استعراض لكتاب أحمد العوض محمد: “قوة دفاع السودان: أصلها ودورها، 1925 – 1955م”
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
Reviewed work: Sudan Defence Force: Origin and Role, 1925 – 1955, Institute of African and Asian Studies Occasional Paper No. 13) Ahmad al-'Awad Muhammad
Martin Daly مارتن دالي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لاستعراض المؤرخ مارتن دالي (1950 - ) لكتاب أحمد العوض محمد (سيكنجة) عن قوة دفاع السودان، نُشِرَ عام 1982م في المجلد الثالث والستين لمجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR"، صفحات 159 – 161".
ويُعد مارتن دالي واحداً من أهم المؤرخين الأجانب للسودان ومصر (خاصة فيما يتعلق بتاريخ عهد الحكم الثنائي)، وله العديد من المؤلفات مثل "امبراطورية على النيل" و"أحزان دارفور"، و "صور الإمبراطورية". وله أيضا كتاب "تاريخ السودان منذ مجيء الإسلام ..." بالاشتراك مع ريتشارد هيل، وكتاب عن "الحرب الأهلية في السودان" بالاشتراك مع أحمد العوض سيكنجة (1). ولدالي أيضا عدة مقالات عن السودان منها مقال مشهور نشر عام 1983م عن "رسائل وينجت". درس بروفيسور دالي في جامعة مكغيل الكندية، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1977م من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، ثم عمل في التدريس والبحث بعدد من الجامعات الأميركية وجامعة درم البريطانية.
المترجم
************* ************* ************
لا تزال الكثير من مجالات التاريخ السوداني الحديث غير مستكشفة، حتى أنه ليس بإمكان المرء الآن الرجوع إلى ملخص تاريخي منشور عن قوة دفاع السودان، ذلك الذراع العسكري للحكم الإنجليزي - المصري منذ عام 1925م حتى الاستقلال في عام 1956م. والعمل الذي نستعرضه هنا (وهو في الأصل أطروحة كُتِبَتْ للحصول على درجة الماجستير في جامعة الخرطوم) هو محاولة ناجحة إلى حد كبير لسد هذه الفجوة.
لقد ظلت مسؤولية الأمن الخارجي والشرطة المحلية / الداخلية للسودان حتى عام 1925م ملقاة على عاتق الجيش المصري الذي غزا البلاد خلال حملات أعوام 1896- 1898م ضد الدولة المهدية. ووقع تمرد لتلك القوات المصرية في أم درمان عام 1900م (2) نتيجة لانعدام حساسية كتشنر ومعاملاته غير اللائقة مع مرؤوسيه المصريين، وعمل ذلك التمرد المصري على تأكيد شكوك المسؤولين البريطانيين في أن الجيش المصري في السودان كان يمثل تهديداً، بقدر ما كان يمثل ضمانة (لحكمهم)؛ وبالتالي فقد انتهج المسؤولون البريطانيون سياسة أمنية شملت تمركز حامية بريطانية في السودان، والقيام بحملة مُتَقَطِّعة ومحبطة (ولكنها غير فعالة إلى حد كبير) لتقليل تأثير الضباط والجنود المصريين على زملائهم ومرؤوسيهم السودانيين. وأتخذ مسؤولون بريطانيون رفيعو المستوى في الخرطوم من المشاركة البارزة للضباط السودانيين والضباط السابقين والطلاب العسكريين في الاضطرابات السياسية التي حدثت عام 1924م، واغتيال السير لي ستاك، حاكم عام (سردارد) السودان القاهرة، ذريعةً طال انتظارها (وإلى حد ما، دون عائق) لفك ارتباط مصر عسكرياً مع السودان. وقاوم بعض الضباط والجنود السودانيين ذلك التحرك البريطاني الأحادي الذي يتعارض بشكل واضح مع قسم الولاء لملك مصر، وتم قمعهم بعنف في الخرطوم فيما سُمِّيَ بأسماء متنوعة مثل "الفوضى" أو "الثورة" أو "الاضطرابات" في 27-28 نوفمبر من عام 1924م.
وأفضى إخراج كتائب وضباط المصريين من السودان إلى تمهيد الطريق لإنشاء قوة دفاع السودان، على نطاق أصغر بكثير. وكانت تلك القوة تدين بالولاء المباشر (والحصري) لحاكم العام السودان البريطاني الجنسية، وكانت أقرب إلى أن تكون قوات شبه عسكرية أو قوات درك / جًنْدَرْمة gendarmerie . وكانت قوة دفاع السودان نفسها موضع شك عميق عند السلطات البريطانية، مما جعلهم يبقون على حامية بريطانية (بالخرطوم) لضمان استقرار الأمن الداخلي.
وكما قال الجنرال هدليستون Huddleston، أول قائد لقوة دفاع السودان في عام 1931، فقد كانت مهمة الحامية البريطانية هي "هزيمة قوة دفاع السودان" (صفحة 61 من الكتاب). وبالإضافة لأداء مهام الشرطة المحلية، التي كان بعضها (يُسَمَّى بشكل ملطف "دوريات" في جنوب السودان) في الحقيقة حملات عسكرية مكتملة الأركان. وكان أهم انتصار لقوة دفاع السودان هو هزيمتها للإيطاليين في الحرب العالمية الثانية.
تتكون دراسة أحمد العوض من خمسة فصول، يتناول الأول منها وصفاً للجيش المصري، ولإنشاء قوة دفاع السودان، بينما يتناول الفصل الثاني هيكلية تلك القوات وتنظيمها. أما في الفصل الثالث، فقد قام الكاتب فيه بمناقشة دور قوة دفاع السودان في حفظ الأمن الداخلي، خاصة فيما يتعلق بأربع حملات محددة، نصفها في جبال النوبة عام 1926م، والنصف الآخر ضد النوير في عامي 1927 و1928م. وتناول الفصل الرابع "الدور الأجنبي" لتلك القوة، تناول فيه بصورة أساسية دورها في الحرب العالمية الثانية. أما في الفصل الأخير فقد تناول الكاتب دور قوة دفاع السودان في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية.
إن قوة هذا الكتاب الحقيقية تكمن في أن نهجه كان نهجاً واقعيا وعمليا matter - of - fact approach: فهذا الكتاب هو عمل وصفي، وليس تحليلي. ولم يكن المؤلف غافلاً عن الآثار المترتبة على الظهور المتكرر في جميع أنحاء الشؤون العسكرية المشتركة لضباط سودانيين قُدر لهم تحقيق أشياء أكبر بعد الاستقلال. كيف كانت علاقة هؤلاء الضباط بالمجتمع السوداني؟
يقول المؤلف في ص 60 من الكتاب:
"إن انخراط الجنود في تنظيم حديث وعقلاني (rational) بتقنيات وتدريبات حديثة وقيم جديدة من "النظام" و"الطاعة" كان يجذبهم في اتجاه واحد، بينما كانت خلفيتهم الاجتماعية وظروف معيشتهم تجذبهم إلى مجتمعهم التقليدي .... وعندما وصلوا إلى السلطة، ظلوا منشغلين بالمراسيم (decrees) عوضاً عن المناقشات والمناظرات (debates)، وبنصوص القانون عوضاً عن (نيل) التأييد الشعبي".
ومع ذلك، يذكر ذات المؤلف في جزء الخلاصة، الذي جاء مقتضباً للغاية، التالي في صفحة 111:
"وعوضاً عن أن تصبح قوة دفاع السودان هي محور ونواة الحركات الوطنية، غدت تلك القوة واحدةً من أكبر دعائم النظام الكلولونيالي، الذي اعتمد عليها في تعامله مع المقاومة المحلية". وهكذا يتم هنا تقديم الجنود كما كان البريطانيون يرونهم بالفعل؛ ومن الصعب تجنب استنتاج مفاده أن إزالة الحامية الإنجليزية - المصرية عشية الاستقلال كانت أكثر أهمية في تطور السياسة السودانية من الاستقلال السياسي نفسه.
يمكن اعتبار كتاب "قوة دفاع السودان" "مقدمة" لتاريخ تلك القوة وليس تاريخا "شاملاً" لها. وفي واقع الأمر، أخفقت محاولة جعل الكتاب في بعض أجزائه يبدو مكتملاً، كما هو الحال في القسم الفرعي الخاص بالمعدات العسكرية الذي جاء من جملتين فقط (صفحة 43)، وفي الأقسام الخاصة بالمناطق العسكرية المختلفة (صفحات 54-57)، حيث كانت المعلومات المقدمة قليلة جدا. وتُعد الجداول العديدة في الكتاب توضيحية بشكل مفيد: كان أفضلها يوضح انخفاض أعداد القوة العسكرية لقوات دفاع السودان بعد عام 1924 (صفحة 36)، على الرغم من أن قيمة جدول آخر يوضح جدول الأجور (صفحة 58) كانت أقل بسبب عدم إيراد أي تَوارِيخ به. أما فيما يتعلق بالمصادر، فقد اعتمد المؤلف بأكثر مما ينبغي على المقابلات التي أجراها مع العسكريين السودانيين الذين تقاعدوا عن العمل في قوة دفاع السودان، وذلك للحصول على مصادر معلومات، بينما كانت تلك المعلومات متوفرة أصلاً في وثائق معاصرة، هي الأفضل. ولكن، من جانب آخر، كانت الأوراق الخاصة بدكتور عثمان أبو عكر (23) مصدراً مهماً من مصادر الكتاب، خاصة فيما يتعلق بعملية السودنة.
ورغماً عن الأخطاء التحريرية التي شابت الكتاب (خاصة تلك المتعلقة بهفوات عديدة في التهجئة، وفي دقة أو اكتمال التفاصيل الببليوغرافية، ووضع خريطة في غير موضعها الصحيح بالكتاب، وعدم توضيحها للأماكن التي ذُكِرَتْ في النص)، وبعض الأخطاء المتعلقة بحقائق مثبتة (factual errors)، فإن هذا الكتاب قد أُخْرِجَ إخراجاً جيداً، وقاوم إغراء القول بأنه "مجرد أطروحة ماجستير". من الواضح أنه تم إجراء مراجعة كبيرة للأطروحة، وذلك من باب التقدير للجودة الأساسية في هذا العمل البحثي الأول لمؤرخ سوداني واعِد، ولفريق الإنتاج المشارك في نشره.
******** ***** ******* *******
إحالات مرجعية
1/ https://history.osu.edu/people/sikainga.1
2/ للمزيد عن تمرد القوات المصرية بالسودان عام 1900م يمكن النظر في مقال لكاتب هذا الاستعراض، تجد ترجمة له في هذا الرابط: https://shorturl.at/szEQR
3/ يمكن معرفة المزيد عن دكتور عثمان أبو عكر في هذا الرابط: https://shorturl.at/kGWX6
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السودان فی فیما یتعلق تلک القوة
إقرأ أيضاً:
المجاعة تنهش السودان حيث “لا طعام ولا دواء ولا أي شيء”
“شهدت هذه الأمّ البالغة 40 عاما التي لا حول لها كيف انطفأت ابنتها رانيا في ربيعها العاشر قبل أن يهلك منتصر في شهره الثامن في مخيّم زمز”
التغيير: وكالات
في خلال شهرين، دفنت منى ابراهيم اثنين من أولادها قضيا جوعا في مخيّم للاجئين في السودان الذي تنهشه حرب أهلية منذ حوالى سنتين بين الجيش وقوّات الدعم السريع.
ووفقا لـ”فرانس برس” شهدت هذه الأمّ البالغة 40 عاما التي لا حول لها كيف انطفأت ابنتها رانيا في ربيعها العاشر قبل أن يهلك منتصر في شهره الثامن في مخيّم زمزم.
وهي باتت تخشى على حياة ابنتها رشيدة (4 سنوات) التي تعاني من فقر حادّ في الدمّ بلا أيّ رعاية طبّية.
وتتحسّر في تسجيل مصوّر أرسلته عبر “واتساب” لوكالة فرانس برس أمام مأوى بلا سقف قرب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي تحاصرها قوّات الدعم السريع منذ مايو “أنا خائفة جدّا أن تضيع منّي. نحن متروكون”.
وتؤكّد “ليس هناك طعام ولا دواء ولا أي شيء”.
وتروي منى كيف فقدت اثنين من أولادها وهي عاجزة عن مساعدتهما “ما كان لي سوى أن أضمّهما وهما يحتضران”.
وكانت رانيا أوّل من لقي حتفه في المستشفى الوحيد في الفاشر الذي ما زال قيد الخدمة لكنّه يعاني نقصا شديدا في الطواقم والمعدّات الطبية، في نوفمبر بعد ثلاثة أيّام من إدخالها بسبب إسهال حادّ. وبعد بضعة أسابيع، لحقها منتصر بعدما انتفخ جسده الصغير بسبب سوء تغذية حادّ.
هذا كلّ ما لدينا
أُعلنت حالة المجاعة في مخيّم زمزم الشاسع الذي أنشئ سنة 2004 ويضمّ ما بين 500 ألف ومليون شخص، بالاستناد إلى نظام تصنيف مدعوم من منظمات الأمم المتحدة. وانتشرت في مخيّمين آخرين وفي بعض أنحاء جبال النوبة في جنوب البلد.
وأنكرت الحكومة الموالية للجيش حدوث مجاعة في البلد، في حين يعاني ملايين الأشخاص نقصا في التغذية.
في “سلام 56″، إحدى الوحدات الـ48 المكتظّة باللاجئين التي تشكّل مخيّم زمزم، تهزّ أمّهات أطفالهن الذين يعجزون عن المشي من شدّة الإنهاك. وتتشارك عائلات بقايا طبق فول لا طعم له.
وتقرّ راوية علي (35 عاما)، وهي أمّ لخمسة أطفال “هذا كلّ ما لدينا”. وإلى جانبها دلو فيه ماء عكر من خزّان لمياه الأمطار على بعد ثلاثة كيلومترات “تشرب منه الحيوانات ونحن أيضا”.
وتعيش في “سلام 56” أكثر من 700 أسرة نزحت من جرّاء الحرب الطاحنة التي تدور منذ أبريل 2023 بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوّات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي”.
ويقول المنسّق المشرف على الوحدة آدم محمود عبدالله إنه لم يتلقّ سوى أربع شحنات من المساعدات الغذائية منذ اندلاع الحرب، تعود آخرها إلى سبتمبر مع حوالى عشرة أطنان من الدقيق، و”مذاك، لم يصلنا شيء”.
ويعكس البؤس الذي حلّ بزمزم ضراوة هذه الحرب التي أودت بحياة عشرات الآلاف وهجّرت أكثر من 12 مليون شخص وتسبّبت بـ”أكبر أزمة إنسانية تسجّل على الإطلاق”، بحسب “لجنة الإغاثة الدولية” (آي آر سي).
قرارات تدمي القلوب
وعلى مسافة نحو 700 كيلومتر من جنوب شرقي مخيّم زمزم، ليس الوضع أفضل حالا.
وأمام أحد آخر المطابخ الجماعية قيد العمل في مدينة ديلينغ في جنوب كردفان، تمتدّ طوابير الانتظار إلى ما لا نهاية له، بحسب ما تخبر نازك كابالو التي تدير مجموعة للدفاع عن حقوق النساء.
وفي الصور التي تشاركتها مع وكالة فرانس برس، رجال ونساء وأطفال هزلى منتفخي البطون عظامهم ناتئة يصعب عليهم الوقوف من شدّة الإنهاك.
وبعد أيّام من دون أيّ لقمة تسدّ الرمق، “ينهار البعض منهم… في حين يتقيّأ البعض الآخر عندما يحصل على بعض الطعام”، بحسب كابالو.
وفي كردفان الجنوب التي كانت في ما مضى منطقة زراعية غنيّة، يقتات بعض المزارعين بذورا كان يفترض بهم زرعها أو يغلون أوراق نبات.
وتؤكّد كابالو “بتنا نلحظ الجوع في مناطق لم تشهد سابقا مجاعة”.
وقد حلّ الجوع بهذا البلد الزاخر بالموارد الطبيعية، حتّى على بعد مئات الكيلومترات من المناطق التي ضربتها المجاعة.
وفي القضارف، على بعد 400 كيلومتر من جنوب شرق الخرطوم، حيث يعيش أكثر من مليون نازح، تصل عائلات فارة من المعارك الضارية يائسة ومتضوّرة.
وتخبر ماري لوبول مديرة الشؤون الإنسانية في منظمة “أنقذوا الأطفال” غير الحكومية لوكالة فرانس برس أنها رأت “أطفالا شديدي الهزل تسيل أنوفهم ويعانون التهابا في ملتحمة العين. ويتّخذ الأهل قرارات تدمي القلوب ليحدّدوا أيّا من أطفالهم تحتّم عليه الموت”.
تداعيات طويلة الأمد
في جنوب العاصمة الخرطوم، أخبر عمّال في برنامج الأغذية العالمي أنهم رأوا أشخاصا “هم جلد على عظم” يقتاتون عدسا وحبوبا مغلية، بحسب ما نقلت ليني كينزلي المسؤولة عن التواصل في البرنامج لوكالة فرانس برس.
وتؤّكد المنظمات المعنية بالمساعدات الإنسانية أن الحرب تجعل عملها شبه مستحيل.
وتكشف لوبول “لا يمكننا بكلّ بساطة أن نحمّل الإعاشات في شاحنة وننقلها إلى المناطق المتأثّرة بالمجاعة. فحواجز العبور وقرارات الرفض وعمليات النهب من جماعات مسلّحة تحرم من هذه المساعدات من هم بأشدّ الحاجة إليها”.
ومن دون تحرّك سريع، قد تعيث المجاعة خرابا في البلد، بحسب منظمات غير حكومية.
وتحذّر لوبول من أن “أشخاصا يموتون راهنا لكنّ التداعيات الطويلة المدى ستلاحق السودان على مدى أجيال”.
ومع حلول الليل في مخيّم زمزم، تتمدّد ابنة منى ابراهيم على الفراش بلا طاقة ومقطوعة النفس. وتقول والدتها “لا أعلم إلى أي حد يمكننا أن نصبر”.
الوسومالحرب السودانية المجاعة في السودان