من الناس من ينعم بطيب العيش، أو على الأقل الحد الأدنى منه، ومع ذلك يرتدي دائما عبوساً ثقيل على النفس، غير مستساغ. فإذا سألته عن أحواله أطرق برأسه وأطلق تنهيدة حارة قبل أن يجيبك بأسى. ولا أتحدث إطلاقا عن حالة عابرة، أو أمر طاريء، فكلنا قد يمر بهذه الفترات، ولكني أتحدث عن أناس – عافانا الله – شكائين بكائين، حتى وهم في أسعد أوقات حياتهم.
ولا أقصد أبدا إطلاق الأحكام، فالله أعلم بحال الجميع، وما قد يعانونه، ولكن ما أريد تسليط الضوء عليه هو نوع آخر من الأشخاص، الذين تعرف عن حياتهم ما تنوء بحمله العصبة أولو القوة، ومع ذلك يستقبلونك بابتسامة مبهجة مجيبين عن سؤالك عنهم بأنهم في "زحام من النعم"، أو في "بحر من النعم"، وهو تعبير جميل ينم عن رضا وحمد محببين إلى الله وإلى النفس. وقد علمنا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمر المؤمن كله خير، وذلك في قوله: ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) .
يتحدث هؤلاء، فيأتي صوتهم محملاً بأزهار وفراشات، ما أن تسمعه قادماً من بعيد حتى تبتهج . فهم يثيرون التفاؤول والطاقة الإيجابية في المكان، يمنحون الابتسامات ولو خفي في قلوبهم ما خفي من الهموم. يتحدثون برضا، ويمنحون الأمل. هؤلاء الاشخاص في حد ذاتهم هم نعمة من نعم الله علينا، وهم واحة نستظل فيها من متاعب الحياة لنتمكن من مواصلة السعي.
ومن الناس من يحمل في صدره ودا وفي لسانه ورداً، يتمتع بسلامة الصدر، فلا يستنكف أن يقول عن الجميل أنه جميل، وأن يذكر للمجتهد أنه مجتهد، وللمتميز أنه متميز، يفرح بوصول الأقران، ويصفق لنجاح الآخرين. يرى ما بداخل الناس من جمال، ويمكنه أن يغض الطرف عن عيوبهم التي يمكن أن تمر أو تُحتمل. هؤلاء الناس، تشي نظرتهم للآخرين وحديثهم عنهم بجمال روحهم. وهم ينشغلون بحالهم، فلا يعطلهم مراقبة حال الآخرين، ويعملون على تطوير وتحسين أنفسهم، فلا يعنيهم الفرح في عثرات غيرهم، أو البكاء على اللبن المسكوب، أوتهويل الأمور وتقليب الهموم.
ويحدثنا عالم النفس ومؤسس العلاج المعرفي السلوكي "ألبرت أليس" عن مجموعة قناعات غير منطقية وأفكار غير عقلانية، لا تتماشى مع الواقع، وقد تعيق تحقيق الأهداف، وتؤدي إلى الاضطرابات النفسية ، ولها مؤشران رئيسيان وهما: "المبالغة" أو "الكارثية" في استقبال الصدمات ، و"الوجوب" بما يعني أن الأمور يجب أن تسير كما يريد الشخص بشكل مطلق. تتضمن تلك الأفكار أن الحياة لابد وأن تكون سهلة طول الوقت بدون أي نوع من عدم الراحة، وجميع الناس لابد أن يتصرفوا كيفما يراه الشخص صحيحا وإلا فإنهم سيئون ويستحقون العقاب ، وأن تعاسة الشخص تتعلق بالظروف الخارجية، ولا يستطيع تغيير شخصيته أو رد فعله. وعلم النفس يقول أن الحدث يتسبب فقط في نسبة قليلة من التأثير، أما النسبة الأكبر فتعتمد على رد فعل الشخص نفسه وكيفية استقباله للأمر.
ولا أدعي المثالية أو "الآلية"، فأنا أحزن، وأغضب، وأقوم، وأسقط، وأرمم نفسي وروحي من جديد، ولكني أحاول دائما، وأجتهد لرؤية الجزء الإيجابي لأي حدث، ولعدم الاستسلام لأي شعور سلبي لفترة طويلة. وأنا من الشخصيات التي تنزعج للأسف من المفاجآت أو التغيرات المفاجأة، ولكن ما يسعدني هو إدراكي لهذا الأمر، والعمل على محاولة تغييره، إلى جانب التسامح مع نفسي بقبول بعض الضيق، أو منح نفسي بعض الوقت حتى أتأقلم مع حدث مفاجيء، أو حتى يمر أمر مزعج، بيقين من أن الله سيجعل كل شيء على ما يرام.
باختصار، لا يوجد إنسان لا يعاني، أو ليس لديه مشكلات، أو يعيش حياة مثالية باستمرار، أو يرتاح مع جميع الأشخاص في محيطه، وإنما لكل منا تحدياته وعقباته وعثراته. فإذا عرفنا أن الدنيا دار ابتلاء وسعي واختبار، وأن النعيم الدائم الكامل في الجنة – رزقنا الله إياها - وليس في الدنيا، لتعاملنا مع المشكلات بشكل مقبول لا مبالغة فيه، مدركين أن الرضا والتسليم لأمر الله وحمده وشكره، هو الخير، و كل الخير.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
الأسبوع الثالث للدعوة يختتم فعالياته بسوهاج بمحاضرة حول دور الشباب بين عمران النفس وعمران الكون
اختتمت الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية، أسبوعها الثالث بجامعة ومساجد ومراكز شباب محافظة سوهاج، اليوم، بمحاضرة حول دور الشباب ببن عمران النفس وعمران الكون، والتي عقدت بجامعة سوهاج.
وقال الدكتور محمود الهواري، الأمين العام المساعد للدعوة والإعلام الديني بمجمع البحوث الإسلامية، إن مضاد كلمة العمران الإبادة والخراب، وأمة الإسلام ليست مخيرة في مسألة العمران وإنما مكلفة به، وإن كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس؛ فخروجها للناس لا يعنى التفرد والتميز عن باقي الأمم بلا قيد، بل بتَحمّل المسؤولية والعمل والإخلاص والإصلاح سعيا لعمران الأرض.
وأضاف أمين الدعوة والإعلام الديني، أن التدين ليس مجرد عبادة في المساجد؛ وإنما العبادة في المساجد جزء من التدين، والتدين الحق هو الإصلاح وعمارة الأرض، والناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن النبي المعلم دائما كان يعطي دروسا لأصحابه في حب العمل وإعمار الكون، فكان يوجه الصحابة للعمل بما يناسب قدراتهم حتى لو كانت زهيدة، كالرجل الفقير الذي أمره أن يحتطب وألا تمنعه قلة حيلته وضيق رزقه عن مواصلة العمل، وفي ذلك نموذجا في حسن القيادة وحسن التوجيه نحو العمل والاستثمار، لترسيخ أن العمل واليد العاملة هي من أساسيات فقه العمران.
من جانبه، أوضح الدكتور أحمد همام، مدير عام الإعلام بأمانة الدعوة بمجمع البحوث الإسلامية، أن العمران الحقيقي له دعائم، ومن دعائم العمران سواعد الشباب وإرادته الواعية، شريطة أن يتقرب الشباب من الله، فكم من إنسان تعلم وقدم ولم يُخلّد ذكره أو يُحفظ اسمه، موضحا أن أول خطوة من خطوات البناء والعمران هي أن يقرأ الشباب ويتفقه في فقه العمران والعمل، وقبل إعمار المجتمع يجب على الشباب أن يعمر نفسه أولا، مشيرا إلى أنه لا يكفي الدعاء والتضرع لله لإتمام العمران دون عمل وسعي، بل على الشباب أن يجمع بين السعي والعبادة والاستمرار في طاعة الله، حتى يشتد العمران ويكون المجتمع في أبهى صورة.
وشهدت المحاضرة تفاعلا كبيرا بين علماء الأزهر وطلاب الجامعة، حيث تم فتح باب النقاش والأسئلة، ومن الأسئلة استفسار الشباب عن مدى تأثير الإعلام والثقافة في عمران المجتمع؟ أجاب الهواري، أن النفس البشرية أعقد من أن نحيط بأسرارها، وأصبحنا اليوم نقلد غيرنا تقليدا أعمى بسبب أننا محتلون عقليا، ناصحا الشباب أن لا يملكهم فكر، إلا ما أمرنا الله به، ولا يسلموا لرأي دون مصادرنا الأساسية وهي مصادر الشرع، وعلى الشباب أن يسأل نفسه من أنا وماذا أريد؟، وليعلم الشباب أن الله أعطاه الحرية وكرمه بالعقل والتمييز، مشددا أن الإسلام إذ أمرنا بالتفكير، فإنه يأمرنا أن يكون تفكيرا مفيدا بناء، وفي حال الاطلاع على آراء وثقافة الغير، يجب أن نتحقق من صحة المصادر والمعلومات وكونها ليست موجهة.
حضر الندوة الدكتور حازم مشنب عميد كلية العلوم جامعة سوهاج، نائبا عن رئيس الجامعة، كما حضر عمداء وأساتذة الجامعة، ولفيف من علماء الأزهر الشريف، وشهد المحاضرة عدد كبير من طلاب وطالبات جامعة سوهاج.
تأتي لقاءات «أسبوع الدعوة الإسلامي» الثالث، التي انعقدت على مدار هذا الأسبوع في رحاب جامعة ومساجد سوهاج، في إطار مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي،" بداية جديدة لبناء الإنسان"، وتهدف إلى إعداد خريطة فكرية تتناول بناء الإنسان من جميع جوانبه الفكرية والعقدية والاجتماعية، وترسيخ منظومة القيم والأخلاق والمُثُل العليا في المجتمع، وذلك بمشاركة نخبة من علماء الأزهر الشريف.
IMG-20241120-WA0071 IMG-20241120-WA0102 IMG-20241120-WA0073 IMG-20241120-WA0074 IMG-20241120-WA0078 IMG-20241120-WA0101 IMG-20241120-WA0100