في كتابة سبقت قلت إن الهامش لم “يميز ضربه” في شكواه من تجاهل المركز لثقافته. وشمل بشكواه من المركز الحكومة وأهله جغرافياً بغض النظر. وجئت فيها بجهود طائفة من “الجلابة” في السهر على نشر ثقافات وطينة ليسوا منها. ومتى غض ناشطو الهامش الطرف عن هذا الشغل القاعدي للمئات المؤرقين بالتنوع في الوطن، والمعدودين عندهم في المركز، توحشوا بقضيتهم وعز الحليف.

فهم، في تعميمهم لشكواهم من المركز، لم يطلبوا حليفاً في المركز لأن كل “خشم المركز” جلابة، في تحوير لمقطع نبيه للخليل فرح.

وأذكر أنني نبهت، في مناسبة قدوم وفد المقدمة للحركة الشعبية بعد اتفاقية نيفاشا في 2005، إلى إسراف الهامش على نفسه في شكواه من ظلم المركز لا يفرق بين حكومة ومؤسسات حكومية يعمل فيها أولئك المؤرقون بثقافة الوطن. وطلبت منهم أن يدرجوا في برنامج ضيافتهم زورة لمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم ليروا شغل مؤسسة حكومية (في سياق استقلال الجامعة) جرى تكليفها بواسطة مجلس أساتذة الجامعة في نحو 1962 لتوثيق ثقافة عموم السودان. وما ونى المعهد ولا كلّ في هذه الخدمة إلى يومنا. وقلت للوفد أن يزور المعهد ويقف على ضروب ثقافة الهامش التي عنى المعهد بها تسجيلاً وتدويناً وتصويراً ليحكموا عن ظلم ثقافاتهم المعلوم بغير إسراف. فإلى المقال:

ليسمح لي وفد الحركة الشعبية متي جاء الخرطوم بهذا التطفل. فإنني اقترح عليه أن يغشى معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم. فلربما كان المعهد هو المحل الوحيد الذي سيطعن في سداد عقيدتهم أن السودان القديم محض عربسلامية. فأخطأ ما يقع فيه هؤلاء هو اعتقال الشمالي أبدياً في عروبته واسلامه اللذين اكتملا على مشارف القرن الخامس عشر. إن توقيف التاريخ في ذلك الزمن البعيد يجب ما بعده: وكأن التركية بحداثتها لم تقع، أو كأن المهدية تكرار بسيط للإسلام، وكأن الانجليز بمدنهم وغردونهم لم يأتوا، وكأن الفكرة الوطنية والماركسية مجرد لغو. فالسوداني الشمالي هو نتاج هذه المؤثرات وغيرها وقد تجمرت هويته في لهبها أو احترقت.

واضرب لذلك مثلاً. فقد كنت اتسامر مع الدكتورين يوسف فضل (الفادني الجعلي) وأحمد عبد الرحيم نصر (البديري) من أسرة المعهد حين اكتشفنا أن والد كل منا كان ناظر محطة بالسكة الحديد. وكانت السكة الحديد هي البيئة المدينية المثلي لنزع المرء من محيطه الضيق في القري الي عوالم لا تبلغها الا السكة الحديد. ففي مجالس عطبرة لا تسمع مثلاً روايات ممن كان في بابنوسة والسوكي وتهمايم والروجل وأم كويكه ودقش فحسب، بل تسمع لغات سودانية أخري. وينشرح صدرك للسودان وتتملك الرغبة أن تعرف عن مواطنيك.

وددت لو التقي وفد الحركة بالدكتور الأمين ابو منقه، مدير المعهد (يوم كتابة هذه الكلمة)، ليطلعهم على مشروعات ثلاثة هي المسح اللغوي، ومشروع مسح الموسيقي التقليدية، ومشروع جمع الفلكلور السوداني، وسلسلة دراسات في التراث الشعبي الملحقة به.
وسأقصر حديثي على المشروع الأخير لارتباطي السابق واللاحق به. وسيجد الوفد أن المعهد لم يفرق بين تراث السودان فبلغه ما استطاع وعارف بين السودانيين شعوباً وقبائلاً. وكان ذلك كله بمنشورات رونيو فعل الشيوعيين والجمهوريين السمح. فقد أحصيت، وأنا منقطع هنا، ما لا يقل عن عشرين إصدارة عن تراث جماعات سودانية مختلفة ناهيك عن تلك التي جمعنا أدبها الشعبي ولم ننجح في نشره لتداعي ميزانية أبحاث المعهد مؤخراً. فقد صدرت كتب في تراث الرباطاب والحمر والمحس والقريات والمسبعات والفور والبجا والمناصير والمسيرية الزرق والحمران والرشايدة والشكرية والنوبة. وكان المعهد يستأجر طلاباً من هذه الجماعات في العطلات الصيفية، أو يسعي لتفريغ باحثين عصاميين من مصالحهم الحكومية ويسند لهم جمع آثار أهلهم. وقد جري تفريغ السيد سيد محمد عبدالله لجمع تراث المحس، والسيد محمد هارون كافي لجمع تراث النوبة، والمرحوم عبد الله الشيخ البشير لجمع تراث المادح ود نفيسة الكباشي القادري.

ومتي زار الوفد المعهد وددت لو تحدثوا الي الدكتور فرح عيسى محمد، سادن هذا النشاط المبروك منذ الستينات، ووقفوا على متاعبه الحالية في نشر ما تجمع لديه من مادة من تراث الجنوب وغيره. فقد حضرت اجتماعاً مع زملائي في العام الماضي وقفنا فيه على كيف حال صيق ذات اليد من إصدار كتب جاهزة لتراث الشلك والنوبة غلفان والحلفاويين والمراريت والباري والمساليت والجوامعة. وودت لو صحب الوفد الاستاذ كامل عبدالماجد، مدير دار الأشقاء، التي هي من أعمال صلاح إدريس، للنظر في طبع ما لم يطبع وإعادة طبع ما نفد. وكله نفد تقريباً.

سيدعو الناس وفد الحركة ليلقوا بأحاديث كثيرة في الخرطوم. ودعوتي لهم بزيارة المعهد هي للتصنت الجميل. فقد أجاد مثقفو الجهوية الشكوى عن إهمال تراث جماعاتهم. وسيرون في المعهد أنه لم يهمل طالما كانت جهاتهم آمنة للبحث وبيد الباحثين الموارد والعدة. ومع إحسان مثقفي الجهات الشكوى لضيعة تراثهم لم أر منهم همة في إحيائه ما استطاعوا. فقد تلاشي معهد الدراسات النوبية في القاهرة ولم تقم لمركز دارفور للأبحاث قائمة. ولم أسمع عن الحركة الشعبية عناية مذكورة بتراث شعوبها في السودان الجديد.

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

«اليونيسف» لـ «الاتحاد»: الإمارات في مقدمة الداعمين لتوفير التطعيمات عالمياً

سامي عبد الرؤوف (أبوظبي) 
أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسف»، أن الإمارات تقوم بجهود كبيرة ودور استثنائي في جهود التحصين العالمية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مشيرة إلى أن دور الإمارات، خلال حملة تزويد اللقاحات ضد مرض شلل الأطفال في قطاع غزة، كان أساسياً من خلال الدعم المادي واللوجستي من قبل «مؤسسة محمد بن زايد للأثر الإنساني». 

وقالت لينا الكرد، المتحدثة الإعلامية لـ«اليونيسف» بمكتب منطقة الخليج العربي، في تصريحات خاصة لـ «الاتحاد» بمناسبة الأسبوع العالمي للقاحات: «إن من أبرز الجهود المشتركة والمدعومة من الإمارات، حملة التطعيم الجماعية ضد شلل الأطفال في 26 فبراير الماضي، التي استمرت خمسة أيام في قطاع غزة، ووصلت إلى ما يقرب من 603.000 طفل دون سن العاشرة». وأضافت: «لقد تم منح هؤلاء الأطفال، لقاح شلل الأطفال الفموي الجديد، وذلك بعد وصول شامل ومتزامن إلى جميع المحافظات الخمس خلال وقف إطلاق النار». 
وأوضحت أن هذه الجولة كانت الثالثة ضمن ثلاث جولات سبقتها، جولة في شهر سبتمبر، وأخرى في نوفمبر 2024، لافتة إلى أن هذه النتائج تحققت على الرغم من التحديات التي واجهتها الجولة الثالثة من حملة التطعيم ضد شلل الأطفال في غزة.
وذكرت أن هذا الدعم ساعد في تحقيق أهداف الحملة، ويعكس أهمية الشراكات الدولية والتزاماً مشتركاً بمكافحة الأمراض الوبائية، لافتة إلى أن الحملة التي دعمتها الإمارات جاءت في وقت حرج، خاصة بعد العودة المفاجئة لشلل الأطفال بعد نحو 25 عاماً من القضاء عليه.
تحدٍّ كبير  
حول احتفاء العالم بالأسبوع العالمي للقاحات في الفترة من 24 إلى 30 أبريل الجاري، أكدت أن هذا أسبوع لتسليط الضوء على واحد من أهم الإنجازات المنقذة للحياة وهو اللقاحات، والدعوة إلى تجديد الالتزام بتوفير اللقاحات للجميع، وأولهم الأطفال، للوقاية من الأمراض التي تهدد صحة الجميع. وقالت: «على رغم الإنجازات التي تم تحقيقها في مجال تزويد اللقاحات وتحصين الأطفال، فإن جهود التحصين العالمية معرضة لخطر متزايد، بسبب نقص كبير في التمويل، وبسبب الأزمات الإنسانية، مثل الحروب والكوارث وأيضاً المعلومات المضللة». وأضافت: «ملايين الأطفال والمراهقين والبالغين معرضون لخطر الإصابة بأمراض يمكن الوقاية منها، وخاصة في الشرائح السكانية الأكثر حاجة، والذين يعيشون في مناطق نزاعات أو في الأماكن الأشد فقراً في العالم، أو ممن يضطرون للجوء والنزوح».

أخبار ذات صلة «يونيفيل»: ننسق بشكل وثيق مع الجيش اللبناني «الأونروا» تحذر مـن انتشار الأمراض جراء تراكم النفايات

وشددت المتحدثة الإعلامية لـ«اليونيسف» بمكتب منطقة الخليج العربي، على أن اللقاحات أنقذت حياة أكثر من 150 مليون شخص على مدى العقود الخمسة الماضية، أي من عام 1974، إلا أن العديد من دول العالم تعيش حالياً في ظروف مضطربة بشدة، حيث يتوفى ملايين الأطفال سنوياً من جراء أمراض يمكن منعها ومعالجتها. وأكدت الكرد أن بمقدورنا تحقيق مستقبل يكون جميع الأطفال فيه محميين باللقاحات المنقذة للحياة؛ لأنَّ من حق جميع الأطفال التمتع بالصحة أينما كانوا.
وحول أسباب توقف حملات التحصين أحياناً في بعض البلدان أو خطر انتشار هذه الأمراض مجدداً، أرجعت ذلك إلى وجود أزمة تمويل عالمية تحدّ بشدة من قدرتنا على تطعيم أكثر من 15 مليون طفل مُعرّض للخطر في البلدان الهشة والمتأثرة بالصراعات. واعتبرت أن ذلك يقلل من خدمات التحصين، وحملات تزويد اللقاحات والاستجابة لتفشي الأمراض في عشرات الدول حول العالم مُعطّلة بالفعل، مع انتكاسات تُشابه ما شهدناه خلال جائحة «كوفيد-19». 
وأكدت أن تفشي أمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات، مثل الحصبة والتهاب السحايا والحمى الصفراء، يتزايد عالمياً، كما أن أمراضاً مثل الدفتيريا، التي ظلت تحت السيطرة لفترة طويلة أو اختفت تقريباً في العديد من البلدان، قد تعود هي أيضاً للظهور مرة أخرى. ودعت إلى أن يصبح بمقدور المزيد من الأطفال أكثر من أي وقت مضى الاحتفال بعيد ميلادهم الأول من خلال تزويدهم باللقاحات الروتينية، مشددة على أن أهمية اللقاحات لا تقتصر على حماية الأطفال فحسب، بل تحمي كذلك الناس من جميع الأعمار، من النساء الحوامل إلى كبار السن، داعية الحكومات والقطاع الخاص للاستثمار المالي في اللقاحات، عبر دعم برامج «اليونيسف»، ودعم التحالف العالمي للقاحات والتحصين. 
عام الحسم  
وصفت لينا الكرد عام 2025، بأنه «عام حاسم الأهمية للتمويل» إذا أردنا المحافظة على التقدم الذي تحقق وحماية جميع الأطفال أينما كانوا باللقاحات. وقالت: «يجب ضمان إمكانية حصول جميع الأطفال على اللقاحات للمساعدة في تحسين تغطية التحصين، ويجب تعزيز أنظمة الصحية لضمان حصولهم على اللقاحات الأساسية المنقذة للحياة. وهذا يعني تدريب العاملين في القطاع الصحي ودعمهم، وبناء الثقة في المؤسسات الصحية ونشر الوعي بأهمية حصول الأطفال على اللقاحات».
جهود عالمية
عن جهود «اليونيسف» في دعم البلدان في تحصين الأطفال، قالت: «(اليونيسف) أكبر مشترٍ للقاحات في العالم، حيث تُسلّم سنوياً حوالي 250 مليون جرعة من لقاحات الحصبة، وتقوم بتحصين أكثر من 400 مليون طفل سنوياً في العالم ضد فيروس شلل الأطفال». 
وأضافت: «(اليونيسيف) تدير عملية شراء وتوزيع أكثر من مليار جرعة سنوياً، أي أكثر من 50 في المئة من الإمدادات العالمية من اللقاح الفموي لشلل الأطفال، وتستثمر في البنية الأساسية لسلسلة إمداد اللقاحات، من قبيل غرف التجميد، والثلاجات، والصناديق الباردة، وحقائب نقل اللقاحات، وأجهزة رصد الحرارة».
وتطرقت إلى تدريب «اليونيسف» الاختصاصيين الصحيين على كيفية إدارة «السلسلة الباردة» للمحافظة على سلامة اللقاحات أثناء النقل والتخزين، واستخدام استراتيجيات التغيير الاجتماعي والسلوكي في نشر الوعي بأهمية اللقاحات وحملات التحصين لزيادة قبول لقاحات شلل الأطفال، وغيرها والطلب عليها من الوالدين ومقدمي الرعاية، مؤكدة أن هذا يمثل الخطوة الأولى الحاسمة نحو الوصول إلى تغطية عالية في التحصين ضد شلل الأطفال والمحافظة عليها.

مقالات مشابهة

  • الداخلية تكشف حقيقة فيديو جلوس شخص على مقدمة سيارة أثناء سيرها
  • بعد زيارة اليوم.. تاريخ طويل من العلاقات القوية بين مصر والسودان
  • انطلاق منافسات اليوم الثانى من البطوله العربية الأفريقية لكرة السرعة للكبار والناشئين ببورسعيد
  • انطلاق منافسات اليوم الثاني من البطولة العربية الأفريقية لكرة السرعة للكبار والناشئين ببورسعيد
  • الانتصار الأول منذ 12 عاما.. مصر تفوز على جنوب أفريقيا في إستاد القاهرة
  • فوز نائب رئيس جامعة أسيوط الأهلية بجائزة المركز الثالث في مسابقة الدراسات الأمنية لجائزة الأمير نايف للأمن العربي
  • جدل في موريتانيا بعد زيارة غير رسمية لمستشار قائد الدعم السريع.. ما القصة؟
  • «اليونيسف» لـ «الاتحاد»: الإمارات في مقدمة الداعمين لتوفير التطعيمات عالمياً
  • قصة كفاح مصرية.. حوّلت خيوط المكرمية إلى منصة رقمية تحمي تراث مصر
  • منتخب الجودو يتراجع إلى المركز الرابع في أول أيام البطولة الأفريقية