تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
لعله عصف ذهني، بالرغم من الهدف العميق، النبيل والإنساني.
كان ذلك في آخر التسعينيات، حين لفت نظري عنوان لندوة، أو ملف يجري الاستكتاب فيه:
تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي
وحين قمت "بجوجلة العبارة، لم أجد إلا هذه العبارة: * تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي: بحث مقدم لمعهد جوته، برلين، 1999م.
إذن كن ذلك عام 1999، وإذن فقد مر 24 عاما على قراءتي لهذا العنوان، الذي لم يغب عن البال، والذي كان يتجدد مع كل ما له صلة بمضمونه، أكان ذلك يخص النزاعات والحروب، أو أساليب الحياة، بين الماضي والحاضر، أو حتى تفسير الحوادث الشخصية والاجتماعية.
لم أقدم وقتها ملخصا للمشاركة، ولكن على مدار أشهر، كنت أردد العبارة، وزاد ذلك مع اندلاع الانتفاضة الثانية، التي دخلنا فيها مرحلة صعبة من الصراع هنا، على هذه الأرض.
تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي..
لعلي، وتسهيلا عليّ، بدأت بالنصف الثاني من العبارة: تحرير المستقبل من الماضي، حيث يمكن فهمها، من باب ألا يلقي الماضي معيقات على العيش معا في المستقبل. ارتحت لهذا الخاطر الإنساني الضروري، العملي والاستراتيجي.
أما تحرير الماضي من المستقبل، فطال تفكيري بها، وفي كل مرة كنت أعمل فكري، حتى إذا كنت أمشي مفكرا بها، همست لنفسي كما فعل أرخميدس: وجدتها!
إنه تحرير دراسة التاريخ من تأثيرات المستقبل. أي دراسة التاريخ بتجرد وموضوعية، لأن ذلك هو من سيضمن استمرار مستقبل إنساني أفضل.
التاريخ إذن!
تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي..
ضرورة، وتحد عال، وسؤال وجودي، ومقترح إجابة.
إذا أردنا فهلا تحرير المستقبل من الماضي، فعلينا فعلا أن نحرر الماضي من تحولات المستقبل، وكلما كنا أمينيين وأمينات على المستقبل فعلا، فإننا سنتحرى الصدق، ونستقصي الحقائق في كل ما يتعلق بالماضي-التاريخ، كذلك والحاضر الذي يصير كل يوم ماضيا.
من أهداف تعليم التاريخ، ودراسته هو تحرير الإنسان فعلا، وجعله أكثر قوة، بحيث يضع قدميه على أرض أكثر قوة.
ولعل أصعب أنواع التأريخ والتوثيق، ما يخص ذلك وقت الصراعات، حيث سيشكل ذلك تحديا، وسيصعب على الجيل الحالي المكتوي بنار الآلام مثلا أن يكون محايدا. لكن بالطبع، فإن المحترفين من المؤرخين، سيلتزمون الموضوعية وتحري الصدق: لقومهم وعليهم.
نحن مدعوون جميعا لتوخي الصدق، متذكرين ومتذكرات ما حدث من نتائج الصراعات الدولية والاجتماعية بل والنفسية في كل منّا.
في ظل معرفة الحق والصدق، وفي ظل الهدف السامي المتمثل بتحقيق العدالة، وعيش سلمي للأفراد والجماعات، فإن فهم التاريخ يجب ألا يقود لإطلاق الحكم على البشر الان، حتى ولو كانوا أحفاد طرفي صراع: أحفاد العدو، خصوصا إذا كان الأحفاد قد وعوا ما كان، دون الإغراق في جلد الذات أو الشعور بالذنب، لأن الأفضل هو البحث عن التعاون لتنظيم عيش الناس.
ليتني أتحصّل على أوراق مؤتمر معهد جوته الذي عقد كما يبدو في برلين عام 1999.
وبرلين هذه التي وعينا عليها مقسمة أو الشباب، شهدنا في وقت قريب من شبابنا، موحدة. كان ذلك ونحن طلبة على مقاعد الجامعة، في سنوات الرومانسية العاطفية والسياسية، الأقل تعقيدا، والأكثر قبولا للبشر.
كان سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1989، حيث كان حدثا محوريا في تاريخ العالم الذي شهد سقوط الستار الحديدي. فسقطت الحدود الألمانية الداخلية بعد فترة وجيزة. وتم إعلان انتهاء الحرب الباردة في قمة مالطا بعد ثلاثة أسابيع، وتمت إعادة توحيد ألمانيا خلال العام التالي.
كان الجدار برلين خرسانيا محميًا ومحروسّا يفصل برلين الغربية عن برلين الشرقية وعن المناطق المحيطة ببرلين الغربية في ألمانيا الشرقية، بهدف تحجيم المرور بين برلين الغربية وألمانيا الشرقية. بدأ بناؤه في 13 آب أغسطس 1961، وجرى تحصينه على مدار الزمن، فقد اشتمل على أبراج حراسة موضوعة على طوله، مصحوبة بمنطقة واسعة (عُرفت فيما بعد باسم "شريط الموت") تحتوي على خنادق مضادة للمركبات، ودفاعات أخرى. فتح في 9 نوفمبر 1989 وهدم بعد ذلك بشكل شبه كامل.
وما زال جيلنا يتذكر هدم البرلينيين الجدار الفاصل بين برلين الشرقية والغربية، والذي أدى لعودة ألمانيا دولة موحدة. وعلمنا فيما بعد أن ألمانيا الغربية، كانت قد وضعت ميزانية مالية من سنوات طويلة قبل هدم الجدار، استعدادا لمثل هذا اليوم، بسبب الفجوة الاقتصادية بين البلدين. وعلمت أثناء زيارتنا لكوريا الجنوبية، أنها تضع ميزانية خاصة استعدادا ليوم الوحدة بين الكوريتين.
- .......................؟
- لم أبعد كثيرا!
هنا، وليس فقط من منظورنا كفلسطينيين، بل من منظور أي باحث محايد وموضوعي، حتى لو كان إسرائيليا، فإن الحق واضح جدا، حتى ولو وصلت إسرائيل أوج مجدها العسكري والاقتصادي، المدعومة من معظم الأقوياء في العالم، فإنها دولة لصة ظالمة، سطن وتسطو على أرض الفلسطينيين، وأن كل ما يقال عن تاريخ قديم، إنما هو تاريخ محتلق وغير صحيح، وحتى لو كان كذلك، فإنه قديم، ولا يعني شيئا للأصلانيين للذين يعيشون هنا.
تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي..
في جدل حول التاريخ الفلسطيني بمنظورنا، ومنظور الاحتلال، يمكن الاستماع لكل طرف ما يقدمه من سردية تاريخية، تتعلق بالتاريخ القديم، والحديث، ثم يدعى العلماء المختصون، والمؤرخون المجمع على صدقهم، ونزاهة منطلقاتهم، ليدلوا بدلائهم، من الفلسطينيين ومن الإسرائيليين، ومن آخرين موضوعيين، حتى نفهم معا ما كان فعلا، ثم لنعرف ما كان حديثا، بدءا بالمشروع الصهيوني، ووعد بلفور، وتهجير اليهود إلى فلسطين، وما كان ويكون من صراع.
إن النتاجات التاريخية الأمينة والمجمع عليها، تقصّر الطريق بهدف إحداث تحولات لدى الأجيال، في ظل أن الجيل الجديد أخلاقيا لا يتحمل وزر ما كان، لكن عليه مسؤولية تحمل مسؤولية ما يكون باتجاه عودة الحقوق لأصحابها. وخلال هذا كله، يجب وقف تدخلات صناع القرار العسكريين والأيديولوجيين الذي ينفون وجود الآخر.
وهكذا، فإننا سنحرر المستقبل من الماضي، في الوقت الذي نكون قد ضمنا بأمانة ومسؤولية سرد ما كان بشكل موضوعي، حتى لا يأتي أحد ليغيّر الرواية الحقيقية، لأن الصدق هو ما سيضمن تجنيبنا جميعا أية ويلات قادمة.
ما نحتاجه فعلا جميعا هنا: حسن النوايا، وصدق المثل الشعبي الفلسطيني: "صفّي النية وبات في البرية".
تلك هي مسؤوليتنا نحملها بنبل رغم ما بنا من جراح.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما کان
إقرأ أيضاً:
الإعلام بين الماضي والحاضر
يمثل الإعلام أداة أساسية لنقل الأخبار والمعلومات، وقد شهد تحولات جذرية عبر العقود، حيث تغيرت وسائله وأساليبه بشكل كبير، ما أثر على طبيعة العلاقة بين الجمهور والمحتوى الإعلامي. سنستعرض هنا أبرز الفروق بين الإعلام القديم والحديث وأثر كل منهما على المجتمع.
– الإعلام القديم.. تقاليد راسخة ومصداقية عالية
يتجسد الإعلام القديم في الوسائل التقليدية؛ مثل الصحف، والمجلات، والإذاعة، والتلفزيون، التي كانت- ولا تزال- تعتبر مصادر موثوقة للأخبار والتحليلات. لعب هذا النوع من الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام خلال القرن الماضي.
– خصائص الإعلام القديم
إيصال الرسالة بشكل أحادي الاتجاه: يعتمد الإعلام القديم على نقل المعلومات من المصدر إلى الجمهور دون تفاعل مباشر.
ومواعيد محددة للبث أو النشر: تُقدم الأخبار والبرامج في أوقات معينة، مما يتطلب من الجمهور انتظارها.
والتدقيق المكثف للمحتوى: تخضع الأخبار لعمليات تحرير ومراجعة دقيقة، مما يعزز المصداقية.
علاوة على جمهور محلي أو إقليمي: محدودية الوصول بسبب القيود التقنية والجغرافية.
في حين أن الإعلام الحديث يتسم بالسرعة والتفاعل.
فقد ظهر مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ مثل فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، بالإضافة إلى المواقع الإخبارية والتطبيقات الذكية. أدى هذا التطور إلى ثورة غير مسبوقة في نشر المعلومات وتلقيها.
– خصائص الإعلام الحديث..
التفاعل المباشر، حيث يمكن للجمهور المشاركة في النقاشات عبر التعليقات والمشاركات، ما يخلق تجربة ديناميكية.
والنقل اللحظي للأخبار، حيث تُنشر الأحداث فور وقوعها، ما يجعل العالم أكثر ترابطًا، فضلاً عن انتشار عالمي واسع، ويمكن لأي محتوى الوصول إلى جمهور عالمي دون حواجز جغرافية.
وفوق هذا وذاك، تنوع أشكال المحتوى، مع تقديم الفيديوهات والصور والمقالات بطريقة مرنة ومبتكرة.
– أوجه الاختلاف بين الإعلام القديم والحديث..
مصادر المعلومات: الإعلام القديم يعتمد على مؤسسات معترف بها؛ مثل الصحف والقنوات الإخبارية.
أما الإعلام الحديث فيتيح لأي شخص أن يصبح مصدرًا للمعلومات، ما يزيد من احتمالية انتشار الأخبار المزيفة، فالسرعة مقابل المصداقية.
فالإعلام القديم فيتميز بالتأني والتدقيق. أما الإعلام الحديث فسريع ومباشر، لكنه قد يفتقر أحيانًا للدقة. وبدراسة عميقة نجد أن الإعلام القديم يتطلب ميزانيات ضخمة للإنتاج والنشر، ولكن الإعلام الحديث منخفض التكلفة، حيث يمكن لفرد واحد إنشاء محتوى والوصول إلى جمهور واسع. أيضًا من ناحية الجمهور المستهدف؛ فالإعلام القديم يخاطب جمهورًا واسعًا، لكنه محدود جغرافيًا. والحديث يستهدف جمهورًا متخصصًا بناءً على اهتماماتهم. ورغم مزايا الإعلام الحديث، إلا أنه يواجه العديد من التحديات؛ منها: انتشار الأخبار المزيفة، فسهولة النشر قد تؤدي إلى تضليل الجمهور. ضعف المصداقية: فبعض المنصات تفتقر لعمليات تحرير ومراجعة دقيقة. التأثير النفسي السلبي: التعرض المستمر للأخبار قد يسبب القلق والإجهاد.
ولا يعني تطور الإعلام الحديث نهاية الإعلام التقليدي.؛ بل يمكن لكليهما أن يتكاملا لتقديم تجربة إعلامية شاملة، ويمكن للإعلام القديم أن يستفيد من التكنولوجيا الحديثة لتوسيع نطاق تأثيره. بينما يعتمد الإعلام الحديث على مصداقية الإعلام التقليدي لتعزيز ثقة الجمهور.
ويمكن أن نستخلص مما مضى، بأن لكل من الإعلام القديم والحديث دورًا محوريًا وأهمية خاصة؛ فالإعلام القديم يمثل مرجعية المصداقية والجودة، بينما يعكس الإعلام الحديث الابتكار وسرعة التواصل. والتحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن بين الاثنين؛ لتلبية احتياجات الجمهور في عصر متسارع التغير.