«فى ليلة حالكة السواد»، شديدة البرد، خرج ستة من المصريين يتقدمهم رجل كأن الله خلق الاستقامة من قوامه، والهيبة من وقع أقدامه، رجل توّجه الشيب شيخا جليلا، فبلغ من العمر كثيرا، ولم يبلع منه العمر كثيرا ولا قليلا، هذا الرجل هو سعد زغلول، وكان بجوار سعد رجل مد إلى الأمام صدره، كان يرى فى عينيه فكرة عدو يتحداه ولا يخشى خطره، وهذا الرجل هو مصطفى النحاس، وإلى جوارنا ثلاثة اختارهم الله قبلنا إلى خير الجوار، هم المغفور لهم المُبكى عليهم عاطف بركات باشا وسينوت حنا بك وفتح الله بركات باشا، وكان حولنا نحن الستة ضباط وجنود من الانجليز، فسرنا وساروا معنا من معسكر الجيش الانجليزى فى السويس إلى ميناء السويس فى طريقنا إلى المنفى البعيد، إلى المجهول المجيد!
هكذا يتحدث مكرم عبيد عن منفى جزيرة سيشل، وهى إحدى جزر المحيط الهندى، الذى اعتقل فيه الانجليز سعد ورفاقه.
ويواصل: ولما وصلنا الميناء وجدنا زورقا أعدته السلطة العسكرية الانجليزية لنقلنا إلى الباخرة فى وسط البحر، فركبنا الزورق الصغير ولم يكن فيه إلا نحن الستة وعدد كبير من الضباط والجنود الانجليز، وبحار مصرى واحد بجوار الدفة.. وبينما نحن فى الزورق فى طريقنا إلى الباخرة سمعنا فى سكون الليل هامسا محتبسا، فنظرنا وإذا بالبحار المصرى الجالس بجوار الدفة قد وضع رأسه بين يديه وهو يبكى بكاء مرا.
نظرنا إليه ونحن لا نكاد نملك حواسنا، ونظرنا فإذا بالضباط الانجليز مطرقو الرؤوس خاضعون أمام هذا البكاء الطاهر الملىء بالمعانى.
بكى الرجل فسرى البكاء منه إلى نفوسنا، حتى ذهبت شعاعا وانحدرت دموعا.. فوالله لقد أحسسنا أن مصر، وقد رأت قائدها وأركان حربه مأسورين، قد بكت فى هذا الرجل أسرها، وتوسلت به إلى الله تطلب نصرها.
بكى الرجل فاقترب إليه أحدنا وحاول أن ينفحه مبلغا من المال يعينه على عيشه، فرمى الرجل بالمال من يده وكأنه نار تحرقه، رافضا أن يأخذ لبكائه ثمنا، وأن يستعيض عن شعوره مالا أو بدلا.
لا أذكر من اسم هذا الرجل إلا أنه «محمد» ولكنى أعرف أن الوطن تجسد فى «محمد» وأنى ما حييت سأذكر أن «محمدا» بكانى وأن «محمدا» أخاني!
وفى سيشل، الجزيرة النائية، القائمة وسط الأوقيانوس العظيم، الحارة الرطبة فى آن واحد، تلك الجزيرة الخاملة التى اشتهرت بسعد كما كانت جزيرة القديسة «هيلانة» فى المحيط الأطلسى، على الجانب الآخر من أفريقيا خاملة فاشتهرت بنابليون، تبارى الحب فى مبالغة الإيثار، وتنافس الإخاء فى إنكار الذات، وتزاحم الإخلاص على التضحية، وتدافع الوفاء عن الحاجة إلى التلبية، وفى سيشل تلك القطعة النائية فى بهرة المحيط، اجتمعت فى ستة أصدقاء أخوة أعزاء أبرار، كل الأسنان ومختلف الأعمار، شيخوخة وكهولة وشباب، كلها فى ذاتها متفانية، وكلها على بعضها حانية، والجميع تسرى عنهم أشد الألم روحانية عميقة مواسية، فهم فى سياحة من سياحات النفوس، مهما تلقى من عذاب، ومهما تصادف من محن وأحوال وخطوب، نجد عزاءها البليغ فى رفقتها، وسلوتها الحاضرة، فى شركتها، وكلما كان الخطب موزعا هان، وكلما كان الألم مشتركا راح المحتمل اليسير.
فى سيشل جرت قصة من أروع القصص، قصة الحب الإنسانى فى أسمى مراتبه، وعليا درجاته، وأروع صوره وآياته، وهو الحب الأخوى فى خاصة ذاته، والحب الوطنى فى عمومياته، وقد تلاقى الحُبان فى نفوس ستة أبطال شجعان، فعرفوا بذلك الحب المزدوج العظيم كيف يصبرون لأشد الألم، ويتجلدون لأقسى العيش، ويصمدون لأعنف البلاء والامتحان.
إن ذكريات سيشل لتذخر بأعجب الأمثلة على الإنسانية الرفيعة إذ تمتحن بالألم، وعلى الأخوة الوفية إذ تبتلى بالشدائد، وعلى الرفقة فى العذاب إذ تبتسم للعذاب، وعلى النفوس العالية كيف يزيدها تقاسم الآلام علاء.
لقد كانت أيام سيشل عهد كرب ونكد، وصبر وتجلد، وأرق وتسهد، ولكن كانت أيام مجد لـ«سعد» وأصحاب «سعد»، وقد اندمج هذا المجد فى معانى الخلد، بالنسبة للذين رحلوا من هذه الحياة بعد سعد وبقى هو قائما إلى اليوم لمصطفى ومكرم، هو جوازهما إلى كل قلب، ومدخلهما على كل نفس وسبيلهما إلى كل عاطفة.
فعلا.. لقد أثبت الزمن أن الوفد عقيدة تتفانى فيها الأشخاص، وتختفى فيها الفردية، ويبرز فيها الإجماع فكان ذلك كله هو سر قوتها وباعث جلالها وروعتها.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: محمود غلاب حكاية وطن المصريين سعد رجل مصطفى النحاس هذا الرجل
إقرأ أيضاً:
«درس البيانو» والرقصة المميزة
«... من أجل هذه الأعداد المتزايدة من المشاهدين السود، أصبح من الممكن صنع أفلام خاصة بهم، يُخرجها زنوج ويُمثلها زنوج، وتدور موضوعاتها حول المسائل التي تهم الزنوج...».
(رؤوف توفـيق، السود فـي السينما: رحلة طويلة من السخرية إلى الاعتراف، مج الدوحة، العدد 4، 1980م)
(1)
لا شك فـي أن الأمريكيين السود قد أدوا دورًا كبيرا فـي تطور السينما الأمريكية وقضاياها، والناظر إلى الفـيلم الذي عرضته قناة نتفليكس مؤخرًا (درس البيانو) بتوقيع أسرة الممثل الأمريكي دينزل واشنطن، سُيدرك المدى الذي تعكسه سينما أمريكية سوداء متطورة وتقدمية فـي أطروحاتها وعن طريق سعيها لتأسيس سينما مغايرة، تُفكك ما سعت إلى تكريسه سينما الرجل الأبيض لموضة أفلام تستند إلى بطولات خارقة وتهميش للآخر واستعلاء ضد الأقليات، ويمكن القول إن سينما الرجل الأسود دفعت السوق الأمريكي، وأرغمته لإفساح المجال ليقدم قضاياه، ويروي ملاحمه وسيرته وتاريخه المبني على الاستعباد والاسترقاق ومحو ثقافته وهُويته وقيمه، وكل ذلك يتضّاد مع صورة الرجل الكاوبوي أو الآلي ومقولة الحُلم الأمريكي الخادعة.
بين فـيلم (مولد أمة - 1915م) للمخرج الأمريكي (ديفـيد جريفـيث) وفـيلم (درس البيانو- 2024م) لمخرجه (مالكوم واشنطن) هناك كفاح طويل بذله السود ليحققوا الاعتراف بهم إنسانيًا وإنتاجيًا، وما أن انتهيت من مشاهدة الفـيلم حتى زفرت زفرة حارقة! ألهذه الدرجة يستفزنا الميراث المحقّر للعبودية؟
«درس البيانو» هي فـي الأصل مسرحية ألفها أوجست ويلسون فـي عام 1987م، بينما تجري أحداثها فـي عام 1930م، ونستعيد هنا بإعجاب هائل قدرة الفن السينمائي الانتقال بحرية وبهجة وجمال ليضع المشاهد فـي داخل حال من التوتر على إثر الصراع الحاصل ما بين ماضي الشخصيات الذي لم ينقطع والحاضر الذي لا يريد أن يمضي بسهولة ويُسر، وإذا كان هذا هو حال السينما، فإنّ للمسرح قوله الفاصل.
البيانو كآلة «اخترعت فـي نهاية القرن السادس عشر، ومعناها بالإيطالية (لين)؛ الآلة الجميلة التي تليّن القلب، وتسلب المشاعر بدق العازف على اللونين الأبيض والأسود، فـيمكن لعمر كامل أن يُختزل فـي لحن، وقد ترتبط أحزان بشر وأفراح حضارات على نغماته». (نهى محمود، البيانو.. عزف المصير ونغمات القدر، جريدة الفنون العدد 168/ 2015م)، وبناء على ذلك، نسأل أنفسنا: كم من أعمار مرت على (بيرنيس) التي ظلت ترفض نسيان الماضي وعدم التضحية بمكتسبات الحاضر كلها، فتعلّم ابنتها (ماريثا) وتحرص على أن تكون فتاة متعلمة تعليمًا جيدًا، وتلتزم بالإتيكيت، إن بيرنيس تدخل فـي صراع مع زمن العبودية والاسترقاق، استنادًا إلى جملة المؤلف التي جاءت على لسان عمها (دوكر) القائلة: «بيرنيس لن تبيع البيانو؛ لأنّ أباها مات بسببه».
شدني إلى الفـيلم مستويات متداخلة؛ كالسيناريو، وأداء الممثلين وزوايا التصوير واختيار كادرات معبرة عن العودة بالزمن إلى الخلف، والحوارات الطويلة الأقرب إلى المونولوجات، والموسيقى، ولا أقلل من استمتاعي بأداء عمّيها (دوكر وواينينج بوي)، وأخيها (بولي ويلي)، وصديقه (لايمون) لأغنية «يا إلهي بيرتا» حيث كانوا يدقون على الأرض بأقدامهم وفق إيقاع تنغيمي ألهب الكلمات شرارة، وجعل حناجرهم المشحونة بالآهات والأحزان لا يضاهيها أي غناء، وحسنا فعل المخرج أن أفرد للأغنية تلك المساحة الأقرب إلى المسرح.
(2)
حمّل المخرج الممثلة (دانييل ديدوايلر) التي أدت شخصية (بيرنيس) بعضا من حمولة التيار النسوي، فهي تبعًا لمنظور الفـيلم رسمت بانفعالاتها وتوترها أفكار التيار عن طريق إحساسها بعبء الصراع التاريخي الأسود المنقوش بالصور على البيانو، وإذ نشاهدها مرات عدة تقف شامخة ظاهريًا تدافع بقوة عن تمسكها بقيم الماضي، لكنها تخفـي انكسارًا وهشاشة داخليين لا يمكن التقليل من تأثيرهما فـي شخصيتها وهي تعيش مع أشباح الرجل الأبيض (ساتر) الذي أُلقي به فـي البئر دون معرفة الفاعل، وبالتوازي نشاهد كيف أن اللعنة التي تسكن بيتها متصلة بالبيانو نفسه الذي سرقه والدها، الذي ظل يعتقد حتى قبل وفاته «أن البيانو حكاية عائلتنا كلها وطالما أن ساترًا يَملكه فهو يملكنا، كان لا يزال يستعبدنا».
وتبعًا لمنظور تيار النسوية، إن صراع (بيرنيس) الفعلي يتمثل فـي نظرتها إلى ذكور عائلتها، الذين تدينهم جميعا فـي حوارها مع أخيها: «أنظر إلى البيانو، لمّعت أمنّا أولا هذا البيانو بدموعها لمدة 17 عاما؛ كانت تنظفه وتلمعه حتى نزفت يداها... تذكرُ دوما أباكَ، لكنكَ لا تُفكر أبدًا فـي الثمن الذي دفَعتُه أمك بسبب حماقته... أنظرُ إليكَ وأجدُك مِثلهَم تماما، مثلكَ مثلُ أبينا بوي تشارلز، واينينج بوي، ودوكر، وكراولي، كلكم سواء، كل هذه السرقات والقتل، وإلى أين قادكم ذلك؟ إلى المزيد من القتل والسرقات، بلا أيّ فائدة، يحترق الناس ويُردون ويَسقطون فـي آبارهم، ولن يتوقف الأمر أبدًا»، فالرجال تبعا للفقرة السابقة يتزاحمون للوصول إلى أفعال السرقة والقتل، فهم عبيد لما يجعلهم أكثر امتلاكًا وقوة، وانطلاقًا من هذه الرؤية يرفض أخوها الحفاظ على البيانو؛ بسبب «القيمة العاطفـية» التي تدافع عنها أخته، فـي المقابل وعلى نحو المتيقن الذي يضرب بالقيمة تلك إلى عرض الحائط يقول للطفلة (ماريثا) ابنة بيرنيس بكلمات بليغة: «النقوش هي عائلتك ودمك».
وينبغي ألا نذهب بعيدا، فأخوها هدفه تحويل الأشياء والقيم إلى سلعة، إنه ابن اللحظة التاريخية التي يملكها الرجل الأبيض، وتعصف أمواله ونفوذه بالحضارة كلها، ولهذا كان على بيرنيس الدفاع عن البيانو؛ لأن نقش صور أجداد طفلتها ماريثا سيمنع محاولات التحريف أو التشويه التي يمكن للأبيض فعلها كما يفعل بشكل دائم تجاه الأقليات.
تقدم حوارات بيرنيس الموجهة تجاه عائلتها، في لحظات قوة أو ضعف أو رعب وخوف، دفعة ضرورية بالوعي العرقي للمشاهد القابع أمام الشاشة. وجاء كلامها معهم في لغة احتجاج ممزوجة بنقد نسوي، وفي مشهد تُبين بيرنيس لابنتها وهما خارجتان من البيت ترتديان ثيابًا رسمية، أن تنتبه إلى مسح الدهان عن شعرها، في هذه الجملة: «ماريثا، اصعدي وأحضري محفظتي، وامسحي مرطّب الشعر عن جبهتكِ، هيا أسرعي»، وفي موضع آخر: «اذهبي واستعدّي لأصفف شعرك»، وحينما تخبرها ابنتها أن مرطّب الشعر قد نفد، تمنحها نقودًا لتشتري جديدًا.
إن عنصر الشعر الإفريقي المجعّد وسعي المرأة للبحث عن تنعيمه إحدى وسائل العناية الواجبة بالمظهر العام لطفلة عليها ألا تقع فـي نقد موجَّه إلى أي شيء فـيها شعرها ولونها، إنها أحد ظلال المعاني السلبية الخفـية فـي لا وعي بيرنيس.
من الجميل فـي الفـيلم أيضا، أن أصوات النساء السوداوات لا تظهر فـي الفـيلم، بل إننا لا نسمع صوتا لامرأة سوداء عدا بيرنيس، فإخفاء أصواتهن ومعهن إخفاء صوت أوفـيليا التي رغبة من زوجها (روبرت ساتر) أن يهديها بمناسبة زواجهما البيانو هدية، فاضطر بسبب عدم وجود المال معه إلى أن يقايض (نولاندر) مقايضة فـيأخذ زنجيا ونصف مقابل البيانو، وسيعطيه واحدا كبيرا وواحدا صغيرا! فهذه المرأة، لم تكن تفعل شيئا سوى النهوض فـي الصباح والتأنق والجلوس إلى البيانو وتعزف، إن إخفاء أصوات النساء جميعهن والاقتصار فـي ظهورهن على تقنية الفلاش باك أتاح لبيرنيس ومنظورها الذي تطلق منه تحت وطأة الشعور بثقل التاريخ أن تجسّد وحدها القيمة المعنوية لمعاناة السوداوات، وما قدمته؛ أمهاتها وقريناتها من وظائف ومهن وأدوار عبر التاريخ الشائن، لأجل نيل حريتهن.