نسرين حجاج تكتب: البابطين ومد جسور السلام العادل
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
على أرض مصر الكنانة، وتحت عنوان "السلام العادل من أجل التنمية"، عُقد المنتدى العالمي الثالث لثقافة السلام العادل، الذي أقامته مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين، واجتمع فيه أدباء ومثقفون وشعراء وسياسيون وإعلاميون وباحثون ، ليكون عرسًا ثقافيًّا، وساحة للنقاش والحوار البنّاء، ومسرحاً يتوج عليه إسم الشاعر الراحل عبدالعزيز سعود البابطين
وعلى مدى أيام ثلاثة، شهد المنتدى جلسات حوارية، وجلسات بحثية على مستوى الأكاديميين في إطار المحور الرئيسي للمنتدى.
وإذا كان واجبًا علينا الحديث عن المنتدى وفعالياته، فحريٌ بنا الحديث عن مؤسس ذلك المنتدى، وتلك المؤسسة، وهو الشاعر الراحل عبدالعزيز سعود البابطين، الذي رحل عن عالمنا منتصف ديسمبر من العام الماضي، غير أن الحديث عن الشاعر الراحل يطول وتضيق به تلك المساحة الصغيرة، فقد كان رائدًا من رواد الحركة الثقافية العربية، وكانت له أيادٍ بيضاء على الثقافة العربية، فقد كان نجمًا ساطعًا في سماء الثقافة، وأضاء العالم العربي والإسلامي بنور حبه للغة العربية، وكان ساعيًا دائمًا إلى إعلاء السلام بين الشعوب، وكان مؤمنًا بأن ما تفسده السياسة تصلحه الثقافة.
وكان اهتمامه بالتعليم واضحًا، فقد أسس ٢٦ مدرسة من قرقيزاستات عاصمة بشكيك إلى مراكش وسلمها إلى الحكومات، ولم يشترط فيها سوى تعليم اللغة العربية ومبادئ الشريعة الإسلامية، وقد منحته عدة جامعات عربية وأجنبية شهادة الدكتوراة الفخرية؛ لقاء أعماله، وتقديرًا منها لمنجزه الثقافي، والإنساني، والخيري.
ومؤسسة البابطين إحدى أهم المؤسسات العربية المعنية بالشأن الثقافي، وتحالف الحضارات، والتقارب بين الشعوب، ونشر السلام، والاعتناء بمراكز الترجمة، وتعد حاضنة للشعراء واللغة العربية.
يقول الشاعر عبد العزيز سعود البابطين في قصيدته "رحيل" : "تقول بحسرة فاقت هديلا/ شجيًا يوجع الحزن المريرا/ أباقٍ عندنا حينًا لنهنا/ أم أنك راحل عنا شهورا/ حياتي بعدكم أمست حبيبي/ بلا طعم ولا معنى يسيرا/ فقلت لها وفي نفسي وقلبي/ بلاء زادني وهنًا ظهيرا"..
بهذه الأبيات أتذكر "العم عبد العزيز"، وهذا هو الاسم المقرب لكل مقرب من الشاعر الراحل، وأرى أن أبياته تلك قد عبَّرت عن حال كل من رثوه خلال كلماتهم في حفل افتتاح المنتدى، إذ جاءت كلماتهم مؤثرة، حزينة، وكل منهم يتذكر مواقفه مع الشاعر الراحل، فجاءت كلمات رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم بصوت شاحب، يكسوه حزن شديد، وقد انهمر بالبكاء وهو يتحدث عن الفقيد، وكذلك جاءت كلمة الدكتور نبيل عياد، وكلمة العم عبد الله البابطين المؤثرة في ختام اليوم الثالث.
تضمن حفل افتتاح المنتدى، الذي شهد حضور عدد من رؤساء الدول والحكومات ورؤساء البرلمانات والوزراء، مقتطفات لعدد من الكلمات الافتتاحية السابقة للشاعر الراحل عبد العزيز البابطين، التي تؤكد حرصه وإيمانه الشديد بقضايا نشر ثقافة السلام، وإعلاء القيم الإنسانية، لتحقيق التعايش السلمي بين شعوب العالم، كما شهد كلمات لكل من الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسي، ووزيرة الثقافة المصريةد.نيفين الكيلاني، ووزير الإعلام والثقافة الكويتي عبد الرحمن المطيري، والرئيس التركي السابق عبد الله غول، ورئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة، والرئيس الألباني الأسبق إلير ميتا، وغيرهم.
أما جلسات المنتدى فقد تضمنت عددًا من الأوراق البحثية المهمة، وكانت المناقشات فيها مثمرة جدًّا؛ ففي الجلسة الأولى، التي كانت بعنوان "السلام والتنمية السياسية"، قدم د. محمد الرميحي (من الكويت) في بحثه "كفاءة الإدارة الحكومية والتنمية"، شكل المجتمع، وأهدافه العامة، والمنهجية المتبعة.
وفي الجلسة الثالثة التي حملت عنوان " السلام والتنمية الاجتماعية"، جاءت مشاركة د. نيفين مسعد (من مصر) التي استعرضت ورقتها د. نهلة محمود، فقالت إن المواطنة الكاملة حق لكل المواطنين بدون استثناء بغض النظر عن اختلافاتهم، وحللت الورقة البحثية بعض الإشكاليات التي تكتنف الحديث عن التنوع والمواطنة.
أما الجلسة الرابعة، التي كانت بعنوان "السلام والتنمية الثقافية"، وترأسها د. هشام عزمي، فتحدث فيها د. كارستين شويرب (من مالطا)، وقد تحدث عن "جدلية التراث والتحديث.. السلام والتنمية الثقافية في منطقة البحر الأبيض المتوسط"، وقدم تحليلًا للتوترات الرئيسية المتأصلة في العلاقة بين هذين التعبيرين عن الإنسانية، وتكلم عن جوانب التحديث التي تشكل فهمنا للتراث، وذلك بالرجوع إلى أمثلة من الفكر الشرقي والأوروبي في القرن العشرين، كما تطرق إلى عدد من القضايا التي تكمن في جذور الصراع الثقافي والفجوات في التفاهم ضمن إطار عدد من المؤلفات والدراسات العامة.
وفي تلك الجلسة تحدث أيضًا د. جوردون ساموت، الذي قال: "لكي تنجح مبادرات التنمية يجب أن تتماشى الممارسات والعادات المتغيرة مع الحس الثقافي السائد للمجتمع المستهدف في ذاته".
وأكد د. زهير توفيق (من الأردن) في كلمته أنه "لا قطيعة، ولا نفي متبادلًا بين التراث والتحديث؛ وإنما تواصل واتصال".
أما في "إشكالية مفهوم الدولة الوطنية"، فتحدث د. عبد الرحمن طنكول، وهو مقدم ورقة د. خوان بيدرو (من إسبانيا)، وقال إن ما يهمنا في هذا البحث هو معرفة ما إذا كان ما تمثله الأندلس حقًّا نموذجًا للاندماج الفكري والثقافي بشكل عام أكثر من أن تكون نموذجًا للتكامل الاجتماعي، حيث كانت اللغة العربية هي الأداة الأقوى التي جعلت التواصل وتبادل الأفكار وتحقيق حالة التفاهم بين المثقفين ممكنًا، ثم أردف أنه "في عالم من التقدم المستمر والمادية الساحقة، تخلينا عن أفضل ما يمكن أن يقدمه الإنسان؛ وهو التفاهم، والتعاون، والرغبة في مساعدة الآخرين".
كلمات المشاركين كانت صادقة ومعبرة عما يجيش في صدور أغلبنا، كمتابعين وحاضرين لهذا العرس الثقافي، الذي أتمنى أن يكون منهجا وأداة لنهضة ثقافية عربية بعد منطوق التوصيات التي أختتم بها هذا المنتدى وكانت كالتالي: أولًا: توجيه برقية شكر إلى فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية على رعايته الكريمة للمنتدى بما يعكس تقديره للجهود الخيرة التي تبذلها مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية في إطار ثقافة السلام العادل.
ثانيًا: تثمين أعمال المرحوم عبدالعزيز سعود البابطين الذي نذر نفسه ووقته وماله للدفاع عن القضايا العربية من خلال ثقافة مستنيرة جامعة وغير مفرّقة، وتثمين جهود أبنائه البررة في الاستمرار لخدمة المشروع الحضاري الذي بدأه والدهم الراحل رحمه الله.
ثالثًا: إن السلام العادل يحتاج إلى تنمية سياسية حقيقية وإرادة معاصرة وتسخير التقنية الحديثة في خدمة الجمهور العام.
رابعًا: إن رأس الحربة في السلام العادل هو التعليم النوعي المستنير الذي يتوجب أن يكون مسايرًا للعصر، ولذلك فإن الاهتمام بالأجيال وتقديم تعليم نوعي بمنهج منفتح هو بمثابة (فرض عين).
خامسًا: إن الاقتصاد قائد للتنمية ودور القطاع الخاص في النهوض به دور حيوي، لذلك فإن العناية بالتشريعات الاقتصادية المحفزة لهذا التنوع وضبطها من خلال تعزيز ثقافة الادخار والاستثمار وتسخيرها لخدمة الجمهور العام من الأولويات.
سادسًا: الثقافة لها دور محوري في ظلّ الأجواء السائدة اليوم والتي يتغشاها تضليل للرأي العام والزج به في صراعات تفتت المجتمع وتحرض على التعصب والكراهية ووليدهما التطرف والعنف، لذلك ينبغي الحض على ثقافة منفتحة ومتسامحة تتقبل الآخر وتؤمن بالحوار.
سابعًا: تعتبر القضية الفلسطينية المسألة المحورية في وعي الأمة العربية ونصرتها من الواجبات الوطنية من خلال الدفع باتجاه توحيد البيت الفلسطيني وتحرير الخطاب الفلسطيني من التأثيرات الإقليمية التي تضر بالقضية مع تشديد إدانتنا لحرب الإبادة بحق الشعب العربي الفلسطيني التي تجري في الأشهر الأخيرة أمام العالم بقطاع غزة.
ثامنًا: توجيه التحية للجهد الذي تبذله جمهورية مصر العربية على موقفها العربي متضامنين معها فيما تعانيه من ضيق اقتصادي وأعباء سياسية ودولية جراء الوضع العربي والإقليمي الشائك.
جلسات هذا المنتدى أعطتني شعوراً بأنه مازال هناك أمل في أمة كان كتابُها عربياً
وأختم مقالي هذا بهذه الآية الكريمة ؛ {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: عبدالعزیز سعود البابطین العزیز سعود البابطین السلام والتنمیة الشاعر الراحل السلام العادل عبد العزیز الحدیث عن عدد من
إقرأ أيضاً:
حين تكتب الحرب ذاكرة شعب- في مأساة المثقف السوداني ومعقولية الخراب
في عامها الثالث، لم تعد الحرب في السودان حدثًا عابرًا يُروى بين فقرات الأخبار، بل تحولت إلى نسيج يومي يُحاك من أشلاء الذكريات والجراح. صارت واقعًا يُعاش بكل ثقله: بيوتٌ تتهاوى كأوراق الخريف تحت دوي المدافع، وأطفالٌ يلهون فوق ركام مدارسهم، كأنهم يتحدون فكرةَ أن الطفولة لا بدّ أن تكون بريئة. هنا، لم يعد هناك فاصل بين الخاص والعام؛ فكل دمعة تسقط في بيت ما تُعد جزءًا من نهرٍ من الأحزان يغمر الأمة. الأحياء تتحول إلى خرائب، والأسواق التي كانت تعج بالحياة تصمت إلا من صدى الخطى الثقيلة لقدامى الجوعى.
الأمهات، بوجوهٍ نحتتها رياح اليأس، يُجدنَ فنَّ الصبر، بينما يتساقط الأقرباء والأصدقاء كأوراق شجر في عاصفة لا تنتهي.
في هذا المشهد الكابوسي، تبرز الكتابة كفعلٍ مُقاوِم، ليست مجرد أداة لتوثيق الألم، بل محاولة لإنقاذ الذات من الغرق في العدم. يكتب المثقفون بحبرٍ مخلوط بالتراب والدم، مسجلين تفاصيل البيوت التي انمحت، وأسماء الأحبة الذين صاروا ظلالًا في ذاكرة المدينة.
اليوميات التي يسطرونها ليست سردًا بطوليًا بقدر ما هي همساتٌ يائسة لاستعادة شيء من الإنسانية المهدورة. تصبح الكتابة بيتًا مؤقتًا، هشًا لكنه يقاوم السقوط، يحمل بين سطوره عبق الأيام الماضية ورائحة المقاومة.
الكتابة كوثيقة اجتماعية- بين التاريخ والوجع
لا تقتصر هذه النصوص على الرثاء، بل تتحول إلى وثائق تُجسد تداخل التاريخ مع المأساة؛ فهي تسجل تحول الوطن إلى شتات، والمستقبل إلى لغزٍ مُظلم. الكاتب هنا ليس مراقبًا من برج عاجي، بل هو ابن الأرض الذي يعيش تحت القصف، يكتب بألمٍ عن جاره الذي اختفى
وعن السوق الذي تحول إلى مقبرة جماعية. النصوص تكشف كيف صار "الوطن" فكرةً هاربة، بينما يختزل الواقع معاناة البحث عن رغيف خبز أو زجاجة ماء.
من الاستثناء إلى القاعدة- الحرب كحالة دائمة
في ذهن المثقف السوداني، لم تعد الحرب استثناءً، بل جزءًا لا يتجزأ من الهوية. يقول الكاتب أمير تاج السر: «نحن أبناء الحروب المتراكمة، نعرفُ صوت الرصاص أكثر من صوت الموسيقى»، معبرًا عن واقعٍ عاشه وجيله منذ طفولتهم في وطنٍ حُفر في ذاكرة الألم.
وقد أضاف الناشر العربي على غلاف إحدى الروايات عبارة "الحياة تستحق النشيد رغم قسوتها"، وهي ليست دعوة لتفاؤل ساذج، بل تأكيدٌ على إيمانٍ بأن الفن يعد آخر حصون الكرامة. وكأن صوت المثقفة البريطانية هيلينا كينيدي، حين تحدثت عن النزوح كجريمة ممتدة
يجد صداه في واقع الأسر السودانية التي تعيش التهجير كحالة متوارثة عبر الأجيال.
الخراب كوجهٍ للوطن- لماذا تصبح الحرب "معقولة"؟
وهنا يطفو السؤال الأقسى: كيف يصبح الدمار مألوفًا؟ قد تكون الإجابة في استبدال لغة الثورة بلغة التأمل، أو في تحول الألم إلى رفيق يومي. المعقولية هنا لا تعني الاستسلام، بل اعترافًا بفشل الخطابات الكبرى.
إذ أن المثقف الذي كان يرفع شعارات التحرر صار يكتب ليُثبت أنه ما زال حيًا، كأنه يردد روح محمود درويش عندما قال: «أنا لستُ لي، أنا وطني يكتبني»، مما يحوّل الكتابة إلى فعل أخلاقي، محاولة لإنقاذ المعنى من براثن العبث، وصرخة ضدّ التطبيع مع القتل.
ما بعد الكلمات- هل تكفي الكتابة؟
رغم كل هذا، تظل الحقيقة المرة أن الكتابة لا توقف الرصاص، ولا تُعيد الطفل إلى أمه. ففي الوطن الذي يموت فيه الإنسان، تموت معه الكلمات أحيانًا. لكن المثقف لا زال يكتب، لأن الصمت يعد خيانة، ولأن الحكاية لم تنتهِ بعد.
كما تقول الروائية بثينة خضر مكي: «نحن نكتب لنُثبت أننا لم ننزلق بعد إلى حافة الوحشية»، لتظل هذه النصوص، رغم دمويتها، بمثابة البذرة الأخيرة لشتلة أمل أو على الأقل شهادةً على تمسك شعبٍ برواية معاناته.
حين تصير الكلمات دمًا
في النهاية، يبقى المثقف السوداني حائرًا بين شقين- شاهدٌ على المأساة وضحيةٌ فيها. يرتجف قلمه ولكنه يرفض السقوط، إذ إن الحرب قد تسرق الأوطان لكنها لا تستطيع سرقة الكلمات التي تُخلّدها.
وكما كتب شابٌ عاقل في يومياته تحت القصف: «إذا متُّ، ابحثوا عني في كتبي».
أعلموا أيها القتلة- نحن الباكون على واقع اليوم ، ولكن من خلال الألم نصنع المستقبل.
zuhair.osman@aol.com