آرون بوشنال.. مفاتيح الجنة ومغاليق النار
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
هو الحدث الأبرز خلال الأيام القليلة الماضية وليس التعتيم الإعلامي الغربي القوي على الحدث إلا تأكيدا غير مباشر على أهميته والخوف من ارتداداته الكارثية على كامل البناء الغربي. الحدث على غاية كبيرة من الخطورة في العمق رغم أنه مرّ مرورا عابرا على مواقع الإعلام الرسمية العالمية عن قصد.
كيف لجندي أمريكي في سلاح الطيران يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما أن يُقدِم على حرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية وأن تكون آخر كلماته "لن أشارك في المذبحة" "الحرية لفلسطين.
من جهة أخرى تختلف قراءة الحدث اختلافا جوهريا بين سياقها الغربي عامة والأمريكي تحديدا وبين سياقها العربي والمشرقي لكنها رغم ذلك تفرض فهم المشهد شروطا وسياقا ومكوناتٍ وتُلزم تبيّنَ الخطوط الناظمة لهذا الفعل الإنساني الأقصى ورصدَ الحدود الفاصلة بينه وبين نفس الفعل في السياق العربي الإسلامي.
الفعل الأقصى والفعل الأدنى
أن يُقدِم الإنسان على حرق نفسه احتجاجا على أمر ما فتلك أعلى مراتب العنف وإنكار الذات لأن قيمة ردة الفعل بالنسبة للفاعل في هذه الحالة تتجاوز الفعل نفسَه مهما كان حجمه. لكنّ الفاعل في هذه الحادثة يَعتبر أنّ الموت حرقا لا يساوي شيئا مقارنة بالفعل أو الحدث الذي انْبنت عليه ردة الفعل.
هذا البناء النظري هو الذي عبر عنه "آرون بوشنال" لفظيا في الثواني الأخيرة التي سبقت إشعال جسده حين قال " إنه مقدم على فعل أقصى لكنه فعل لا يساوي شيئا مقارنة مع ما يحدث في فلسطين وأنه يرفض أن يكون شريكا في المذبحة ".
الفعل القادح لحرق الذات هي المذبحة الفلسطينية المفتوحة في غزة وهو ما يعنى أن ردة الفعل تَعتبر حرق الذات لا يساوي شيئا في نظرها مع المذبحة المفتوحة. هذا الفعل الرمزي الأقصى والمتطرف كما وصفه صاحبه لا يقارن بتطرف ما يحدث في غزة.
الدافع للفعل إذن دافع موضوعي وليس دافعا ذاتيا وهو ما يختلف جوهريا مع تجربة البوعزيزي في تونس مثلا والذي أشعل النار في جسده بدافع الغضب ذاتي ضد الإهانة والفقر والتهميش. لذا فإن المقارنة بين حالة البوعزيزي التونسي وبوشنيل الأمريكي لا تستقيم في دوافعها وسياقها وبالتالي لن تستقيم في أفق توقع هزاتها الارتدادية.
يحمل الضابط في سلاح الجو الأمريكي رتبة عسكرية وهو ما يمنح الحركة الاحتجاجية بعدا آخر لا يقل خطورة عن بقية الأبعاد لأنه يحدد الجهة التي يصدر عنها الفعل أولا ولأنه يصدر ثانيا عن أداة من أدوات المذبحة في غزة بما أن الجيش الأمريكي يشارك بشكل مباشر في عمليات التغطية السياسية من جهة وفي العمليات البرية من جهة أخرى.
أما اختيار مكان الاحتجاج أمام بوابة السفارة الصهيونية فهو ما يمنح الحركة عنوان الرسالة التي تريد إرسالها والطرف المعني بها والمسؤول عن المذبحة المفتوحة في غزة أي دولة الاحتلال.
دلات الفعل الاحتجاجي الأقصى في سياقها الغربي مختلفة تماما عن دلالاتها وأبعادها في السياق العربي فهي ليست حركة يائسة يعاني صاحبها من غضب عارم دفع به في لحظة انقطاع إلى إشعال النار في جسده بل هي أولا وقبل كل شيء رسالة مباشرة يكون ثمنها أغلى ما يملك الإنسان بل إن ثمنها هو كل ما يملكه أي الإنسان نفسه.
"آرون بوشنال" ثائر كوني أقصى أقدم على حركة عنيفة في سياق دموي قاتل مستنسخا عنف الواقع ومتشرّبا وحشية الفعل البشري في غزة رافضا أن يكون شاهد زور على محرقة قصوى.الفاعل تحرك بشكل واع مرتديا بزته العسكرية واختار المكان المناسب وحافظ على البث المباشر حتى يضمن وصول الرسالة لمعرفته بالهيمنة الموجودة على الإعلام الرسمي. اختار كلماته الأخيرة بكل عناية حتي يقطع الطريق أمام التفسيرات المضللة بعد وفاته.
حركة ردّ الفعل إذن حركة قصوى لكنها واعية وهو ما يميّزها تماما عن كل حركة مشابهة تكون مؤسسة على انقطاع عصبي ذاتي منفصل بدوره عن الوعي بها وبسياقها ورمزيتها وارتداداتها.
مفاتيح الجنة ومغاليق النار
بالعودة إلى السياق العربي فإن أهم ما يمكن أن يذكر في سياق ردود الفعل على حادثة الحرق هو اختلاف التأويلات بين من يدعو للرجل بالرحمة بل ويحسبه شهيدا وبين من يرى فيه منتحرا "قد مات على الكفر". التعويل على مقولة الكفر والإيمان والجنة والنار هي أشد الثنائيات خطرا على الوعي الجمعي في البلاد العربية لأنها تُلغي كل الأبعاد الإنسانية وتقفز على كل المستويات الأخلاقية الكونية لتحصر الفعل والفاعل في ثنائية قاتلة هي الجنة والنار.
إن التلويح بمفاتيح الجنة ومغاليق النار هي في حدّ ذاتها ردة فعل قصوى من فاعل عربي مسلم عاجز مخدّر في مواجهة فعل أقصى يتجاوزه في الرمزية والإسناد والنصرة متمثلا في حادثة الحرق.
لا أعتقد أن مثل هذا التعويم السياقي والدلالي بحدّيْه قد خطر على بال "أرون بوشنال" لأن رسالته ليست موجهة إلى العالم العربي والإسلامي ولا هي نابعة منه أو هي معنية به. إن العنصر الوحيد الذي يتصل بهذا الفعل الاحتجاجي في العالم الإسلامي إنما يقتصر على مذبحة غزة وعدالة قضية فلسطين فقط.
من جهة أخرى لم يطرح السياق العربي الإسلامي بما فيه السياق النخبوي على نفسه أسئلة مركزية تفضح محاولته التستّر بالتكفير والتلويح بمفاتيح الجنة ومغاليق النار لتضليل المتلقي المسلم والتغطية على خذلانه هو لأهل غزة.
لماذا ذهب الجندي الأجنبي إلى هذا الفعل الأقصى وهو غير معنيّ بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية عربية إسلامية أساسا؟ هل فجّر الرجل بعدا جديدا في القضية وهو البعد الانساني الذي يتجاوز الجنسية والأرض والدين؟ هل يستطيع هذا البعد الجديد أن يفضح قصور الأبعاد الثلاثة السابقة وأن يحقق ما لم يحققاه منذ أكثر من خمس وسبعين سنة؟ لماذا ذهب الفاعل الأمريكي إلى ردّة الفعل القصوى في حين لم تحقق الفواعل العربية وهي بالملايين حتى ردّة فعل دنيا؟ أين مكمن الخلل؟
الخلل دون شك كامن في الجبهة العربية وتأويلاتها الإسلامية المشوّهة التي أوصلت الأمة وشعوبَها إلى حالة من الهوان والخذلان لم يسبق لها نظير من قبل. من يستطيع أن ينكر اليوم كيف تحولت أدوات النهوض العربي أو الإسلامي إلى أغلال تكبّل حركة الشعوب وتمنعها من التحرر؟ من يستطيع أن ينفي اليوم أن شعوبا غربية "كافرة" بالمنطق السابق قد انتفضت نصرة لفلسطين ورفضا للمذابح هناك ؟ ومن يستطيع أن ينكر أن شعوبا "مسلمة" بمئات الملايين قد خذلت أهل غزة خذلانا لم يسبق له مثيل متذرّعة بالخوف من الاستبداد؟
في الحقيقة لم تتمثل الشعوب العربية ثنائية الجنة والنار بقدر ما تستعملها غطاء لإنكار فعلٍ عجزت هي عن إتيانه. "آرون بوشنال" ثائر كوني أقصى أقدم على حركة عنيفة في سياق دموي قاتل مستنسخا عنف الواقع ومتشرّبا وحشية الفعل البشري في غزة رافضا أن يكون شاهد زور على محرقة قصوى. سلاما إلى روح "آرون بوشنال".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الجندي امريكا غزة جندي رأي حرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا الفعل وهو ما من جهة فی غزة
إقرأ أيضاً:
المنجز الثقافي والاندماج الشبابي
الأسبوع المنصرم، اتجهت أنظار المشهد الثقافي في عُمان تجاه الإعلان عن الفائزين بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وذلك عن دورتها الحادية عشرة، والجائزة إذ تكمل هذه الدورة لتترك من خلفها إرثًا من التأصيل والعناية بالمشهد الثقافي والمثقفين، باتساع مفهوم الثقافة وأبعادها، فقد أبرزت الكتّاب في مختلف الأشكال الكتابية، والرواة، والشعراء، وصناع الأفلام والسينما، والباحثين في العلوم الإنسانية بتفرعاتها، والفاعلين الإعلاميين، وكرّمت مسيرة جملة من الفاعلين الثقافيين العرب، في الوقت ذاته الذي توّجت وأبرزت فيه أسماء لامعة ومشتغلة اشتغالًا جادًا بالفعل الثقافي المحلي، ولعل أهم ما يميز الجائزة -علاوة على قيمتها المادية والمعنوية والاسم الذي تحمله- هو التجديد في مجالاتها، والنظر الموزون حسب المجالات، إما إلى الابتكار في الأعمال المقدمة، أو الإرث الذي قدمه المشارك، وخاصة فيما يتعلق بالجائزة التقديرية، إضافة إلى التزامها بإثراء المشهد الثقافي من خلال المعايير العملية التي تحددها لشكل الإنتاج الثقافي الذي يستحق أن يُكرّم ويُخلّد.
أما فيما يتصل بالأسماء التي حازت الجائزة في دورتها الحالية، فقد امتازت بكونها أسماء شبابية خالصة، من المبدعين في الفعل الثقافي العماني، فقد حاز الإعلامي أحمد الكلباني عبر برنامجه «شاهد فوق العادة» على الجائزة عن «فرع الفنون» وفي مجال البرامج الإذاعية، فيما حصلت الشاعرة شميسة النعمانية على الجائزة عن «فرع الآداب» وفي مجال الشعر العربي الفصيح.
ولعلي متابع للمنتج الفائز عن مجال البرامج الإذاعية، وقد وجدت فيه ثلاث سمات أساسية، أولها محاولة البرنامج إضفاء التجديد والابتكار على نمط البرامج الإذاعية، وذلك من خلال المزج بين السرد الإذاعي والتمثيل، وثانيها أن البرنامج يحاول التقاط مشهد الحياة اليومية، ولكن بالطريقة التي تجعل المتلقي أيضًا في حال التساؤل وتكرار ذلك التساؤل، وثالثها أن البرنامج يوازن ذاته بين الطرق المبتكرة في إنتاج البودكاست وبين كونه برنامجًا يصلح للعرض والبث على الإذاعة بصورتها التقليدية، وهذا نموذج في تقديري يحفز على أن يكون الفعل الثقافي مبتكرًا، ومجددًا، ومنافسًا، وهو ترجمة أصيلة لتحقيق أحد أهم أهداف الجائزة والمتمثل في «غرس قيم الأصالة والتجديد لدى الأجيال الصاعدة، من خلال توفير بيئة خصبة قائمة على التنافس المعرفي والفكري، وفتح أبواب التنافس في مجالات العلوم والمعرفة القائم على البحث والتجديد».
ويجد المتتبع للدورات السابقة من الجائزة أن الأعمال والأسماء الفائزة فيها تؤكد على أربع قيم أساسية في حقل الاشتغال الثقافي، في تقديري هي الاشتغال الجاد، والالتزام بأصول الحرفة وتأصيلها المعرفي، ومحاولة الابتكار والتجديد، والقيمة المضافة للحقل أو المجال الذي ينشط فيه الفاعل الثقافي.
ولنا أن نستذكر من قائمة الفائزين فرقة مسرح الدن للثقافة والفن، التي قدّمت أعمالًا مسرحية رائدة في مجال الفرق المسرحية، وكان لها الدور في بروز أسماء لامعة في المسرح العُماني، وحظيت أعمالها وعروضها بشعبية وحضور في مختلف المحافل لما تحمله من تركيز على رسالة النص، وعلى الالتزام بمعايير الأداء المتميزة لممثلي عروضها.
ولنا أن نستذكر أيضًا فوز المكرم الأستاذ الدكتور عبدالله بن خميس الكندي في مجال دراسات الإعلام والاتصال، فعوضًا عن تجربته الأكاديمية الواسعة وتخرج أسماء بارزة في حقل الصحافة على يده؛ فقد قدّم الكندي كذلك دراسات معمقة لحقل الدراسات الاتصالية، سواء عبر تتبع تاريخ الصحافة العُمانية وروادها وتأثيرها، أو البحث والتحليل في السياسات الإعلامية، أو تتبع التغطيات الصحفية للحروب والأزمات.
هذه نماذج لأسماء مهمة ونشطة قدّمتها الجائزة وقدّرتها، وهي امتداد لأسماء أخرى في مختلف دوراتها ومجالاتها.
إذن، تقدّم الجائزة عنصرًا مهمًا من عناصر تجويد الفعل الثقافي في عُمان، ولكن هناك سؤالان مزدوجان تفرض الحالة الثقافية طرحهما، لماذا نحتاج إلى توسعة الفعل الثقافي في عُمان اليوم؟ وما الذي يحتاجه الفعل الثقافي ليؤدي دوره الوظيفي المنشود في المجتمع؟
الفعل الثقافي، في وظائفه المختلفة، إنما هو في تقديرنا فعل تأصيل، وفعل ترويح، وفعل تنوع، وفعل حفظ للذاكرة، وفعل استنهاض، وفعل استشعار، وفعل تخييل، وما أحوج المجتمع اليوم إلى هذه المعادلة المهمة، فبالفعل الثقافي نؤصل القيم والأخلاقيات المهددة، ومعه يروح المجتمع عن ضغوطات الواقع المعاش، وعن تعقيد الحياة وتراكماتها، وهو حفظ لأصل التنوع في المجتمع ومحفز للاندماج بشكل أكبر بين مكوناته وأطيافه، وتأكيد على انصهاره، وهو كذلك فعل حفظ لذاكرتنا التاريخية والثقافية واللحظية، ونقل تلك الذاكرة عبر الأجيال بفنون وأفعال مختلفة، وهو استنهاض للواقع واستشعار لما يعتريه من مشكلات خافتة وأزمات بائنة وغير بائنة، كما أنه فعل تخييل للمستقبل، وللواقع المرجو والمتصور والمأمول؛ ولكن لكي تتحقق كل تلك الأدوار والوظائف للفعل الثقافي، فإنه مطالب اليوم بأن يكون أكثر قربًا من مجتمعه، وأكثر تلامسًا مع الحياة المعيشية، فالمسرح اليوم يجب أن يجوب كل الولايات العُمانية، ويتخذ من المسارح المفتوحة والمتلاقية مع حياة الشارع نهجًا ليستمر ويؤثر، وكذا يسري ما يسري على القصيدة، والرواية، والفيلم، والدراسة العلمية، والفن الشعبي، والتصوير، والرسم، والنحت، والتشكيل، ومختلف أنواع الفعل الثقافي.
إن جزءًا من التنمية المحلية في تقديرنا ينبغي أن يُوجَّه اليوم إلى الكيفية التي يمكن من خلالها أن يكون الفعل الثقافي حاضرًا في كل بقعة ومستمرًا، وليس مقتصرًا على المهرجانات الكبرى أو على الفعاليات المركزية، وليس بالضرورة أن يكون فعلًا غارقًا في المؤسسية، بل إن يكون من الناس ومتفاعلًا معهم، يضفي لحياتهم المعنى المنشود، ويحقق في ذاته الرسالة الأصيلة للثقافة والفعل الثقافي.