التكاملية الروحية من الطوباوية الى الواقعية.. بين صدامية السابق و وفاقية اللاحق..!
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
كتب وزير الشباب والرياضة الدكتور جورج كلاس في "النهار": يتحدد توصيف المصطلحات التي يكثر استخدامها في القاموس اللغوي الشائع ، لتزخيم هدفيات الحوار بين الاديان و الثقافات و المذاهب و التيارات الدينية ، أنطلاقاً من الرغبة بتجاوز الاشكالية التي فرضت الكلام حولها والتعريف بخصوصياتها وظروفها وزمنيتها و مكانتها ، و الانتقال الى استراتيجية توظيف معناها و دلالاتها لإنتاج فكر توفيقي بين اتباع الاديان.
ان المفهوم العام لمصطلح التكاملية الروحية ينحصر بدلالة المعنى ، حيث اى مبدأ التكامل يكون بين سابق له قواعده وركائزه العقيدية، وبين لاحق له رؤيته الحياتية و نظرته الإيمانية التي تقارب الالتزام العقيدي .و الإثنان ينطلقان من ثابت إيمانيٍّ واحد هو الله الخالق ، و ما يتعلق به من أوصاف وأسماء و نعوت سامية ، بعضهم إستخلصها من التعاليم، وبعضهم أسبغها على الخالق فيض محبة وتحنّنٍ و استرحام و تغفر دائم .
بالإستناد الى مفهوم السابق و اللاحق ، فإن أي تناول لهذا المصطلح لا يصح الا في البلدان والمجتمعات التي يشيع بين شعوبها أكثر من ديانة و مذهب إيماني ، بحيث لا يمكن مقاربة هذا الموضوع في مجتمع ديني مُقفَل او من طائفة روحية واحدة . لذلك فان الشرط الأول لشرح معنى التكامل ،هو وجود بيئة تعددية المعتقد و منفتحة على القيم الإيمانية التي تشكل المرتكز العقيدي للأديان على قاعدة النُبُوَّة لله، والمحبة للناس ,والتسامح و الإخاء والتساوي شراكة بين السماويين ، مع التركيز على قيمة الحرية التي ترتبط عضوياً مع الكرامة الإنسانية و التعاليم الروحانية ، تلازماً مع القيم المايزة للإنسان .
و يتوافق الكلام على التكاملية الروحية بين الأديان، مع مبدأ تراكم القيم وتوارثها ديناً عن دينا وحضارة عن حضارة وشعباً عن شعب ، مما يظهر بوضوح ان علامات التلاقي والتشارك بين التعاليم والقيم ، هي اكثر بكثير من دلائل الإنقسام و التباعد و التنافر الفكري و التعاكُساتِ السلوكية التي يمكن ان تظهر بين الجماعات ظرفيا.
وكلما زاد منسوب الانفتاح على اتباعِ الأديان والمعتقدات الاخرى إتصف الدين بالإنسانية، على قاعدة المحبة والمقبولية والرحمة .
والشرط الرئيس، لقابلية التكامل بين المعتقدات ، وخصوصاً تلك تنوجد أو تتعايش أو تتفاعل ميدانيا مع جماعات ذات إختلاف عقيدي و ايماني ، هو وجود نصوص دينية قابلة للتفسير والتطبيق مع ما يتوافق و روح العصر و متطلبات التحديث الفكري والتواصل الحضاري والتفاعل بين الثقافات، خصوصاً بعد التداخل الاجتماعي و الاندماج بن الشعوب، بعد زوال الحدود الوهمية و سقوط موانع التمازج الناتج عن الهجرة من جهة، وعن سماح قوانين بعض الدول بالاندماج بمجتمعها و التمتع بحصانة انسانية واجتماعية مدعومة بنصوص قانونية وفق مفاهيم الحرية والمساواة و حقوق الانسان ومحاربة العصبيات العرقية و الدينية التي هي نقيض التوافق والتكامل .
معضلة المرجعية الدينية وجمودية النص :
يصطدم مصطلح التكاملية الروحية و بعدها المفهومي بعلامات الجمودية لدى بعض المواقع المرجعية المتمسكة بالأصول الموروثة و التابعة لسلوكيات عقيدية ينظرون الى وضعيتهم من حيث انهم المخولون وحدهم النطق بالحقيقة.
ومن أدق الأمور التي يمانعون مناقشة مضامينها وفهم ابعادها و لا يسمحون بتناولها بالجدال والمقارنة والموازنة والتحليل ، هو كل ما يدخل في صلب العقيدة و مركزيات النص في وضعياته الأولى، المَقولة والمُنْزَلَة والمَنقْولة ، تضاف اليها التصنيفات اللاهوتية والتفسيرات الفقهية و كتابات المعاصرين المُحدَثين ، و تلك التي تعتبر نصوصا مرجعية معتمدة يبنى عليها في التفسير و الشرح و التبشير .
و من هذا المنطلق، الذي تتداخل فيه ألوهية النص العقيدي بدور المرجعية الدينية و تأثيرها في المجتمع الإيماني ، يمكن النظر الوضعي والتقويمي للعلاقة الثابتة والمتحولة بين الأتباع و المريدين و المرجعية الدينية المتمتعة بصفة المرجعية و المعترف بها علماً و قدرةً على الافتاء و التفسير و ابداء الرأي الديني و الشرعي ، كما تتصف بقدرتها على الإمساك بناصية اعطاء الفتاوى تفسيرا و توضيحاً و تحليلاً و تحريماً ، بما يتوافق و مستوى الإقرار بواقعية الإختلاف و الرفض القطعي لفرضية الخلاف المسبق.
و ينسل من ذلك وجوب الانطلاق من قاعدة فكرية ركيزتها ، ان الفرادة المايزة لدين او عقيدة تفرض روحياً الإبتعاد عن منطق التفرد و امتلاك حصرية ان يكون وحده على حق !
هذه الخصوصية الايجابية للتعدديات الإيمانية في مسارها الانفتاحي في المجتمعات المتداخلة ، دينياً وحضارياً وثقافياً ، تنفتح على أساسيات التكامل بين الروحي و الفكري في نشر التعاليم وإفهامها و إبراز القيم والعمل بهديها ، مع الحفاظ على التمايزات في المبادئ و احترام العقائد و التأسيس على مرتكزات الإنفتاح الفكري نحو سلامية الاهداف وسموها الروحي و الخلاص الإنساني.
من هذه القواعد الفكرية المبنية على طروحات واقعية، والمنطلقة من فرضيات معقولة و الساعية الى مبادرات وقائية جريئة وواجبة، يمكن تناول المستوى الفهمي للمؤمنين ضمن الجماعات المتنوعة ، بما يتناغم وروح العصر و يتوافق و سلامية الاديان و مفاهيمها الخلاصية .
ومن التحديات التي تعترض بعض المرجعيات الدينية في رسالتهم الروحية ودورهم القيادي و الرعائي ، وجوب تمتع رجل الدين بثقافة عمودية تمكنه من معارف عميقة في نشأة الدين وتأسيس المجتمع الإيماني ، بالتوازي مع وجوب التضلُّعِ من ثقافة افقية توفر له التعرف الى خصائص الاديان الاخرى ، للتمكن من كيفية بناء علاقات سلامية وحوارية معها على قاعدة التكاملية الروحية الواقعية ، التى تكون مبنية على ثنائية فكرية تتوزَّعُ بين التكاملية المعرفية بمعناها الثقافي المستدام، و التكاملية الحضارية ، بذخرها التراثي التأصيلي و التحاوري مع الاديان والحضارات وفق منهجية التعرُّف و التعارف و التفاعل وخدمة المعرفة السلامية ، الهادفة الى بناء الإنسان الفرد و تكوين المجتمع وإ فادة الإنسانية بالمطلق .
و لعل اکثر التحديات بروزا في صناعة الحوار الإنساني الشامل على مفاصل الفكر الديني والسلوك الإيماني الإنفتاحي ، افتخارا بالسابقين و فخرًا للاّحقين ، هو ان نستحق الحاضر لنكون مؤهلين لنستحق المستقبل ، مع الحفاظ على ركائز الخصوصية الايمانية ، و الاستعداد لمقبولية الآخر ومراعاة مبادئه العقيدية و خلقياته الإيمانية .
ولا يتأتى ذلك الا من خلال تجاوز المعوقات و الموانع المُعضلية المطروحة التي تعترض او تعوق عملية تحقيق التكاملية الروحية بأسمى وجوهها.
و أكثر تلك المعضلات حدة و دقة هو السؤال ، ما إذا كانت التكاملية الروحية الداخلية في مجتمع معيَّن تتأثر بعلاقات خارجية محورية لبناء التكاملة الموجية بأسمى وجوهها ، لمعرفة مدى تمتع مساعي اعتماد التكاملية الروحية داخل مجتمع محدد ، باستقلالية الخيار و القرار ضمن هامش مقبول من الحرية ، أم ان القرار يعود حصراً للمرجعية الكبرى ذات الموقعيَة الدينية الجامعة ؟
في هذا التساؤل مايؤكد على تأثيرية الفكر الإيجابي للمرجعية الروحية و مدى تمتعها بحصرية اعلان بيان المحبة و التلاقي والحوار ، وقدرتها على الإبتعاد عن صدامية السابق و تجاوز الخلاف على الإختلاف ، وصولا الى الوفاقية المأمولة بين الجماعات ، إستناد الى النظرية واقعية تؤكد ان نوعية المجتمعات بتنوعها .
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
رئيس الطائفة الإنجيلية: التعاون بين المؤسسات الدينية يعزز استقرار الوطن
استقبل الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، اليوم بمقر دار الإفتاء المصرية، الدكتور القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر، يرافقه وفد رفيع المستوى، لتقديم التهنئة بمناسبة قرب حلول عيد الفطر المبارك، وتهنئته بتوليه منصب مفتي الديار المصرية.
عمق الروابط الوطنيةوأعرب الدكتور القس أندريه زكي عن اعتزازه بهذا اللقاء الأخوي الذي يعكس روح المحبة والتعاون بين أبناء الوطن، مشيرًا إلى أن مصر كانت وستظل نموذجًا فريدًا للتسامح والتعايش السلمي.
كما أكد على الدور المهم الذي تقوم به دار الإفتاء المصرية في نشر الفكر الوسطي ومواجهة التطرف، مشددًا على أن نشر قيم التسامح والتآخي مسؤولية مشتركة تتطلب جهودًا متضافرة من جميع المؤسسات الدينية والمجتمعية.
من جانبه، أعرب مفتي الجمهورية عن سعادته بهذه الزيارة التي تجسد عمق الروابط الوطنية بين المصريين، مؤكدًا أن العلاقات بين دار الإفتاء والطائفة الإنجيلية تقدم نموذجًا عمليًا للوحدة الوطنية الحقيقية.
وأضاف فضيلته أن مصر ستظل دائمًا أرضًا للمحبة والتسامح، وأن التلاحم بين جميع مكوناتها هو صمام الأمان لاستقرارها وازدهارها، مشددًا على ضرورة التصدي لمحاولات بث الفرقة والكراهية، والعمل المشترك لتعزيز ثقافة السلام والاحترام المتبادل.
وفي ختام اللقاء، أكد الجانبان أهمية استمرار التعاون والتواصل بين جميع المؤسسات الدينية، لتعزيز ثقافة الحوار وترسيخ قيم المواطنة، بما يسهم في ترسيخ أسس العيش المشترك، والعمل سويًّا من أجل نهضة الوطن واستقراره.