريا المجاورة، ثم ظهر نحو خمسة فصائل من شرق السودان فتحت معسكراتها في إريتريا وبدأت تخريج المتطوعين. وكان الملمح الظاهر لكل هذه المجموعات المسلحة، بما فيها حركات دارفور وشرق السودان، هو الطابع القبلي للحشد والتعبئة والتجنيد.

الاختلاف الوحيد ظهر في منطقة البطانة، شرق الجزيرة، وولايتَي سنار والنيل الأزرق، حيث ظهرت مجموعات مسلحة انضمت لـ«الدعم السريع»، بقيادة أبو عاقلة كيكل في منطقة البطانة، والبيشي في منطقة سنار، والعمدة أبو شوتال في النيل الأزرق. وبالطبع كان الطابع القبلي لـ«قوات الدعم السريع» أظهر من أن يتم إخفاؤه؛ فقد اعتمدت بشكل أساسي على القبائل العربية في ولايات دارفور.

كانت التحذيرات تتردد من دوائر كثيرة، ليست فقط بين المجموعات المدنية التي وقفت ضد الحرب، ولكن حتى من بين صفوف السلطة والقوات المسلحة، واتفقت كلها على أن تمرد ميليشيا لا يمكن محاربته بتكوين عشرين ميليشيا أخرى لا تخضع بشكل مباشر لسلطة القوات المسلحة، وإنما لسلطة القبيلة.

بعد الانقلاب الكبير الذي قاده أبو عاقلة كيكل في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وانضمامه للقوات المسلحة مع قواته المسماة «درع السودان»، شنت «قوات الدعم السريع» حملات انتقامية على مدن وقرى منطقة البطانة وشرق النيل، وقتلت المئات من المدنيين، وشردت مئات الآلاف من قراهم، ونهبت متاجرهم وممتلكاتهم. ورغم السخط الكبير على كيكل باعتبار أنه كان مسؤولاً عن استيلاء «قوات الدعم السريع» على ولاية الجزيرة، فإنه استفاد من التعبئة القبلية في المنطقة وضاعف حجم قواته، واستطاع أن يحقق انتصارات كبيرة ضد «الدعم السريع».

مع تقدم الجيش وتحقيق الانتصارات سرعان ما بدأ صراع الفصائل يظهر على السطح، بخاصة من خلال صفحات «السوشيال ميديا»، بين مجموعات «القوات المشتركة» المكونة أساساً من حركات دارفور المسلحة، وقوات «درع السودان» التي تمددت في منطقتَي شرق وغرب الجزيرة حتى غطت على ما عداها، ومجموعات الكتائب الإسلامية التي أحست بوجود منافسة مبنية على الأساس القبلي والمناطقي تحد من تمددها في المناطق المختلفة. وتحولت الانتقادات إلى اتهامات بالفساد وارتكاب الجرائم والتصفيات، ووصلت لمرحلة تبادل اتهامات الخيانة والعمالة. وتزامن ذلك مع تبني البرهان وأركان الحكومة لما يُعرف بـ«خريطة الطريق» لمرحلة ما بعد الحرب، والتي أعدتها قوى سياسية ومسلحة متحالفة مع البرهان لم تشرك الحركة الإسلامية في إعدادها. وتضمن «الخريطة» للبرهان حكماً مطلقاً خلال فترة انتقالية قادمة، رأت فيها بعض الفصائل إنكاراً لدورها في الحرب.

الخطر الذي يخشاه السودانيون هو تحول هذه الصراعات الإسفيرية إلى صراعات ميليشيات مسلحة على الأرض، وهو ما بدا ظاهراً الآن؛ إذ تحول السودان إلى «كانتونات» تدخل البلاد في دوامة لا يعرف أحد حدودها وخطوط نهايتها.

فيصل محمد صالح
نقلا عن الشرق الأوسط  

مقالات مشابهة

  • حماس: الإدارة الأمريكية طرحت إطارا للاتفاق وهذا هو المطلوب الآن
  • تجربة درع السودان وتجارب كل التشكيلات العسكرية التي ساهمت (..)
  • ارتفاع أسعار المنتجات الأميركية بسبب الحرب التجارية التي أطلقها ترمب
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (1)
  • اختفاء 2000 شخص فى السودان منذ بدء الحرب
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو
  • هل دخل السودان عصر الميليشيات؟
  • السلاح والغذاء في حرب السودان
  • الدول التي تدرس إدارة ترامب فرض حظر سفر عليها
  • وزير خارجية مصر يكشف الجهة التي ستتولى الأمن في غزة