الجزيرة:
2025-05-01@12:13:56 GMT

إبادة المقاومة في أي سياق؟

تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT

إبادة المقاومة في أي سياق؟

لماذا يتقبل الغرب المتحضر إبادة المقاومة الفلسطينية في غزة؟ لماذا يتقبل ضميره مقتل عشرات الألوف من الفلسطينيين؟ لماذا يتقبل هدم القطاع بأكمله على رؤوس وجثث ساكنيه؟ لماذا لا يتدخل لوقف الحرب بصورة حاسمة؟

إبادة المقاومة الفلسطينية في غزة 2023 – 2024م حلقة في تاريخ طويل من العنف وتصدير الحرب وإبادة المختلف، تاريخ مبكر بدأ قبيل أن تكتمل إبادة الحضارة الإسلامية الأندلسية في شبه الجزيرة الإيبيرية – إسبانيا والبرتغال – بصورة نهائية باستسلام غرناطة عام 1492م.

حتى ذلك التّاريخ كان المسلمون ملوك البحار، وكان الأوروبيون رهائن محبوسة داخل القارة، كانت البحار محظورةً عليهم الملاحةُ فيها بإجماع المسلمين، ثم مع مطلع القرن الخامس عشر وضعوا أقدامهم في سبتة على سواحل المغرب.

استعمار واستعباد

ثم في 1482م وصلوا إلى مصب نهر الكونغو، ثم 1491م وصلت سفينة برتغالية على متنها أول فوج من المستعمرين المستوطنين ومن القساوسة والمبشرين، وأقاموا أول مستوطنة باسم ملك البرتغال، وكان ذلك، كما يقول آدم هوتشايلد – في كتابه " شبح الملك ليوبولد : قصة الجشع والعنف والبطولة في استعمار أفريقيا" – : "كان ذلك أول لقاء بين أوروبيين وأمة أفريقية سوداء". ص 16.

وعلى رأس القرن الخامس عشر – وبالتحديد في عام 1500 م – وصلت سفينة برتغالية محملة بالقساوسة والمبشرين، والمغامرين، وتجار العبيد، والباحثين عن الثروة – بطريق الخطأ – إلى شواطئ البرازيل، من هذه اللحظة بدأ تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، تاريخ موصول لم ينقطع، استعمار أميركا، واستعباد أفريقيا، استعمار خيرات البرازيل باستعباد الإنسان الأفريقي.

وربما هذا يفسر لك بعضًا مما تراه من ردود فعل دولية على حرب الإبادة الصهيونية في غزة، حيث الغرب شريك كامل في الإبادة، وحيث كل من أميركا اللاتينية وأفريقيا في طليعة ردود الفعل الغاضبة، غضب أميركي لاتيني، ثم غضب أفريقي، لا نظير لهما في العالمين العربي والإسلامي، وكان الغضب أولى بهما من غيرهما.

وبين الاستعمار والاستعباد، جرت إبادة الحضارات والثقافات المحلية، جرى التنصير الكاثوليكي، ثم البروتستانتي، جرى تراكم رأس المال عبر الرأسمالية التجارية، جرت الثورة الصناعية، تحققت الطفرات العلمية، تأكدت هيمنة أوروبا على باقي قارات العالم يابسها وبحرها ومحيطها وظاهرها وباطنها.

وفي هذه القرون الخمسة، صارت أوروبا ولواحقها – كندا وأميركا وأستراليا – واحة للرفاهية والثروة ورغد العيش، مثلما هي مركز السيادة والتفوق والسيطرة، وحتى تحافظ أوروبا على منجزات القرون الخمسة، وحتى تضمن تأمين تلك الواحة من الرفاهية، وتكفل استمرار السيطرة، بقيت تحافظ على رسالتها التاريخية: تصدير الحرب والعنف الكامن والظاهر إلى كل مكان في العالم، عنف متعدد المستويات والأشكال، عنف يصل حد الإبادة.

تصدير الحروب والخراب

الحلقة الأخيرة من عنف الغرب تدور حول القرن العشرين، قبله بقليل، وبعده بقليل. هذه الفترة من خواتيم القرن التاسع عشر حتى لحظتنا هذه من الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، هي الملامح الراهنة للعقل الغربي، وهي القسمات المميزة للوجه الغربي، كما تراه هذه اللحظة، عقل لا يمانع في ارتكاب الإبادة، قسمات وجه لا يعكر صفوها المذابح تقصف رقاب الأبرياء.

في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر، كانت الإبادة الجماعية ضد شعوب الكونغو على يد المستعمرين البلجيك، ويقال؛ إن رقم الضحايا وصل عشرة ملايين قتيل، ثم أعقبها مباشرة باكورة مذابح القرن العشرين، حيث إبادة المستعمرين الألمان عشرات الألوف من شعب ناميبيا، وعند خاتمة القرن العشرين إبادة المسلمين على يد الصرب في سربرنيتسا في كوسوفو 1995م.

تقريبًا مائة عام تفصل بين إبادة شعوب الكونغو ثم ناميبيا في وسط غرب أفريقيا، وبين إبادة المسلمين في وسط البلقان في قلب أوروبا، وبين هذه وتلك، بين مطلع القرن وخاتمته لم تتوقف أوروبا والغرب عن تصدير الحرب والعنف إلى كل شبر في العالم.

الحرب العالمية الأولى حصدت أرواح عشرة ملايين، الحرب الثانية حصدت أرواح ستين مليونًا، ثم الحرب الباردة أشعلت ما لا حصر له من الحروب الإقليمية بالوكالة.

القرن العشرون بلغت فيه الحضارة الغربية ذروتها كديمقراطيات رأسمالية صناعية تكنولوجية، كما بلغت ذروتها كنبع عنف ومهد حرب وقوة قتال تحكم سيطرتها بحلف الأطلسي، وتحزم الكون بقواعد حرب تكفي لتدميره آلاف المرات.

هذه الذروة الغربية – الحضارة والعنف معًا – خربت وما زالت تخرب العالمين العربي والإسلامي: غزو أفغانستان 2001م، غزو العراق 2003م، تمزيق بلدان الربيع العربي 2011م، حتى هذه اللحظة، فلما وقعت حرب الإبادة الصهيونية ضد غزة 2023 – 2024م كان العالمان العربي والإسلامي في أسوأ أوضاعهما رسميًا وشعبيًا: فقد تم اعتبار المقاومة امتدادًا لتيارات الإسلام السياسي، وهذه التيارات يتم تصفيتها بتوافق إقليمي ودولي، بعد أن كادت تسيطر سيطرة كاملة – عبر الانتخابات الديمقراطية – على الإقليم بأكمله، والمنطق هو أن تتم تصفية المقاومة في سياق تصفية تلك التيارات.

وهذا يفسر لك صمت الحكومات في العالمين العربي والإسلامي، كما يفسر لك صمت بعض التيارات المناوئة للإسلاميين على وجه العموم. كذلك، هناك توافق إقليمي ودولي، على أن السلاح من اختصاص الدول وليس الحركات، بما في ذلك حركات المقاومة.

هذا الدرس الذي خرج به هؤلاء وأولئك من تجارب الحروب الأهلية في الإقليم في أعقاب ثورات الربيع العربي. كذلك استنفدت مفاهيم الجهاد والنصرة والولاء والبراء وكل ماكينة رد الفعل المسلح أغراضها، ولم تعد مقبولة ممن صنعوها أول مرّة.

استنزاف واستدراج

فكرة الجهاد – في المائة عام الأخيرة – لم تكن من منبت إسلامي، لكن كانت غربية المنشأ، ابتكرها الألمان أول القرن العشرين لحشد جماهير المسلمين حول العالم ضد البريطانيين، كان الألمان هم من أقنع السلطان العثماني بإعلان الجهاد الإسلامي ضد الإنجليز في الحرب العالمية الأولى.

لم تحقق الدعوة أية فوائد ذات قيمة؛ لأن مكانة السلطان عند العرب والمسلمين كانت قد تدهورت في لحظة ازدهرت فيها أفكار القومية والاستقلال على حساب فكرة الوحدة والجامعة الإسلامية. كذلك أخفقت دعوة السلطان للجهاد؛ لأن دعاية الإنجليز كانت أذكى وأدهى، فقد وعدوا الجميع حتى انتصروا، ثم نكثوا عهودهم مع الجميع.

المرة الثانية التي ظهرت فيها فكرة الجهاد الإسلامي على نطاق عالمي كانت من اختراع مستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي 1928 – 2017م، حيث أعاد توظيف الفكرة الجهادية التي ابتكرها الألمان، لكن في سياق مختلف وبإعداد جيد، تم توظيف كافة تيارات الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي؛ لخدمة أميركا والغرب في حربهم الباردة وبالوكالة ضد السوفيات، بالتنسيق مع عدد من الحكومات العربية والإسلامية، وكانت تلك سنوات ازدهار جماعات الإسلام السياسي.

كان الإسلام السياسي رقمًا حاسمًا في الحرب الواسعة ضد السوفيات، وبالذات ضد الحكم الشيوعي في عدن، ثم في إندونيسيا، ثم في أفغانستان. أدى الإسلام السياسي – عن غير وعي – دوره الجهادي في خدمة الغرب حتى سقط الاتحاد السوفياتي. من ذلك التاريخ بدأت تتناقص الأهمية الدولية لتلك التيارات، ثم بدأت تصفيتها – بالتدريج – حتى لا تكاد تسمع بها، ولا تكاد تسمع بفكرة الجهاد.

الظهير الواسع من تيارات الإسلام السياسي التي وقفت – بقوة – مع المقاومة الأفغانية المدعومة من الغرب ضد السوفيات، وضد النظام الشيوعي في أفغانستان لا وجود له الآن، ظهير انقصم ظهره، وخفت صوته، وتلاشى أمره، ثم استهلاكه واستنفاد طاقته واستنزافه، ثم استدراجه للحكم، ثم تأليب الثورات المضادة ضده، ثم تصفيته إلا ممن بقي على العهد في السجون أو في المنافي أو تحت الحصار لكن بلا حضور ولا فاعلية ولا تأثير.

وهذا مستجد هام يلزم أخذه في الحسبان، ففي السابق كانت قوى الإسلام السياسي على درجة رفيعة من التنظيم وذات ملاءة مالية شديدة الثراء، وذات قدرات إعلامية واسعة الانتشار، وذات حضور جماهيري ضخم كان يمكنها من أن تكون ذات فاعلية تساوي أو ربما تفوق فاعلية الحكومات.

غياب الظهير

لا شك أن المقاومة الفلسطينية في غزة تواجه الإبادة محرومةً من سند ودعم هذا الظهير الغائب أو المفقود إلى حين لا يعلمه إلا علام الغيوب. ولم يبقَ للمقاومة غير الدعم من تنظيمات الإسلام السياسي الشيعي سواء في جنوب لبنان، أو في اليمن، أو في العراق، وهي حالات استثنائية، حيث تسمح هشاشة الدولة المركزية بدور كبير لهذه القوى سواء داخل الدولة أو خارجها، ومحليًا أو إقليميًا.

منذ كان المشروع الصهيوني جنينًا في رحم الغيب، تم ادماجه حد الانصهار في بنية المشروع الصليبي الاستعماري الرأسمالي الديمقراطي المعاصر، هذا مشروع تشكل في إطار الصراع ضد الإسلام على مدى ألف عام، بدأ بالصليبية ضد الإسلام في المشرق، ثم في المغرب، ثم الاستعمار، ثم جاءت الصهيونية لتكون اللبنة أو الحجر الأخير في هذا البنيان المرصوص المتكامل.

فمن خمسة قرون، ومع بزوغ البروتستانتية، تلاشت بالتدريج العداوات والحزازات الكاثوليكية – اليهودية، وجرى الالتقاء على كلمة سواء، وهي باختصار شديد: عودة اليهود إلى القدس شرط لازم لعودة المسيح عليه السلام، وتوبة اليهود على يديه.

قاومت الكاثوليكية هذا التفسير أزمانًا طويلة، لكن كانت له الغلبة في النهاية، وما نراه اليوم هو صليبية جديدة، صليبية ذات قناع صهيوني، كما هو صهيونية ذات عمق وحشوة ومضمون صليبي متجذر.

هذه الصهيونية ليست أكثر من تطور للفكرة الصليبية، فكرة أن مهد المسيح لا يجوز أن يكون تحت سلطان الكافرين (المسلمين)، هذه الصليبية الجديدة تفسر لك لماذا منذ نشأة الصهيونية كفكرة، ثم حركة ثم دولة لقيت تأييد كل عواصم الغرب بغض النظر عن مِللهم ومذاهبهم.

صحيح كان مؤسسو الصهيونية علمانيين وربما ملاحدة، وصحيح كذلك أن حكام الغرب علمانيون وربما ملاحدة، لكن كانت الصهيونية لهؤلاء مثل الصليبية لأولئك جذر الموقف من أرض فلسطين ومن عموم الشرق الإسلامي، جذر الاختلاف ثم العداء الكامن أو الظاهر، جذر الثقافة والتاريخ الذي يستعصي على الاقتلاع.

القلعة الأخيرة

هذه الصليبية الجديدة تفسر لك، لماذا يتكفل الغرب، كل الغرب، بضمان تسليح إسرائيل بما يكفي لتتفوق وتنتصر على كل العرب والمسلمين مجتمعين في حال – على افتراض – قامت حرب بينهم جميعًا وبين إسرائيل.

بهذا المعنى فإن إسرائيل هي آخر قلاع الصليبية، قلعة تضافر على بنائها الغرب – مجتمعًا – رغم ما بينه من خلافات، قلعة جاءت لتبقى، لا لتزول، فإذا بدرت بوادر الزوال، في الحقيقة أو في الخيال، احتشد الغرب كله، فيتدفق السلاح، وتنشط الدبلوماسية، وينهض الإعلام، ويتم إبعاد الضمير، ولا مكان للمبادئ والقوانين الدولية والإنسانية، إذا خطر خاطر الزوال فلا أقل من الاحتشاد لإبادة مصدر الخطر وشبح الخاطر.

ومن ثم فإن الرد الطبيعي – من وجهة نظرهم على أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م – هو إطلاق يد إسرائيل لأجل إبادة آخر قلاع المقاومة، والغرب كله من خلفها، يمدها بالسلاح والمشورة وغض الطرف عن جرائمها وحمايتها من المساءلة، ولا قيمة للشعب الفلسطيني إلا مثل قيمة الشعوب والحضارات التي سبق أن أبادها الغرب في الأميركتين وأفريقيا، أبادها وهو يزعم أنه يهديها إلى روحانية المسيحية، وينقذها من الكفر والوثنية، ويزودها بأنوار الحضارة الغربية .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: العالمین العربی والإسلامی الإسلام السیاسی القرن العشرین فی العالم فی غزة

إقرأ أيضاً:

هوس ماجا المشؤوم بمعدل الذكاء يقودنا إلى مستقبل غير إنساني

ثمة شيء يشترك فيه دونالد ترامب وشركاؤه من وادي السليكون وهو الهوس بمعدل الذكاء IQ. فكون «الفرد ذا معدل ذكاء منخفض» يعد سبابا معياريا في قاموس الرئيس وكونه «ذا معدل ذكاء مرتفع» يعد ثناء معياريا بالقدر نفسه لدى المنتمين إلى اليمين التكنولوجي. غير أنه ثمة مفارقة خفية في ظل الاندفاع إلى تفوق الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي ـ ودليله إعلان مشروع ستارجيت بقيمة خمسمائة مليار دولار في البيت الأبيض وصدور الأمر التنفيذي بدمج الذكاء الاصطناعي في التعليم العام ابتداء من الحضانة. وتتمثل هذه المفارقة في أنه إذا تحققت رؤيتهم لمستقبلنا الاقتصادي، فإن معدل الذكاء بالمعنى الذي يقدّرونه سوف يفقد معناه.

لقد ظهر اختبار معدل الذكاء في وقت كانت فيه الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية قلقة على صحة شعوبها. إذ أظهرت حملات التجنيد لحرب البوير في المملكة المتحدة ثم الحرب العالمية الأولى في دول أخرى أن الذكور في هذه البلاد أضعف صحة من جيل آبائهم. وبدا أن العمل الصناعي يطلق ما بدا أشبه بعملية تدهور تنذر بمصير سلالة المورلوكس دون الأرضية الوارد ذكرها في رواية «آلة الزمن» الكلاسيكية لهربرت جورج ويلز. كانت اختبارات الذكاء وسيلة لاستخلاص الماس من الخام والعثور على طبقة ضباط جديدة ثم نخبة جديد في ما بعد لقيادة المجتمع الكبير خروجا من مستنقع اليأس إلى مستقبل أكثر جسارة.

حينما كان التصنيع لا يزال حاكما في الولايات المتحدة، كان معدل الذكاء يقيَّم بوصفه وسيلة قياس للنتاجات التعليمية، لكن يقال إن عمال المعرفة لم يصبحوا طليعة الرخاء المستقبلية إلا مع انطلاق اقتصاد المعلومات في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وليس من قبيل المصادفة أن حديث معدل الذكاء قد ازدهر في تسعينيات القرن الماضي، وكان ذلك في البداية من خلال كتاب «منحنى الجرس» سيئ السمعة لتشارلز موراي وريتشارد هرنشتين الذي أشار إلى وجود فجوات مستعصية وبعيدة المدى في معدلات الذكاء بين الجماعات العرقية المختلفة، ثم راج الحديث ثانيا من خلال برامج البحث عن الموهوبين والمتفوقين في الولايات المتحدة التي مضت تبحث عن الأولاد وتنتقيهم من المدارس العامة لتضعهم في برامج صيفية مشحونة للمتفوقين.

كان من أولئك الأشخاص كيرتس يارفين، وهو مهندس برمجيات في منتصف العمر ومنظِّر سياسي هاوٍ لفت الأنظار بفلسفته التكنوملكية وكثيرا ما يشار إلى أعماله إشارات إيجابية في أحاديث نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس. في شبابه، كان يارفين منتميا إلى مركز جوليان ستانلي للشباب الموهوبين. ومنذ مطلع القرن الحالي حتى الآن وهو مناصر ثابت لأهمية معدل الذكاء بوصفه قياسا للقيمة الإنسانية. وفي أواخر العقد الأول من القرن الحالي، ومن خلال وصفه لما بات يعرف بالتنوير المعتم أو «الرجعية الجديدة»، ذهب إلى أن اختبارات معدل الذكاء يمكن أن تستعمل لسحب السلطة التصويتية من الناخبين في جنوب أفريقيا ما بعد نظام الفصل العنصري.

وليس ولع يارفين بمعدل الذكاء إلا نتاج عضوي لثقافية فرعية في وادي السليكون. ولا عجب في أن الذين كانوا يتلاعبون بالرموز ويكتبون الشيفرات ليل نهار كانوا يثقون كثيرا في «الذكاء العام» الذي يقيسه اختبار معدل الذكاء، فهذا الاختبار يقيس قرب العقول البشرية من أجهزة الكمبيوتر في المنطق والذاكرة وسرعة المعالجة.

وللولع بمعدل الذكاء تاريخ في الوادي، فكان من رواد القول بضرورة اتخاذ إجراءات تحسين النسل لزيادة معدل الذكاء وليم شوكلي مخترع الترانزيستور (وهو وحدة بناء رقائق الكمبيوتر) فذهب إلى من يقل معدل الذكاء لديهم عن 100 يجب إعطاؤهم دولارا عن كل درجة من معدل الذكاء تحفيزا لهم على تعقيم [أي إخصاء] أنفسهم. وفي عام 2014، قال الملياردير الأمريكي بيتر ثيل إن مشكلة الحزب الجمهوري هي أن الكثير للغاية من زعاماته «ذات معدل ذكاء منخفض» قياسا بأقرانهم في الحزب الديمقراطي. كما كان معدل الذكاء موضع نقاش في مدونة Slate Star Codex الشهيرة وغيرها مما يعرف بالمجتمع «العقلاني».

كان يمكن أن يبقى ذلك كله محض عرَض من أعراض منتديات الدردشة في منطقة خليج سان فرانسيسكو لولا التحالف الذي انعقد أخيرا بين عالم اليمين التكنولوجي والحزب الحاكم في العاصمة واشنطن. فالفكرة القائلة بأن الذكاء فطري وأنه يقاوم التدخل المبكر للتحسين من خلال برامج الدولة، وأن معدل الذكاء حقيقي ومنطقي، تقرّبنا مما كان موراي وهرنشتين يدعوان إليه في «منحنى الجرس» في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما أطلقا عليه «التعايش مع عدم المساواة».

لقد تأسست إدارة التعليم الأمريكية في عام 1980 بناء على فرض مناقض لمنحنى الجرس. وعملت بناء على إيمان بأن التدخلات المبكرة ضرورية لتحسين الدماغ وأن قياس النتاجات ضروري لصقل التدخلات لكي يثمر الاختبار التعليمي نتائج أكثر تساويا في عموم الولايات المتحدة. وهذه الإدارة تتعرض الآن لعملية تفكيك على يد إيلون ماسك من خلال «إدارة كفاءة الحكم»، مع تعهد بإكمال المهمة من ليندا مكماهون الرئيسة التنفيذية السابقة لاتحاد المصارعة العالمي. وكثيرا ما يشير ماسك ـ شأن ترامب ـ إلى معدل الذكاء وكأنه رقم مهم ودال. ولو أنكم تؤمنون أن الذكاء فطري، فسترغبون أيضا في تدمير وزارة التعليم وإيقاف محاولات الوصول إلى نتائج معيارية.

لقد بحث البعض عن طرق لتحديد سمات الأيديولوجية التي تربط الساحل الغربي برواد أعمال التكنولوجيا ومؤسسيها مع الشمال الشرقي والغرب الأوسط بأساطين رجال الأعمال والمحافظين المنتمين إلى تحالف «ماجا» [أي حركة «استعادة عظمة أمريكا» وهو شعار حملة ترامب الانتخابية الرئاسية]. ومن هذه الطرق النظر إليها باعتبارها عودة إلى الطبيعة، وانصرافا عن الإيمان بالحقائق الراسخة المتعلقة بالذكاء والجندر والعرق في مواجهة عالم متغير.

وهنا مكمن المشكلة، فقد راهن ذلك التحالف على مستقبل الاقتصاد الأمريكي، معلقا الرهان بحدوث فتح في تطورات الذكاء الاصطناعي، وحتى تاريخه، يمثل الذكاء الاصطناعي التوليدي وسيلة لأتمتة كثير من وظائف ذوي الياقات البيض التي كانت من قبل هي صلب اقتصاد المعرفة، فتشات جي بي تي، حسبما يزعم دراويشه، أقدر على التشفير من خريج علوم الكمبيوتر في ستانفورد. وبوسعه أن يعد شرائح عرض، ويعد نقاطا للحديث في دقائق، بما يتجاوز أي خريج لكلية آداب ليبرالية من كليات الصفوة. وبوسعه أن يكتشف تركيب البروتين أسرع من أي خريج من معهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

ولقد كانت حجة إيثار الاهتمام بمعدل الذكاء أنه ـ سواء أكاد عادلا أم غير عادل ـ يمثل تذكرة صعود للسلم الوظيفي والجدارة المرتبطة بوظائف التمويل والتكنولوجيا والإعلان وحتى الخدمة العامة والتعليم العالي. فإذا ما تقلصت هذه الوظائف، فجدوى الاهتمام بمعدل الذكاء تنخفض أيضا، وفقا لاعتباراته.

ومثلما قال ماسك نفسه «نحن جميعا في غاية الغباء» قياسا إلى «الذكاء الرقمي الفائق» الذي يساعد ماسك نفسه على إقامته من خلال مبادرات من قبيل نموذجه في (xAI) الذي اشترى أخيرا منصة إكس للتواصل الاجتماعي. ولقد كتب يوما رأسمالي وادي السليكون المغامر مارك أندرسن إن البرمجيات تأكل العالم، ولو صحت نبوءاتهما فإنه سوف يأكل معدل الذكاء العزيز عليهم أيضا.

مقالات مشابهة

  • غزة العصية على الانكسار.. قراءة إسرائيلية وغربية لصمودها الأسطوري
  • سلاح المدارس الصيفية يفسد مكائد العدو
  • في سياق الرقابة وتعزيز الكفاءة.. ديوان المحاسبة يراجع حسابات شركة الاتصالات والتقنية
  • هوس ماجا المشؤوم بمعدل الذكاء يقودنا إلى مستقبل غير إنساني
  • السودان… مشاهد من يوميات حرب عبثية
  • إقبال زوار معرض«أبوظبي للكتاب» على اقتناء الإصدارات القديمة والنادرة
  • إعلام صهيوني : خلافات بين المستوى السياسي وقائد الأركان حول الحرب على غزة
  • انطلاق تربص انتقائي للاعبي فئة أقل من 17 سنة لمنطقة الغرب
  • الإسلام.. يجرّد الدين من الكهنوت
  • حماس: “الحرب الشاملة محاولة إسرائيلية يائسة لكسر المقاومة الفلسطينية