حكم ترك أداء صلاة التراويح لعذر العمل
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونه "ما حكم ترك أداء صلاة التراويح في المسجد لعذر العمل؟ فأنا أعمل في مستشفى في قسم الرعاية المركزة، وأحيانًا تكون فترة مناوبتي من أول الليل حتى الصبح، وأنا أحرص منذ سنوات على أداء صلاة التراويح جماعة في المسجد؛ فهل عليَّ ذنب إذا تركتها خلال فترة مناوبتي، أم ماذا أفعل؟".
لترد دار الإفتاء موضحة: أنه لا يجوز شرعًا للعامل في المستشفى ترك مكان عمله في قسم الرعاية المركزة أثناء مواعيد مناوبته بحجة الذهاب إلى أداء صلاة التراويح، لكن يجوز له أن يصلي أيَّ عدد مِن الركعات في أيِّ جزءٍ من الليل منفردًا أو جماعة، وذلك حسب الترتيب المناسب الذي لا يؤثر على طبيعة العمل ورعاية المرضى، فإن لم يستطع أن يصلي مِن الليل فله أن يصلي بالنهار؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فاته وِرْدُه من الليل قضاه في نهار اليوم التالي، ويكون بذلك قد حصَّل ثواب أداء سُنَّة صلاة التراويح؛ لأن فضل الله واسعٌ يؤتيه مَنْ يشاء.
المتفق عليه أن صلاة التراويح سنة مؤكدة في ليالي شهر رمضان الكريم، وقد ورد أصل سنيتها عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولِهِ وفَعْلِهِ؛ زيادةً في الأجر وتعظيمًا للثواب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفقٌ عليه.
وعن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف".
قال الإمام الخرشي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 7، ط. دار الفكر): [وتأكد تراويح قيام رمضان، سمي بذلك لأنهم كانوا يطيلون القيام فيقرأ القارئ بالمئين يصلون بتسليمتين ثم يجلس الإمام والمأموم للاستراحة ويقضي من سبقه الإمام، ووقتها وقت الوتر على المعتمد، والجماعة فيها مستحبة لاستمرار العمل على الجمع من زمن عمر رضي الله عنه] اهـ.
وقال العلامة ابن الحاج في "المدخل" (2/ 290-291، ط. دار التراث): [يتعين على المكلف اليوم ألَّا يخلي نفسه من هذه السُّنَّة ألبتة، بل يفعلها في المسجد مع الناس على ما هم يفعلون اليوم من التخفيف فيها، فإذا فرغوا ورجع إلى بيته فينبغي له أن يغتنم بركة اتباعهم في قيام الليل إلى آخره إن أمكنه ذلك، فيصلي في بيته بمن تيسر معه من أهله أو وحده فتحصل الفضيلة الكاملة إن شاء الله تعالى] اهـ.
وقال الإمام تقي الدين الحصني في "كفاية الأخيار" (ص: 89، ط. دار الخير): [أما صلاة التراويح فلا شك في سنيتها، وانعقد الإجماع على ذلك قاله غير واحد] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "الكافي في فقه الإمام أحمد" (1/ 268، ط. دار الكتب العلمية): [ما سُنَّ له الجماعة، منها: التراويح، وهو قيام رمضان، وهي سُنَّة مؤكدة] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح في "الفروع" (2/ 372، ط. مؤسسة الرسالة): [وتسن التراويح في رمضان... وقيل بوجوبها وأنه يكفيها نية واحدة، وعنده: التراويح سُنَّة لا يجوز تركها، وصححه بعضُ الحنفية] اهـ.
وبذلك يظهر أن نصوص الفقهاء قد تواردت على تأكيد سنية صلاة التراويح في رمضان، وكراهية تركها بلا عذر.
حكم ترك أداء صلاة التراويح في المسجد لعذر العمل
أما بالنسبة لمن لا يستطيعُ أن يؤدِّيَ صلاة التراويح جماعة في المسجد بسبب طبيعة عمله الذي يحتم عليه أن يكون موجودًا بشكل دائم ومستمر -وذلك على النحو المذكور في السؤال- فلا حرج عليه في ذلك، ويمكنه أن يصلي التراويح أو ما يقدر عليه من صلاة قيام الليل في أيِّ وقتٍ شاء بعد صلاة العشاء وحتى قبيل وقت صلاة الفجر، سواء كانت صلاته في جماعة أو منفردًا، في مسجدٍ أو في مكان عمله متى تيسر له ذلك، فإن فاتته صلاة التروايح فلا إثم عليه؛ بل يُرجَى له في هذه الحالة أجرُها وثوابُها؛ لأنه متلبسٌ بثوابٍ وأجرٍ آخر من جهة قيامه بأداء عمله، وهو ثواب عمل مفروض، ولأنه لم يتعمد التقصير في ترك هذه السُّنَّة المؤكدة، وقد قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
قال الإمام النسفي في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" (1/ 233، ط. دار الكلم الطيب): [﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ إِلَّا طاقتها وقدرتها؛ لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف، كذا في "شرح التأويلات". وقال صاحب "الكشاف": الوسع ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، ولا يـَحْرَجُ فيه، أي: لا يكلفها إِلَّا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود] اهـ.
وقال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" (ص: 159، ط. المكتبة العصرية) -عند كلامه على قضاء صلاة التراويح لمن فاتته لعذر-: [وهي سُنَّة الوقت لا سُنَّة الصوم في الأصح، فمن صار أهلًا للصلاة في آخر اليوم يُسن له التراويح؛ كالحائض إذا طهرت، والمسافر، والمريض المفطر] اهـ.
وقال العلامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 416، ط. دار الكتب العلمية): [حتى أن المريض المفطر، والمسافر، والحائض والنفساء إذا طهرتا، والكافر إذا أسلم في آخر اليوم تسن لهم التراويح، فكيف يعذر المقيم الصحيح الصائم في تركها؟... وتكره مع غلبة النوم فينصرف حتى يستيقظ؛ لأن في الصلاة مع النوم تهاونًا وغفلةً وترك التدبر ولا خصوصية لها بهذا؛ بل كلُّ الصلوات كذلك] اهـ.
ويستفاد من تلك النصوص أن العذر الذي يمنع من صلاة التراويح، قد يكون بسبب أصل الفطرة؛ كنزول دم الحيض والنفاس على المرأة، وقد يكون بسبب التعب والوقوع في الحرج؛ كالمرض والسفر وغلبة النوم، وغير ذلك من الأعذار التي تبيح للمسلم أن يترك صلاة التراويح؛ لذا فمن باب أولى أن يكون العمل الذي لا يمكن تركه عذرًا يبيح للمسلم أن يترك صلاة التراويح.
فكلُّ مَن يعمل في مكانٍ أو وظيفةٍ ما يُعتبر شرعًا أجيرًا يتقاضى راتبًا نظير عمله الذي يقوم به في وقتٍ معينٍ، فليس له أن ينشغل بعملٍ آخرَ غير ما كُلَّف به، حتى لو كان انشغاله عبارة عن قيامه بنوافل العبادات -كأداء صلاة التراويح-؛ لأن الانشغال بالنوافل على حساب الواجبات والفرائض أمرٌ مخالف للشرع ومستوجبٌ للذم عرفًا.
فإذا تعارض الواجب والمستحب لزم تقديم الواجب، وصلاة التراويح سُنَّة وليست فرضًا؛ فتاركها لا وزر عليه، لكنه يأثم إن عطَّل بها واجبًا أو أهمل في فرضٍ، لأنه تشاغلٌ بغير واجب الوقت، وقد قرر الفقهاء أن إنقاذ المشرف على الهلكة واجبٌ على المستطيع حتى لو أدى إلى ترك الصلاة المكتوبة أو الإفطار في رمضان، فإذا كان ذلك العامل المعيَّن مكلفًا برعاية هذا المريض المعيَّن فإن الحرمة تزداد في حقِّه؛ لأنه تارك لواجب معيَّن، بحيث لو مات المريض مثلًا مِن جراء ترك العامل لرعايته المكلف بها فهو ضامن.
ولعله يدرك فضل وثواب التراويح والحال هذه؛ لأنه كالمحبوس عن إدراك الفضل بسبب اشتغاله بما هو فرض كفائي في حقَّه؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» أخرجه البخاري.
قال الإمام ابن بطال في "شرحه على صحيح البخارى" (5/ 45): [ففى هذا أن الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذي ينويه] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (6/ 47، ط. دار المعرفة): [والمراد بالعذر ما هو أعم من المرض وعدم القدرة على السفر... وفيه: أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل] اهـ.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: حكم صلاة التراويح صلى الله علیه وآله وسلم رضی الله عنه التراویح فی قال الإمام فی المسجد
إقرأ أيضاً:
هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائلها ويغفر له؟
تكثر الاستفهامات والأسئلة عن حقيقة هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائلها ويغفر له؟، والتي يزيد معها الحرص والانتباه بقدر العظمة والمنزلة، وحيث إننا في شهر شوال المبارك وآية الكرسي أعظم آيات القرآن، والصلاة هي ثاني أركان الإسلام الخمس من هنا ينبع السؤال عن هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائلها ويغفر له؟ ، باعتباره أحد أسرار آية الكرسي الخفية ، وهي إحدى آيات سورة البقرة، ولعل حث رسول الله لنا على قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة يشير إلى فضلها العظيم، الذي لا ينبغي تضييعه أو الاستهانة به وتفويته، فقد تحمل معها مفتاحًا لبوابات الخير والرزق والبركة، وهذا ما يطرح السؤال عن هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائها ويغفر له؟.
قال الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إن قراءة آية الكرسي بعد صلاة الفرض أو السنة لها فضل عظيم ونقرأها بعد الصلاة مباشرة.
واستشهد " عويضة" في إجابته عن هل قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة تجعل الله ينظر لقائها ويغفر له؟، بما روي عن جابر بن عبدالله وأنس بن مالك ، وحدثه الشوكاني في الفوائد المجموعة، الصفحة أو الرقم : 299، حديث : ( مَن قرأَ آيةَ الكرسيِّ في دبرِ كلِّ صلاةٍ ، خرقَت سبعَ سمواتٍ ، فلَم يلتَئم خرقُها حتَّى ينظرَ اللَّهُ إلى قائلِها فيغفرُ لَهُ ، ثمَّ يبعَثُ اللَّهُ ملَكًا فيَكْتبُ حسَناتِهِ ويمحو سيِّئاتِهِ إلى الغدِ من تلكِ السَّاعةِ) ، وهو حديث إسناده باطل وله سند آخر فيه مجاهيل.
وجاء أن لقراءتها بعد كل صلاة مكتوبة أجر عظيم، حيث إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ آية الكرسي بعد كل صلاةٍ؛ حيث قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَن قرأَ آيةَ الكرسيِّ دبُرَ كلِّ صلاةٍ مَكْتوبةٍ، لم يمنَعهُ مِن دخولِ الجنَّةِ، إلَّا الموتُ»، أنها تحفظ القارئ لها من العين، والسحر، والمس؛ إذ إن الله- تعالى- جعلها حرزًا من الشيطان، والجن والسحرة، والمشعوذين، فمن قرأها في الصباح حفظه الله تعالى حتى المساء، ومن قرأها في المساء حفظه الله تعالى حتى الصباح، كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأها عند النوم؛ ليدفع بها الشياطين.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الكرسي من سورة البقرة: هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله .. عن أُبي هو ابن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال: الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي».
ودلت السنة النبوية على فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ، فروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: عن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، إِلا الْمَوْتُ». أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير، وابن السني.
ويوضح الحديث أن المداومة على قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ويستمر على قراءتها يستحق الجنة والفاصل بينه وبينها هو الموت لأنه بالموت قد انقطع العمل واستحق الجزاء -الجنة-، وآية الكرسي هي قوله تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» سورة البقرة الآية 255، وسميت بهذا الاسم لذكر الكرسي فيها، ومن يقرأها في الليل أو النهار بأي عدد (أقلها ثلاث مرات) تشرح الصدور وتكشف الهموم والغم والكربات وتحفظ النفس والأولاد والمال.
فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاةقال الإمام ابن كثير رحمه الله عن فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ، مفسرًا آية الكرسي من سورة البقرة: هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله .. عن أُبي هو ابن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال: الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي».
دلت السنة النبوية على فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ، فروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: عن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، إِلا الْمَوْتُ». أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير، وابن السني.
ويوضح الحديث أن المداومة على قراءة آية الكرسي بعد الصلاة ويستمر على قراءتها يستحق الجنة والفاصل بينه وبينها هو الموت لأنه بالموت قد انقطع العمل واستحق الجزاء -الجنة-، وآية الكرسي هي قوله تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» سورة البقرة الآية 255.
وسميت بهذا الاسم لذكر الكرسي فيها، ومن يقرأها في الليل أو النهار بأي عدد (أقلها ثلاث مرات) تشرح الصدور وتكشف الهموم والغم والكربات وتحفظ النفس والأولاد والمال.
فضل آية الكرسيورد أنَّ آية الكرسي من الآيات العظيمة جداً، وَقد رَدَ فضلها في العديد من الأحاديث النبويّة ومنها :
أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: {اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة:255]. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ)، فهي أعظم آية في كتاب الله بِدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه، ومن الجدير بالذكر أنَّ أبي بن كعب -رضي الله عنه- هو سيّدُ القرّاء.
وقد بيّن فضله النبي في الحديث حين لقّبه بأبي المُنذر تكريماً له -رضي الله عنه- وإشارة إلى منزلته العالية، وعندما أجاب عن سؤاله -عليه السلام- دعا له بالبركة في العلم الذي فتح الله به عليه. إنَّ آية الكرسي حرزٌ للإنسان وحِصنٌ له من دخول النّار، بدليل الحديث الذي ورد عن أبي أمامة الباهلي السابق الذكر. إنَّ آية الكرسي حِصنٌ للبيوتِ من دخول الشياطين والجنِّ.
وقد ثبت عن أُبيّ بن كعب أنه رأى جنّياً يريد أن يسرق من طعامه، فسأله أُبيّ بعد أن علِم أنه جنّي: (فما يُنَجِّينَا مِنكُم، قال: هذه الآيةُ التِي في سورةِ البقرةِ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ مَنْ قالَها حِينَ يُمسِي أُجِيرَ مِنَّا حتَى يُصْبِحَ، ومَن قالَها حينَ يصبحُ أُجِيرَ مِنَّا حتى يُمسِي، فلَمَّا أصبحَ أتَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليِه وسلَّمَ فذكر ذلكَ له فقال : صَدَقَ الخبيثُ).
وورد أنّ آية الكرسي خيرُ حافظ ٍللإنسان في يومه، فعند الالتزام بقراءتها قبل النوم تحفظه حتى يصبح، وعند قراءتها حين يُصبح تحفظه حتى يُمسي، مصداقاً لما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزالَ معكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شيطانٌ حتَّى تُصْبِحَ).
تفسير آية الكرسيبدأت الآية الكريمة بإعلان وحدانية الله تعالى؛ فهو الإله الحقّ الذي يستحق العبادة والتأليه، وهو الحيّ القائم بشؤون الكون، لا يغفل عنه بالنوم، ولا يشاركه في ملك السماوات والأرض أحدٌ، ولا يشفع عنده أحد من العالمين دون إذنه، وهو المحيط العليم بتفاصيل الأمور ودقائقها، ويعجز ما دونه عن الإحاطة به -سبحانه وتعالى- إلا بما يريد، وسلطانه واسع، لا يثقله التدبير، وهو العليّ بقدره وكمال صفاته، العظيم بجبروته.
ومَدَحَ الله -سبحانه وتعالى- نفسَه بالآية الكريمة بقوله -تعالى-: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، والحيُّ القيوم صفتان جليلتان تحمل كُلُّ معاني أسماء الله الحسنى، فالحيّ هو الذي لا يموت، وهو الذي لا يَسبقه عدمٌ ولا يلْحقُه زوال، فكل شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ -سبحانه وتعالى-، ومعنى القيوم؛ أنَّ الله قائمٌ بذاته لا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه، وكُلُّ الخلق تَفتقر إليه، فهو الغنيُّ عن جميع خلقه، ومن تمام حياته وقيّوميّته جاء الوصف الإلهي بقول -تعالى-: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)، وكُلُّ ما في الوجود له -سبحانه وتعالى- ومِلكٌ وعبدٌ له، كما أنَّ الله -عز وجل- لا ينام ولا يُصيبه النعاس، وهذا من كمال قيّوميّته.
كما أنَّ الله -تعالى- عليمٌ بكلّ شيء، فهو الذي يَعلم ما في الماضي والحاضر وما سيقع في المستقبل، وهو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، وكُلُّ مَن يعلمُ بعلمٍ على الأرض لم يكن لِيعلمه لولا أنَّ الله أذِنَ له بذلك، و لا تحدث شفاعة عند الله إلا برضاه وبعد إذنِه، وحتى الرسول -عليه السلام- إذا أراد الشفاعة من الله يأتي تحت العرش ويخرُّ ساجداً ويدعو الله ويَحمده ويُثني عليه، فلا يرفع رأسه إلا بعد أن يأذن الله -تعالى- له ويقبل طلبه بالشفاعة.
وسُمّيت آية الكرسيّ بهذا الاسم لورود الكرسيِّ العظيم فيها، قال الله -تعالى- في القرآن الكريم: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، والمقصود بالكرسيّ هو كناية عن عِظَم العلم وشموله، وهو القول المشهور عن ابن عباس، وفي هذا إظهار لِسعة ملكه -سبحانه وتعالى-.
وقد استوى الله -عز وجل- على العرش استواءً يليق بجلاله، والله لا يعجزه حِفظُ جميعِ مخلوقاتِه في وقتٍ واحدٍ، وهذا شيءٌ يَسير على الله -سبحانه وتعالى-، ولا يُعجزه ولا يُثقله شيء، فهو الذي جلَّ وعلا بذاته، وعليٌّ بقهره وسلطانه، وعليٌّ بمكانه، وفي الآية إشارة إلى كمال قدرة الله بعظم مخلوقاته، وكمال قدرته وحفظه ورحمته، فلا يُثقله ولا يعجزه شيء.
آية الكرسيتُعتبر آية الكرسي من أعظم آيات القرآن الكريم، وهي الآية رقم "255" من سورة البقرة، وتضمّنت أسماء الله -عزّ وجلّ- وصفاته وأفعاله، وورد فيها اسم الله الأعظم، وهو اسم: الحيّ القيوم، وذكر النوويّ اتفاق العلماء على أنّ ما يُميّز آية الكرسي أنّها جمعت من أصول الأسماء والصفات: الألوهيّة، والوحدانيّة، والحياة، والعلم، والملك، والقدرة والإرادة، وهذه السبعة هي أصول الأسماء والصفات، وسُمّيت الآية باسم آية الكرسيّ؛ لاحتوائها على مفردة الكرسي في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، ولم يرد ذكر هذه المفردة في غير هذا الموضوع من القرآن كلّه.
وقد نزلت آية الكرسي في المدينة المنورة ليلاً، فأمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- زيداً بكتابتها، وذكر محمد بن الحنفية أنّه لما نزلت آية الكرسي: سقطت الأصنام، وخرّ الملوك وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضها بعضاً حتى أخبروا إبليس بالأمر، فأمرهم بالتحقّق، فجاءوا إلى المدينة المنورة، فوجدوها قد نزلت، ومن الجدير بالذكر أنّ آية الكرسي تضمّنت توحيد الله تعالى وصفاته العلا، وذكر ابن عباسٍ؛ أنّ أشرف آيةٍ في القرآن الكريم، هي آية الكرسي.