منال الشرقاوي تكتب : دراما رمضان.. والجودة
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
في ظلال الشهر الفضيل، تُرسم لوحة الدراما المصرية بخطوط غزيرة، معرضةً نفسها لميزان الكمية والجودة. دعونا نُسبر أغوار هذا التحول الدراماتيكي، حيث تتشابك خيوط الإبداع مع دهاليز الإنتاج الكثيف.
لقد شهد العقد الأخير تحولاً جذرياً في نسيج الأعمال الرمضانية، من التنوع القصصي الذي يلامس الروح ويعانق الواقع، إلى التقنيات البصرية الساحرة التي تأسر الأبصار.
إن هذا التدافع الإبداعي الذي بات يشكل السمة الغالبة للموسم الرمضاني، حيث يتفاقم الإنتاج الدرامي بوتيرة متسارعة، مغذيًا الشاشات بتوليفات قصصية متنوعة تُغازل ذائقة المشاهد العربي. في هذا السياق، يبرز التساؤل: هل الغزارة في الإنتاج ترقى بالمضمون الفني، أم تستر تحت طياتها تراجعًا في الدقة الأدبية والجودة البصرية؟
إن الغزارة في الإنتاج الدرامي، خاصة خلال شهر رمضان، قد تُتيح فرصًا لاستكشاف مجموعة واسعة من القصص والأفكار، مما يعكس تنوعًا ثقافيًا واجتماعيًا يُثري المشهد الدرامي. من هذا المنطلق، يمكن للغزارة في الإنتاج أن تُعزز من المضمون الفني عبر تقديم تجارب سردية متنوعة ومعالجات فنية مبتكرة تجذب المشاهدين بتفردها وعمقها.
مع ذلك، تُطرح تحديات متعلقة بالدقة الأدبية والجودة البصرية، ففي ظل السعي لتلبية متطلبات الإنتاج الضخم، قد تغفل بعض الأعمال الاهتمام الكافي بالجوانب الأدبية والفنية، مما يؤدي إلى تراجع في العمق القصصي والتصوير الدقيق للشخصيات والأحداث، فتُصبح القصص مُشبعة بالتكرار والمبالغة في سبيل ملء الوقت، دون إضافة حقيقية للمحتوى أو القيمة الفنية. كما قد تتأثر الجودة البصرية بالضغوط الزمنية والميزانيات المحدودة، مما يؤثر بالسلب على تجربة المشاهدة الكلية.
وهنا يأخذنا الموضوع نحو التساؤل عن مدى فاعلية المسلسلات ذات الثلاثين حلقة مقارنةً بتلك التي تقدم في حلقات أقصر مكونة من 15 حلقة. تراثيًا، استقرت الدراما الرمضانية على هذا النمط من المسلسلات ذات الثلاثين حلقة ، مما يفسح المجال لاستكشاف القصص بعمق وتفصيل. ومع ذلك، تبرز مسألة التطويل ومدى تأثيرها على جودة السرد القصصي.
إن التطويل في المسلسلات يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدين؛ فمن جهة، يمنح الكتّاب والمخرجين فرصة لتطوير الشخصيات والعلاقات بينها بشكل أعمق، ومن جهة أخرى، قد يؤدي إلى ملء الفراغ بمحتوى أقل أهمية يُضعف من النسيج الدرامي العام.
في المقابل، المسلسلات القصيرة، والتي بدأت تكتسب شعبية متزايدة، تقدم نموذجًا يعتمد على الإيجاز والتركيز الشديد على القصة الرئيسية دون الخوض في تفاصيل جانبية قد لا تُضيف إلى الحبكة الرئيسية. هذا النهج يُمكن أن يعزز من جودة السرد ويحافظ على اهتمام المشاهد، الذي أصبح أكثر ميلاً إلى استهلاك المحتوى بشكل أسرع.
يطرح هنا التساؤل عما إذا كان من الممكن للدراما المصرية أن توازن بين النموذجين، مقدمة أعمال تجمع بين العمق الدرامي والكفاءة في السرد دون الإفراط في التطويل. هل يمكن أن تقدم قصص مكثفة في عدد أقل من الحلقات دون التضحية بالجودة أو الأبعاد الدرامية؟
يبقى هذا التوجه موضوع نقاش مفتوح، حيث يعد التجديد والتنوع في تقديم الأعمال الدرامية عنصرا حيويا للحفاظ على حيوية هذه الصناعة وتطورها، مع مراعاة التغيرات في تفضيلات المشاهدين وطرق استهلاك المحتوى ، ومن هذا المنطلق يجب علينا أن نعيد النظر في مفهوم الإنتاج الدرامي، لا سيما في شهر رمضان، بحيث لا يكون الهدف هو مجرد ملء الفضاء الإعلامي بكم هائل من الأعمال، بل تقديم محتوى يحمل قيمة فنية وثقافية ترتقي بالذوق العام وتثري وعي المجتمع المصري والعربي، لذا؛ يعد التوجه نحو الإنتاج الذي يركز على الجودة بدلا من الكمية، والتنويع في الأشكال الدرامية وطرق السرد، خطوة ضرورية نحو تحقيق هذا الهدف. إن الغزارة في الإنتاج قد تعزز من المضمون الفني عندما تدار بعناية وتستغل لاستكشاف الإمكانات الإبداعية بشكل عميق ومدروس. لكن، دون الحرص على المعايير الأدبية والفنية، قد تخفي هذه الغزارة تحت طياتها تراجعا في الجودة البصرية والدقة الأدبية، مما يتطلب توازنا دقيقا بين الكم والكيف لضمان تقديم أعمال درامية ذات قيمة فنية حقيقية.من المهم أيضًا تشجيع الأعمال التي تتناول قضايا مجتمعية معاصرة وتاريخية بعمق وجدية، تلك التي تدفع المشاهدين للتفكير والتأمل، بدلاً من الاقتصار على الترفيه السطحي. فالدراما، بأبعادها الفنية والثقافية، قادرة على أن تكون مرآة للمجتمع، تعكس همومه وتطلعاته وتسهم في صياغة وعيه وهويته.
في خضم السعي نحو التميز والابتكار، تقف الدراما الرمضانية على مفترق طرق، حيث يجب أن تلتقي الغزارة الإنتاجية بالإبداع الفني في تناغم يُعيد صياغة معايير الجودة ، ليظل الفن المصري، بكل تاريخه وتراثه العريق، قادرًا على تجاوز التحديات التي تواجهه، مستلهمًا من روح الإبداع التي لطالما ميزته. وفي ظلال رمضان، يُمكن لهذا الفن أن يجدد من نفسه، ويقدم أعمالاً تترك بصمة في الذاكرة الثقافية، وتعزز من تطور الثقافة المصرية والعربية بإضافات جديدة تثري تراثها الفني.
دعوني أختم هذا المقال بسؤال يُلخص الفكرة، هل تُعانق الغزارة الإنتاجية أفق الإبداع الفني، أم تسقط في فخ التكرار ؟ لعل الإجابة تكمن في رؤية متوازنة تعيد تشكيل المشهد الدرامي بأدوات الجودة والتنوع القصصي، مع مراعاة تطلعات المشاهد وتحولات العصر.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: فی الإنتاج
إقرأ أيضاً:
التناص الدرامي في الثلاثية الشكسبيرية
ينجز الكاتب والمخرج المسرحي العراقي منير راضي العبودي كتابه (الثلاثية الشكسبيرية، ونصوص مسرحية... أنا مكبث، وشكسبير فـي جبل الأوليمب، وأجنة فـي أرحام شكسبير) الصادرة طبعته الأولى عام 2003م، ضمن منشورات وزارة الثقافة والسياحة والآثار، ودائرة السينما والمسرح بالعراق، فـي إطار ثقافـي نقدي هو التناص الدرامي. يظهر هذا الاشتغال واضحا فـي استدعاء شخصيات درامية استوحاها منير راضي من مآسي الشاعر الإنجليزي ويليام جون شكسبير.
فـي صفحة «الإهداء» يوجه المؤلف إهداءه التالي: «إلى روحي التي لم تخذلني يومًا... إنها هي...»، ما يشير صراحة إلى إعلاء صوت التصالح مع الذات فـي مستوى ما، وإعلان تمرد الذات أو احتجاجها والمكاشفة نحو مكنونها الثقافـي والوجودي. يليها صفحة «المقدمة» التي يُخصصها بحديث حول المخيال الذي صاحبه طوال عمره، فهو صديقه الذي عشقه؛ «كان وعاء عقلي يلتهم كل ما يتصل فـي أفق الخيال عن كل ما ينتج فـي وعاء الفن من أساطير والخرافة والحكايات الكلاسيكية المعتّقة»، ما يكشف لنا، أن المؤلف لم يتحرر من تأثير تلك الحكايات، بل عاش معها، ونبش أسرارها فأنجب النبش الثلاثية الشكسبيرية وما أحاط بالعصر الإليزابيثي أو عصر النهضة من ملابسات. فكانت هذه المحطة إحدى الأزمات الخيالية التي أربكته فـي البحث والتقصي والغوص فـي أسرار الثلاثية الشكسبيرية المخيفة والمهيبة فـي الوقت نفسه.
يتجلى الاشتغال فـي التناص كثورة ضد شكسبير المؤلف، زاحفا منير راضي على سطح من التاريخ الساخن كما يقول: «أصارع وحدي شخصيات استقدمتها واستحضرتها رغم عنادها، ووعيدها لي فـي قادم الأيام من قِبَل ذلك المدعو.. إنها المنازلة الشكسبيرية المنيرية كما قالوا فـيها أهل الفن على المستوى المحلي والعربي...». يلي ذلك صفحة «تقدمة»، بقلم الدكتور جبار صبري، هي أشبه ما تكون بمحاولة شهادة عن أجواء النصوص الثلاثة، والطريق الذي سار فـيه منير مع شخصيات شكسبير، وربطها بالواقع الوجودي والسياسي والسلطوي والثقافـي والمجتمع المحلي والوطني المعاصر دون مواربة. فإذا كان منير يُعلن أن «شكسبير طغى»، فإن جبار يؤكد قائلا: «بل أفرط بطغيانه»!
«أنا ماكبث»... المهزوم إذا ابتسم، أفقد المنتصر لذّة الانتصار.
فـي شتاء 2021م ألف منير راضي مسرحية (أنا ماكبث)، هدف من العنوان كما يقول: «أن أوجد نسخة عربية من شكسبير، بقوة ألفاظه ذاتها وبمخيلته العميقة المثيرة للعواطف، وبالاستعارات ذاتها، وبالإيقاع ذاته». إن هذه المحاولة تبدو ناجحة إلى حد معقول. حافظ منير فـي نصه الدرامي على أيقونات لازمت ماكبث فـي الساحرات الثلاث اللائي يبدأن الحوار، ويربطن بين الماضي وخوالي السنين والزمن المعاصر، إضافة إلى شبح الليدي ماكبث. كما أن عوالم الكائنات اللواتي يقتسمن عالم الساحرات يتشكل من (القطة جريما لكين، والضفدع بادوك)، أما المغدورون فهم (الملك دنكان، وبانكو، وعائلة النبيل مكدف). إن النص الدرامي يتوفر على شخصيات درامية فاعلة فـي صميم الأحداث الدرامية، فالتناص الموجود على مستوى الشخصيات، يُفهمُ وجودها من اتصالها بنصّ المؤلف الأول (شكسبير)، ونص المؤلف الثاني (منير) حيث سعى إلى إدانة شكسبير واتهامه على لسان (ماكبث) الذي يصرخ ويثور ويغلي كالتنور فـي كل ليلة برفات الموتى بأن التاريخ وحواشي الملوك ومدوني الشعر غدروا به، ويريد الخروج من لعنة التاريخ، وإزاحة الظلم الذي ألحقه به المؤلف الأول. لذلك يلجأ إلى طلب إقامة جلسة طارئة فـي ملكوت العالم السفلي لمحاكمة شكسبير.
الملاحظ أيضا، إن استدعاء شخصيات شكسبير الذي يفصلنا عنه الزمن ما يقارب نحو خمسة قرون محاولة موفقة من منير راضي إدانة وقتنا المعاصر الذي تتجلى هزائمه وخسائره عن طريق اللغة والجمل التعبيرية الضّاجة بالاستعارات التصويرية الدموية. شخصيات ملوك غائرة فـي القِدم وعصر النهضة، وعصرنا الحديث بأغطية المُلوك الذين يبنون المدن وناطحات السحاب لكي يخلدوا فـي طرقات عواصمهم؛ هم أنفسهم «يصنعون القراصنة»، ويزيفون الحقائق، ويدورون الأحداث. كأن عصرنا اليوم، يتخفى وراء عصر النهضة مجازا، إذّ ينجح الملوك الطغاة فـي شراء ذمم الشعراء والكتّاب والمداحين والمغنين والفنانين. هكذا يُدين راضي شهوة العرش والجلوس فوق كراسي ملطخة بالدم، والمتهم الخالد هنا والتاريخي، هو «الشاعر المارق السكير الانتهازي والممثل الفاشل ومفرق الجماعات وقاتل الأفراح وناشر الحزن والنواح والمتحذلق العبقري شكسبير.
لا بد من القول: إن منير ينجح فـي خلط الأزمنة وتداخلها، والشخصيات وتفاعلها، وتخليق فضاء الخشبة الدرامي واللعب على ثنائية التناص تارة وتقنية المسرح داخل المسرح. حيث لغة الشعر تخوض معركة مع النثر، كما يسرد ملوك شكسبير وضعياتهم الدرامية أمام المتفرجين. عندما يدخل شكسبير إلى المحاكمة، يتعرّف على شخصيات ملوكه على النحو التالي: «الملك لير العظيم، والقائد الهُمام ذو الغيرة والعفة عطيل، وهذا الحالم العاشق والباحث عن صندوق الحقيقة الأمير هاملت، وماكبث ملك الجماجم». هي نقطة ارتكاز لنسف المحكمة ومن ثم المسرحية، فـينقلب الحدث والمخيال لسحق المؤلف الثاني، الذي لا يجد قدرة كاملة الإفلات من فكرة صرع الكرامة ودنس الشرف (هاملت)، أو فكرة الغيرة التي انقضت على وسادة الطُهر (عطيل).
فـي محاكمة شكسبير المتهم بتزييف الحقائق كما يفعل المُلوك المعاصرين يسأل ماكبث: «أيها السادة أسألكم، لماذا يَحق لهذا الشاعر عرض أعماله داخل البلاط الملكي دون أقرانه الذين يعدون من كبار عصره فـي التأليف والتنظير والبحث؟». بهذا المقطع ننتقل إلى نص الإدانة، بين عبارات تفضح المؤلف شكسبير، وقبح فـي الأنظمة السياسية المعاصرة. فشكسبير فاق أبناء جيله بأنّه «أعظمهم بوقا لتجميل قبائح البلاط الملكي، وأنه وصولي» فالتهم تعكس صورة للواقع المعاصر غير الحضاري لمهنة المثقف أو المؤرخ معا.
«شكسبير فـي جبل الأوليمب»... والتاج فخ النفوس.
يرجع كتابة هذا النص الدرامي إلى عام 2021م، إن استعادة شخصيات شكسبير تجري فـي عدد خمس من البقع تُنفذ بواسطة الإضاءة؛ تضم جميعها (عطيل وديدمونة، وهاملت، ويوليوس قيصر، وجولييت والملك لير). من شروط اكتمال الوجود فـي جبل الأوليمب ظهور بروميثيوس للكشف عن غياب التوافق بين طبقات العصور، وتعبير كل عصر عن مصالحه الدنيوية والسلطوية. يستند رسم فضاء المكان فـي هذا النص إلى انتزاع محاكمة أخرى جديدة على غرار المحاكمة السابقة فـي «أنا ماكبث»، لكن منير يجيء بكتّاب آخرين وأدباء من العصر الإليزابيثي ومعاصري شكسبير هم (كريستوفر مارلو، بنجامين جونسون، توماس ميدلتون»، ليشكِّل هؤلاء شكلا من مسرح الوثيقة الدرامية حول الكتّاب الذين تأثر بهم شكسبير (مارلو)، أو نافسوه (جونسون). وكذلك فـي فضاء الأوليمب يحظى زيوس وصفاته؛ العظيم الجبار الحكيم بالحضور الأكبر حيث استدعاء تاريخ حياته وانتصاره فـي حرب الجبابرة مع حلفائه.
إن الإسقاط السياسي فـي هذا الموضع، حيث جميع هؤلاء يلتقون مع زيوس فـي مجلس ينعقد كل دورة شمس للتباحث فـي عصر إليزابيث، أمام المتهمين (ياغو، بروتس، الملكة جيرترود، ريغان، وغونريل)، يمكن أن يشير إلى جذور الشقاق العميقة بين (الآلهة) الإغريقية، وفكرة مسؤولية (المرأة) عن الكيد (بنات لير) والذنب (الليدي ماكبث) التي كما وصفت بأنها امرأة داهية حادة الذكاء وخارجة على التقاليد والأعراف. إزاء قتامة عصر النهضة، فإن ملخص (مارلو) للأحداث المتداخلة الصاخبة غير المعقولة والمزدحمة بالأشخاص واعترافاتهم بجرائمهم وتبريرهم لأفعالهم الشنيعة، إدانة بطريقة مباشرة لعصرنا السياسي المتخم بالجراح.
«أجنة فـي أرحام شكسبيرية... تغلق كل منافذ الحياة إلا منافذ الأرواح، تبقى مشرّعة بوجه الناس والحجارة.
الأجنة فـي هذا النص تؤديها شخصيات (السارد والمخرج، وعطيل، وديدمونة، وأوفـيليا، وهاملت، وياجو، والصوت). يرجع تاريخ تأليفه إلى عام 2021م. ومن الواضح أن المؤلف يؤكد فـي هذا النص على سيرورة الإبداع وارتماء النصوص الثلاثة فـي مثلث فضائه: القيامة، وكونفدرالية الأرواح، وأقبية العالم السفلي. نلمح أيضا انهيار حواجز نفس المبدع ولهاثه المتسارع لنقد التاريخ الكلاسيكي وكتابة تاريخ جديد لأحداث ووقائع يؤثثها الإخراج المسرحي وإرشادات التأليف الموزعة فـي مستويين متلازمين؛ الأول لغة النصوص الإخراجية فـي جميع صفحات الكتاب، ومستوى التناص الفني الذي صاغه وفق أساليب بدأها بالذاتية، وأنهاها بالتمرد على كتابة لم يغادر فـي مستوياتها مؤلفه المفضل عنده شكسبير لمحاججته ونقده.