الجزيرة:
2025-03-17@02:05:08 GMT

إبادة المقاومة في أي سياق؟

تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT

إبادة المقاومة في أي سياق؟

لماذا يتقبل الغرب المتحضر إبادة المقاومة الفلسطينية في غزة؟ لماذا يتقبل ضميره مقتل عشرات الألوف من الفلسطينيين؟ لماذا يتقبل هدم القطاع بأكمله على رؤوس وجثث ساكنيه؟ لماذا لا يتدخل لوقف الحرب بصورة حاسمة؟

إبادة المقاومة الفلسطينية في غزة 2023 – 2024م حلقة في تاريخ طويل من العنف وتصدير الحرب وإبادة المختلف، تاريخ مبكر بدأ قبيل أن تكتمل إبادة الحضارة الإسلامية الأندلسية في شبه الجزيرة الإيبيرية – إسبانيا والبرتغال – بصورة نهائية باستسلام غرناطة عام 1492م.

حتى ذلك التّاريخ كان المسلمون ملوك البحار، وكان الأوروبيون رهائن محبوسة داخل القارة، كانت البحار محظورةً عليهم الملاحةُ فيها بإجماع المسلمين، ثم مع مطلع القرن الخامس عشر وضعوا أقدامهم في سبتة على سواحل المغرب.

استعمار واستعباد

ثم في 1482م وصلوا إلى مصب نهر الكونغو، ثم 1491م وصلت سفينة برتغالية على متنها أول فوج من المستعمرين المستوطنين ومن القساوسة والمبشرين، وأقاموا أول مستوطنة باسم ملك البرتغال، وكان ذلك، كما يقول آدم هوتشايلد – في كتابه " شبح الملك ليوبولد : قصة الجشع والعنف والبطولة في استعمار أفريقيا" – : "كان ذلك أول لقاء بين أوروبيين وأمة أفريقية سوداء". ص 16.

وعلى رأس القرن الخامس عشر – وبالتحديد في عام 1500 م – وصلت سفينة برتغالية محملة بالقساوسة والمبشرين، والمغامرين، وتجار العبيد، والباحثين عن الثروة – بطريق الخطأ – إلى شواطئ البرازيل، من هذه اللحظة بدأ تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، تاريخ موصول لم ينقطع، استعمار أميركا، واستعباد أفريقيا، استعمار خيرات البرازيل باستعباد الإنسان الأفريقي.

وربما هذا يفسر لك بعضًا مما تراه من ردود فعل دولية على حرب الإبادة الصهيونية في غزة، حيث الغرب شريك كامل في الإبادة، وحيث كل من أميركا اللاتينية وأفريقيا في طليعة ردود الفعل الغاضبة، غضب أميركي لاتيني، ثم غضب أفريقي، لا نظير لهما في العالمين العربي والإسلامي، وكان الغضب أولى بهما من غيرهما.

وبين الاستعمار والاستعباد، جرت إبادة الحضارات والثقافات المحلية، جرى التنصير الكاثوليكي، ثم البروتستانتي، جرى تراكم رأس المال عبر الرأسمالية التجارية، جرت الثورة الصناعية، تحققت الطفرات العلمية، تأكدت هيمنة أوروبا على باقي قارات العالم يابسها وبحرها ومحيطها وظاهرها وباطنها.

وفي هذه القرون الخمسة، صارت أوروبا ولواحقها – كندا وأميركا وأستراليا – واحة للرفاهية والثروة ورغد العيش، مثلما هي مركز السيادة والتفوق والسيطرة، وحتى تحافظ أوروبا على منجزات القرون الخمسة، وحتى تضمن تأمين تلك الواحة من الرفاهية، وتكفل استمرار السيطرة، بقيت تحافظ على رسالتها التاريخية: تصدير الحرب والعنف الكامن والظاهر إلى كل مكان في العالم، عنف متعدد المستويات والأشكال، عنف يصل حد الإبادة.

تصدير الحروب والخراب

الحلقة الأخيرة من عنف الغرب تدور حول القرن العشرين، قبله بقليل، وبعده بقليل. هذه الفترة من خواتيم القرن التاسع عشر حتى لحظتنا هذه من الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، هي الملامح الراهنة للعقل الغربي، وهي القسمات المميزة للوجه الغربي، كما تراه هذه اللحظة، عقل لا يمانع في ارتكاب الإبادة، قسمات وجه لا يعكر صفوها المذابح تقصف رقاب الأبرياء.

في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر، كانت الإبادة الجماعية ضد شعوب الكونغو على يد المستعمرين البلجيك، ويقال؛ إن رقم الضحايا وصل عشرة ملايين قتيل، ثم أعقبها مباشرة باكورة مذابح القرن العشرين، حيث إبادة المستعمرين الألمان عشرات الألوف من شعب ناميبيا، وعند خاتمة القرن العشرين إبادة المسلمين على يد الصرب في سربرنيتسا في كوسوفو 1995م.

تقريبًا مائة عام تفصل بين إبادة شعوب الكونغو ثم ناميبيا في وسط غرب أفريقيا، وبين إبادة المسلمين في وسط البلقان في قلب أوروبا، وبين هذه وتلك، بين مطلع القرن وخاتمته لم تتوقف أوروبا والغرب عن تصدير الحرب والعنف إلى كل شبر في العالم.

الحرب العالمية الأولى حصدت أرواح عشرة ملايين، الحرب الثانية حصدت أرواح ستين مليونًا، ثم الحرب الباردة أشعلت ما لا حصر له من الحروب الإقليمية بالوكالة.

القرن العشرون بلغت فيه الحضارة الغربية ذروتها كديمقراطيات رأسمالية صناعية تكنولوجية، كما بلغت ذروتها كنبع عنف ومهد حرب وقوة قتال تحكم سيطرتها بحلف الأطلسي، وتحزم الكون بقواعد حرب تكفي لتدميره آلاف المرات.

هذه الذروة الغربية – الحضارة والعنف معًا – خربت وما زالت تخرب العالمين العربي والإسلامي: غزو أفغانستان 2001م، غزو العراق 2003م، تمزيق بلدان الربيع العربي 2011م، حتى هذه اللحظة، فلما وقعت حرب الإبادة الصهيونية ضد غزة 2023 – 2024م كان العالمان العربي والإسلامي في أسوأ أوضاعهما رسميًا وشعبيًا: فقد تم اعتبار المقاومة امتدادًا لتيارات الإسلام السياسي، وهذه التيارات يتم تصفيتها بتوافق إقليمي ودولي، بعد أن كادت تسيطر سيطرة كاملة – عبر الانتخابات الديمقراطية – على الإقليم بأكمله، والمنطق هو أن تتم تصفية المقاومة في سياق تصفية تلك التيارات.

وهذا يفسر لك صمت الحكومات في العالمين العربي والإسلامي، كما يفسر لك صمت بعض التيارات المناوئة للإسلاميين على وجه العموم. كذلك، هناك توافق إقليمي ودولي، على أن السلاح من اختصاص الدول وليس الحركات، بما في ذلك حركات المقاومة.

هذا الدرس الذي خرج به هؤلاء وأولئك من تجارب الحروب الأهلية في الإقليم في أعقاب ثورات الربيع العربي. كذلك استنفدت مفاهيم الجهاد والنصرة والولاء والبراء وكل ماكينة رد الفعل المسلح أغراضها، ولم تعد مقبولة ممن صنعوها أول مرّة.

استنزاف واستدراج

فكرة الجهاد – في المائة عام الأخيرة – لم تكن من منبت إسلامي، لكن كانت غربية المنشأ، ابتكرها الألمان أول القرن العشرين لحشد جماهير المسلمين حول العالم ضد البريطانيين، كان الألمان هم من أقنع السلطان العثماني بإعلان الجهاد الإسلامي ضد الإنجليز في الحرب العالمية الأولى.

لم تحقق الدعوة أية فوائد ذات قيمة؛ لأن مكانة السلطان عند العرب والمسلمين كانت قد تدهورت في لحظة ازدهرت فيها أفكار القومية والاستقلال على حساب فكرة الوحدة والجامعة الإسلامية. كذلك أخفقت دعوة السلطان للجهاد؛ لأن دعاية الإنجليز كانت أذكى وأدهى، فقد وعدوا الجميع حتى انتصروا، ثم نكثوا عهودهم مع الجميع.

المرة الثانية التي ظهرت فيها فكرة الجهاد الإسلامي على نطاق عالمي كانت من اختراع مستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي 1928 – 2017م، حيث أعاد توظيف الفكرة الجهادية التي ابتكرها الألمان، لكن في سياق مختلف وبإعداد جيد، تم توظيف كافة تيارات الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي؛ لخدمة أميركا والغرب في حربهم الباردة وبالوكالة ضد السوفيات، بالتنسيق مع عدد من الحكومات العربية والإسلامية، وكانت تلك سنوات ازدهار جماعات الإسلام السياسي.

كان الإسلام السياسي رقمًا حاسمًا في الحرب الواسعة ضد السوفيات، وبالذات ضد الحكم الشيوعي في عدن، ثم في إندونيسيا، ثم في أفغانستان. أدى الإسلام السياسي – عن غير وعي – دوره الجهادي في خدمة الغرب حتى سقط الاتحاد السوفياتي. من ذلك التاريخ بدأت تتناقص الأهمية الدولية لتلك التيارات، ثم بدأت تصفيتها – بالتدريج – حتى لا تكاد تسمع بها، ولا تكاد تسمع بفكرة الجهاد.

الظهير الواسع من تيارات الإسلام السياسي التي وقفت – بقوة – مع المقاومة الأفغانية المدعومة من الغرب ضد السوفيات، وضد النظام الشيوعي في أفغانستان لا وجود له الآن، ظهير انقصم ظهره، وخفت صوته، وتلاشى أمره، ثم استهلاكه واستنفاد طاقته واستنزافه، ثم استدراجه للحكم، ثم تأليب الثورات المضادة ضده، ثم تصفيته إلا ممن بقي على العهد في السجون أو في المنافي أو تحت الحصار لكن بلا حضور ولا فاعلية ولا تأثير.

وهذا مستجد هام يلزم أخذه في الحسبان، ففي السابق كانت قوى الإسلام السياسي على درجة رفيعة من التنظيم وذات ملاءة مالية شديدة الثراء، وذات قدرات إعلامية واسعة الانتشار، وذات حضور جماهيري ضخم كان يمكنها من أن تكون ذات فاعلية تساوي أو ربما تفوق فاعلية الحكومات.

غياب الظهير

لا شك أن المقاومة الفلسطينية في غزة تواجه الإبادة محرومةً من سند ودعم هذا الظهير الغائب أو المفقود إلى حين لا يعلمه إلا علام الغيوب. ولم يبقَ للمقاومة غير الدعم من تنظيمات الإسلام السياسي الشيعي سواء في جنوب لبنان، أو في اليمن، أو في العراق، وهي حالات استثنائية، حيث تسمح هشاشة الدولة المركزية بدور كبير لهذه القوى سواء داخل الدولة أو خارجها، ومحليًا أو إقليميًا.

منذ كان المشروع الصهيوني جنينًا في رحم الغيب، تم ادماجه حد الانصهار في بنية المشروع الصليبي الاستعماري الرأسمالي الديمقراطي المعاصر، هذا مشروع تشكل في إطار الصراع ضد الإسلام على مدى ألف عام، بدأ بالصليبية ضد الإسلام في المشرق، ثم في المغرب، ثم الاستعمار، ثم جاءت الصهيونية لتكون اللبنة أو الحجر الأخير في هذا البنيان المرصوص المتكامل.

فمن خمسة قرون، ومع بزوغ البروتستانتية، تلاشت بالتدريج العداوات والحزازات الكاثوليكية – اليهودية، وجرى الالتقاء على كلمة سواء، وهي باختصار شديد: عودة اليهود إلى القدس شرط لازم لعودة المسيح عليه السلام، وتوبة اليهود على يديه.

قاومت الكاثوليكية هذا التفسير أزمانًا طويلة، لكن كانت له الغلبة في النهاية، وما نراه اليوم هو صليبية جديدة، صليبية ذات قناع صهيوني، كما هو صهيونية ذات عمق وحشوة ومضمون صليبي متجذر.

هذه الصهيونية ليست أكثر من تطور للفكرة الصليبية، فكرة أن مهد المسيح لا يجوز أن يكون تحت سلطان الكافرين (المسلمين)، هذه الصليبية الجديدة تفسر لك لماذا منذ نشأة الصهيونية كفكرة، ثم حركة ثم دولة لقيت تأييد كل عواصم الغرب بغض النظر عن مِللهم ومذاهبهم.

صحيح كان مؤسسو الصهيونية علمانيين وربما ملاحدة، وصحيح كذلك أن حكام الغرب علمانيون وربما ملاحدة، لكن كانت الصهيونية لهؤلاء مثل الصليبية لأولئك جذر الموقف من أرض فلسطين ومن عموم الشرق الإسلامي، جذر الاختلاف ثم العداء الكامن أو الظاهر، جذر الثقافة والتاريخ الذي يستعصي على الاقتلاع.

القلعة الأخيرة

هذه الصليبية الجديدة تفسر لك، لماذا يتكفل الغرب، كل الغرب، بضمان تسليح إسرائيل بما يكفي لتتفوق وتنتصر على كل العرب والمسلمين مجتمعين في حال – على افتراض – قامت حرب بينهم جميعًا وبين إسرائيل.

بهذا المعنى فإن إسرائيل هي آخر قلاع الصليبية، قلعة تضافر على بنائها الغرب – مجتمعًا – رغم ما بينه من خلافات، قلعة جاءت لتبقى، لا لتزول، فإذا بدرت بوادر الزوال، في الحقيقة أو في الخيال، احتشد الغرب كله، فيتدفق السلاح، وتنشط الدبلوماسية، وينهض الإعلام، ويتم إبعاد الضمير، ولا مكان للمبادئ والقوانين الدولية والإنسانية، إذا خطر خاطر الزوال فلا أقل من الاحتشاد لإبادة مصدر الخطر وشبح الخاطر.

ومن ثم فإن الرد الطبيعي – من وجهة نظرهم على أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م – هو إطلاق يد إسرائيل لأجل إبادة آخر قلاع المقاومة، والغرب كله من خلفها، يمدها بالسلاح والمشورة وغض الطرف عن جرائمها وحمايتها من المساءلة، ولا قيمة للشعب الفلسطيني إلا مثل قيمة الشعوب والحضارات التي سبق أن أبادها الغرب في الأميركتين وأفريقيا، أبادها وهو يزعم أنه يهديها إلى روحانية المسيحية، وينقذها من الكفر والوثنية، ويزودها بأنوار الحضارة الغربية .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: العالمین العربی والإسلامی الإسلام السیاسی القرن العشرین فی العالم فی غزة

إقرأ أيضاً:

كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!

••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.

•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.

•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..

•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

مقالات مشابهة

  • الحوثي :العدوان الأمريكي علي اليمن يأتي في سياق الطغيان والعربدة
  • ???? مدنيون ضد الحقيقة ومع تدمير العقل السياسي السوداني
  • كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
  • هولندية تطالب بإبادة العلويين
  • ترامب: أزمة أوكرانيا كانت تدفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة
  • أكاديميون: ترامب يعود بالعالم لحقبة الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي
  • أكثر تعبيرات الشر والبؤس.. اكتشاف معسكر إبادة لعصابة مخدرات في المكسيك
  • مصطلح الإسلام السياسي
  • ضرورة إبادة الجنس البشري
  • تقرير أممي يتهم إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة في غزة