عربي21:
2025-01-18@09:04:40 GMT

كتاب آفات نخبوية.. نقد جريء ومركز لأحوال النخب العربية

تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT

كتاب آفات نخبوية.. نقد جريء ومركز لأحوال النخب العربية

يندر أن تجتمع مرافعات من هذا النوع في إصدار واحد، فهذا الكتاب مرآة نقدية كاشفة لآفات نخبوية، حسب عنوانه، فهو يكشف النقاب عن معضلات وأزمات تنتاب أوساطاً نخبوية في الواقع العربي على وجه الخصوص دون أن يعني أنّه استثناء عن الاجتماع الإنساني عموماً، كما يقرِّر المؤلِّف.

صدر كتاب "آفات نخبوية" الواقع في 160 صفحة في قالب كرّاس جيْب عن "مكتبة الأسرة العربية"، ضمن المجموعة الجديدة من مؤلّفات حسام شاكر التي صدرت في هذا الموسم وتوزّعت على عشرين مؤلّفاً متنوٍّعة الحقول.



يخوض شاكر في كرّاسه النقدي اللاذع هذا معالجات لا هوادة فيها، فيتعقّب ظواهر وأعراضاً تتطلّب مُراجعة ومُصارحة، فهو يبدأ بإطلالة على أزمات تعتري بعض النخب عموماً مع تركيز الأنظار على الواقع العربي خصوصاً، ويحلِّل بالتفصيل ظواهر من قبيل القمع الخفيّ للنقد، أو المراوغة والتذاكي في تغليف التناقض الذاتي، أو التعبير عن "التبرُّج الثقافي"، أو الاستغلال غير السويّ لحاجة الأمّة إلى التجديد والمراجعات، أو الجموح بالجماهير بدعوى عذابات المكلومين وآلام المفجوعين.

يرصد الكتاب ظواهر سلبية لدى أوساط محدّدة، مثل نخب المنصّات التدريبية، كما يضع "طبقة المنظمات غير الحكومية" تحت العين الفاحصة، علاوة على أدوار نخب من حقول متعدِّدة تتواطأ مع الاستبداد وتتجنّد في خدمته من خلال منصّاتها ومنابرها ومواقعها.

وبطبيعة الحال فإنّ النقد الجريء والمكثّف الذي يدفع به هذا الكتاب لن يجعل الإصدار موضع ترحيب من أوساط نخبوية قد تكون ضالعة في هذه التقاليد والممارسات والتواطؤات التي يضعها المؤلِّف تحت المجهر النقدي.

جرأة انتقائية في البوْح والنقد

يرصد حسام شاكر كيف تتخيّر بعض النخب أهدافها بما لا يعود بأعباء على مصالحها، فتُظهِر جرأةً في نقد وجهات محسوبة أو في ذمِّها دون غيرها. تلتحق بعض النخب بجمهرة ناشطي مواقع التواصل التي لا تجد عوائق في الانخراط في جبهة النقد السهل والمسموح به نحو وجهات مخصوصة، دون أن تقوى على توجيه شيء من ذلك إلى وجهات أخرى.

وفي مكاشفة مع واقع بعض النخب العربية يلحظ شاكر أنّها "تعجز عن فتح الملفات الجوهرية على الملأ ابتداءً ولا تملك حرية البوْح في واقعها إلاّ في مسارات محددة؛ ثمّ يدّعي بعضها تقدير الموقف بتوازن وشفافية وانفتاح، رغم أنّ هامش المسكوت عنه عندها عريضٌ ومُهيْمن على ما عداه أحياناً.

من شأن هذه الملابسات أن تدفع بسرديّات غير متوازنة؛ تأتي ببعض الحقيقة وتطمس بعضها، وتشغِّل منطقها انتقائياً كما يطيب لها أو قد تعطِّله حسب أهوائها".

ويحذِّر المؤلِّف من "هيمنة العُقَد على التفكير"، ففي ظلال هذه الحالة المتّصلة بالمأزق العربيّ الراهن ومخاضاته الشاقّة؛ ترضخ بعض النُّخَب العربية لعُقَد تحكم تفكيرها؛ فلا ترى سواها أو لا تُبصر ما يعلوها، وهي عند بعضها عقدة التاريخ، أو عقدة الغرب، أو عقدة من دولة معيّنة، أو عقدة تيّارات واتجاهات معيّنة، أو غيرها من العقد.

لم تتشكّل هذه العُقَد أو غيرها من فراغ، فهي نتاج وعي انتقائيّ أو خبرات متضخِّمة أو تجارب موضعية معيّنة، وقد تكون حالة مُفتعلة بدافع من هوى مُسبَق أو مصالح معيّنة، كما يذكر شاكر.

يرى المؤلِّف أنّ منطق العقدة يحرِّض على رؤية العالم من جوْف قوقعة أو عبر ثُقْب إبرة. ومع تضخّم العقدة في الأذهان وهيمنتها على الوجدان؛ تضيق فرص الأخذ والردّ على بصيرة، على نحو يقود إلى أحكام تعميمية صارمة وقد تتناقض مع ذاتها أيضاً. وعندما يميل القوم إلى تفسير الواقع وتأويل التاريخ من منظور إحدى عقدهم هذه؛ تعلو الهراوات المعنوية فوق الرؤوس إن حاولت تمحيص السرديّات الجماهيرية الرائجة أو المدفوعة بمنطق العقدة التي تتأبّى على الفحص والنظر.
قمع خفيّ للنقد له فنون!

يرصد حسام شاكر في هذا العمل فنون النخب في القمع الخفيّ للنقد، وهي بمثابة تحليل نقدي لخطابات ومواقف نمطية، وإن تحسّست المجتمعات من القمع وخطابه المباشر وتعبيراته الصريحة؛ فإنها قد لا تفطن إلى فنون متضافرة من القمع الخفي للحسّ النقديّ وروح التمحيص وحظوظ المناقشة.

يشير المؤلف إلى أنّ "الضالعين في استعمال فنون القمع الخفيّ، بوعي منهم أو بدون وعي، حاضرون في مواقع النُّخَب على تعدُّد أصنافها وشواغلها واختصاصاتها، حتى أنّ بعضهم يرفعون شعاراتٍ مجيدة لا يمتثلون لمقتضاها كما ينبغي، وقد يتسلّحون بمزاعم الترحيب بالآراء المخالفة وإبداء رحابة الصدر إزاءها؛ ثمّ تخور مزاعمُهم في واقع التفاعل وتهترئ شعاراتُهم في حلبة التمحيص. وقد تكشف النظرة الفاحصة عن أنّ بعض المُنادين بـ"الانفتاح" ليسوا سوى إعادة إنتاج لحالات شديدة الانغلاق ولا تحتمل نقداً يُوجَّه إلى مقولاتهم".

ومن مخاطر هذه الحالة أنّ "استعلاء ثقافة القمع الخفي للحسّ النقدي وروح التمحيص وحظوظ المناقشة كفيل بإنعاش ضروب الوعي الزائف الذي تميل فيه القناعة والتأييد لصالح آراء وخيارات لا مصلحة فيها؛ أو قد تعود بخسائر جسيمة في عاجل الأمر أو آجله"، حسب المؤلف.

يمضي حسام شاكر في هذا الشأن إلى التحذير من أنّ "استعمال فنون القمع الخفيّ للحسّ النقدي وروح التمحيص يأتي أكثر تذاكياً عندما يلجأ إليها دعاةُ الحرية أنفسهم، أو المُنادون بتشغيل العقول والضمائر، أو العاكفون على صياغة مقولات منفتحة للغاية في ظاهرها وإن استبطنت انغلاقيّاتها وظلاميّاتها التي تأتي في لبوس الاستنارة"، وفق ما يكتبه شاكر الذي يعدّ هذه الحالة "ظلاميّات في لبوس الاستنارة".

يبدأ الأمر، عادة، مع مُصادَرة العقل والوعي والضمير، في مقولات شعاراتية قد تُنزَع فضائلُها ضمناً عن المخالفين في الرأي؛ وهي تقدمة مثالية للنبْذ والإقصاء ولجم النقد وتعطيل المُناقشة؛ وربما علوّ المُزايدات. إنّ القول بجهل الناقد وتصويره إيحائياً بأقسى النُّعوت هو من أساليب التنميط الرائجة. وعلى هذا الأساس تجود المرحلة على من يرغب بممارسة القمع الخفيّ للنقد والتمحيص والمناقشة والاعتراض، بقوائم متطاولة من المفردات المتاحة للاستعمال مثل التطرُّف ومكافحته؛ والإرهاب ونبذه؛ والاعتدال وتمكينه؛ والتسامح وتعميقه.

وقد يُصادِر أحدُهم العقلَ والتفكير لذاته بتعبيرات إيحائية بارعة، ويرمي ناقدي فكرته بقالب تعميميّ فجّ عندما يوحي بمروقهم من العقل وبنَزَقِهم المتطرِّف في التفكير وبتشنّجهم الأعمى في الأحكام. فإنْ خرج أحدُهم على قوْمه كي يُناقش ما يُقال على الملأ؛ بات عليه ابتداءً أن يُعلن براءته من تهمة مُسبقة بالانغلاق والتحجّر قد جُهِّزت له ولأمثاله سلفاً، وأن لا يتقاعس في تقديم مرافعات الولاء للعقل والتفكير الحرّ والضمير اليَقِظ، رجاء أن يُقبَل منه حقُّ القوْل والاعتراض، كما يكتب شاكر.

طابور سادس في منصّات النخب

في فصل آخر من هذا الكرّاس المُركّز في جرعته النقدية يُطلِق حسام شاكر وصف "الطابور السادس" على مَن استغرَقوا حياتهم طولاً وعرضاً في التنظير للديمقراطية والحرِّيات والمجتمع المدنيّ والدولة الحديثة والاستنارة الدينية، ثم اختتموا مسيرتهم باصطفاف شائن مع سطوة الاستبداد والقهر السلطويّ وفنون الفتك بالبشر. يرى المؤلف أنّها "نهاية مُتوقّعة في لعبة تقليدية؛ يمتطي فيها الاستبداد نُخَباً سياسية وإعلامية وثقافية وفنية وأدبية ووعظية ومجتمعية، حتى تصير وجوهٌ بزغت وأسماء لمعت أعباءً ثقيلة على أمّتها التي ستتجرّع خيْبة الرجاء ومرارة الخذلان منها في ساعة الحقيقة".

وفي شرحه لكيفية اشتغال "معمل إنتاج النُّخَب" يرصد شاكر كيف تعمل منظومة الاستبداد بلا هوادة على إنتاج النُّخَب واستمالة بعضها وتطويع غيرها، تلازُماً مع ممارسة الحَجْب والعزل والإقصاء وإنزال العقوبة الرادعة بحق المخالفين أو الذين يُخشَى تمرّدُهم أو لا ينخرطون في الجوقة كما ينبغي. على أنّ معاقبة النُّخبة الحرّة لا تعني إنزالَ السجن أو الغرامة بحقِّها فقط؛ "فهي تتحقّق ابتداءً بحجب الامتيازات عنها وممارسة الغُبْن والإجحاف معها في لعبة الاعتراف العلنيّ بكلِّ اسم منها؛ على نحو يُفضي إلى إخراجها من الأروقة أو الإلقاء بها من النوافذ العلوية، ومِن تعبيراتها عزلُ أحدهم عن المنابر والشاشات والجوائز لأنها ما كانت لتتأتّى له أساساً إلاّ بمقتضى استعماله في معادلة الاستبداد".

تناقضات ذاتية ومسالك ملتوية

إحدى الآفات النخبوية التي يستعرضها الكتاب تتمثّل بالتذاكي في "التناقض الذاتيّ"، وهذا يتعلّق بمَن "يُطلِقون شعارات ومقولات ومصطلحات ودعوات، يَشغَلون بها الدُّنيا والناس، وقد لا يأخذون بها في واقعهم ولا يمتثلون لمقتضاها في مواقفهم. يتمسّح أحدهم بالعلم ويحتجّ بالعقل ويستغلّ العاطفة ويتذرّع بالقيم، لتقديم ما يناقض العلم ويتصادم مع العقل ويهوي بالعاطفة وينتهك القيم. ‏يقومون بتنزيل المبادئ والأحكام بشكل انتقائي، أو ‏يحرِّضون على استعمال النقد اللاذع في اتجاهات شتى؛ ويتحوّطون من أن يرتدّ النقد صوْبهم، وقد يطوِّقون أنفسهم بهالة من التمجيد أو التقديس". ويحذِّر شاكر من "مسالك ملتوية وتناقضات ذاتية جسيمة تطفح بها الحالة العربية الراهنة، وتبدو بعض النُّخَب والمؤسّسات والمنظّمات والأنظمة ضالعة في هذا المشهد مع كلِّ ما ينطوي عليه من مفارقات فجّة".

"تبرّج ثقافي" .. تغليف على حساب الفحوى

أمّا معضلة "التبرُّج الثقافيّ" فتتعلق بنهْج مكرّس للتصنُّع والافتعال، يجرّ المُضيّ فيه تأثيراتٍ سلبية مركّبة؛ قد تبدأ مع ترسيخ الاهتمام بالتغليف على حساب العناية بالفحوى، أو أن تغدو المضامين، أي الكسب العلميّ والاقتدار الفكريّ والمعرفة الثقافية، مطلوبةً لأجل القشرة والهيئة والشكل والحضور؛ بدل العناية بتحقيق انطلاق علميّ وتقدُّم فكريّ ونهوض ثقافيّ. وإن عمّت الخيلاءُ العلمية والفكرية والثقافية مجتمعاً؛ فإنها على الأرجح من أمارات ضعفه العلميّ وهزاله الفكريّ وهشاشته الثقافية".

المنظمات غير الحكومية تحت المجهر النقدي

وفي فصل آخر من الكتاب يفتح المؤلِّف ملفّ المنظمات غير الحكومية، فيركِّز معالجة نقدية من زوايا متعدِّدة لأحوال المجتمع المدني أو "القطاع الثالث"، مع استرجاع تطوّر الحالة في نصف قرن وتمدّدها، ويقدِّم عيِّنات نموذجية للاستعراض النقدي.

يلحظ شاكر مثلاً كيف صارت المنظمات غير الحكومية إسفنجة تمتصّ "الحاصلين على أعلى الدرجات والمتمكِّنين من اللغات والمهارات النوعية، وفي مكاتبها يلتزمون طقوساً تتقيّد بمحفوظات الزمن الجديد المنقوشة في الألواح".

ولم يكن "القطاع الثالث" مساحة حياد، بل تناوشتْ بعض تشكيلاته تجاذباتٌ وتأثيراتٌ من القطاعيْن الحكوميّ والخاصّ، وبدت مساعي الاحتواء هذه أيسر منالاً لمّا تنزّلت في دول نامية وفقيرة؛ بما فيها أرجاء من العالم العربيّ. ويرى المؤلِّف أنّ النزعةُ الاعتمادية على المانحين الخارجيِّين أورثَت الحالة ضعفاً في الالتصاق بالمجتمع، وجاء هذا إيذاناً بنشوء "طبقة المنظمات غير الحكومية". وإذ تباهت الدول المانحة بما تقدِّمه لشعوب "مستفيدة" تحت بنود مثل "التعاون الإنمائيّ"؛ فإنّ ما جرى على وجه الدِّقّة هو دعم منظمات المجتمع المدنيّ المرغوب بها فقط بديلاً عن مسؤولية دعم المجتمع "المستفيد" ككلّ، كما يسرد المؤلف.

لعلّ مَن يفرغ من الصفحات المائة والستين التي تضمّها دفّتا هذا الكرّاس؛ سيجد نفسه قد أبحر مع المؤلِّف حسام شاكر مستكشفاً وفرة من العلل النخبوية، وسيعود من رحلة الإبحار بنظرة نقدية لواقع النخب وبعض التقاليد والممارسات والمواقف الرائجة في الواقع الإنساني عموماً والعربي خصوصاً.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير النخب ثقافة كتب ثقافة نخب سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المنظمات غیر الحکومیة حسام شاکر بعض الن فی هذا

إقرأ أيضاً:

كيف فشلت إسرائيل في التصدي للطوفان؟.. قراءة في كتاب

الكتاب: الإخفاق الاستخباراتي والعسكري والسياسي الإسرائيلي في 7 أكتوبر، دراسات وتحليلات لخبراء وباحثين إسرائيليين
إعداد: رندة حيدر
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية


أحدث هجوم السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى) صدمة كبيرة في إسرائيل على جميع المستويات الشعبية والرسمية، قد تستمر تداعياتها لسنوات طويلة مقبلة. وهولا يزال يثير الكثير من الجدل والنقاش حول فكرة أساسية تتعلق بأسباب فشل إسرائيل بالتصدي له ومنعه. وفي هذا الكتاب مجموعة من التحليلات والمقالات التي وضعها صحافيون ومحللون إسرائيليون، في محاولة منهم لفهم وتفسير الإخفاق العسكري الإسرائيلي في مواجهة هذا الحدث الكبير، وهي تعكس وجهات نظر متنوعة، وإن كانت تركز على ثلاثة محاور هي الإخفاق الاستخباراتي، والإخفاق السياسي، والإخفاق التكنولوجي.

بحسب ما جاء في مقدمة الكتاب يقول فادي نحاس، الباحث في شؤون الجيش والأمن القومي الإسرائيلي، أنه يمكن تلخيص النقاط الرئيسية والمشتركة للإخفاق الاستخباراتي في ثلاث جوانب أساسية هي فشل التقديرات الاستخباراتية، التي قللت من أهمية التهديدات العينية، واطمأنت إلى تقديرات مفادها أن "حماس" مردوعة. والتركيز على المهمات الدفاعية، وإخفاق أجهزة الاستخبارات في توقع الهجوم، فضلا عن ضعف التنسيق بينها.

إن الخطر القادم من الحدود والضفة لم يكن مهما بالنسبة لنتنياهو، لقد ركز على تحطيم الديمقراطية الإسرائيلية، ومأسسة مكانته كحاكم أعلى، وتحويل الموارد إلى الحريديم والمستوطناتأما على صعيد سياسي فقد عكست المقالات نزعة إلى تحميل القيادة السياسية المسؤولية الرئيسية عن الإخفاق، وركزت على تجاهلها للتحذيرات الاستخباراتية، وفشلها في اتخاذ إجراءات وقائية كافية. وفيما يتعلق بالإخفاق التكنولوجي تناولت المقالات فشل منظومة "العائق" الحدودي، وضعف وسائل المراقبة والإنذار، منتقدة الاعتماد المفرط على الوسائل التكنولوجية، والتركيز على "الأمن السائد بلا جنود" بدلا من الاعتماد على القوات البشرية. ويلفت نحاس إلى أن هؤلاء المحللين والكتاب حاولوا في الوقت نفسه التقليل من دور وقدرات حماس، ولم تناقش مقالاتهم الأداء العسكري للحركة، كما أنهم لم يشيروا إلى عنصر أساسي في فشل التقديرات الاستخباراتية والاستراتيجية الإسرائيلية، وهو تجاهل وجهة نظر الفلسطينيين، فالمقالات "لا تتعمق في فهم الدوافع والظروف الفلسطينية بصورة شاملة، بل هناك تركيز على الأحداث المباشرة..".

الشاباك أصيب بالعمى

يقول المحلل العسكري رونين برغمان أنه بحسب مصدران في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، تحدثا إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، لاحظت الاستخبارات التحضير لشيء استثنائي، قبل وقت قصير من شن حماس لهجومها، ووجها تحذيرات إلى المقاتلين على الحدود مع غزة، لكن هذا لم يؤد إلى أي إجراء.. وبعد ذلك أرسلت حماس مسيّرات أوقفت عمل جزء من شبكة الاتصالات الخليوية وأبراج التنصت على الحدود، وعطّلت منظومة "يرى ـ يطلق النار" التي تفعلها وحدات الرصد عن بعد. لقد اعتقد المسؤولون في الجيش أن الدمج بين منظومة المراقبة عن بعد، والجدار الصلب والحاجز تحت الأرض لمنع الأنفاق التي تمر تحت الجدار، سيجعل اختراق الحدود غير ممكن، ويقلل الحاجة إلى عدد كبير من الجنود الموجودين في القواعد.

فضلا عن ذلك فقد صدق الإسرائيليون مسؤولي "حماس" عندما قالوا في شبكات الاتصالات الداخلية، التي تعلم الحركة أن الإسرائيليين يتنصتون عليها، إنهم لا ينوون خوض معركة. حتى أن رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي قال في مقابلة قبل الهجوم ب 6 أيام إن "حماس اتخذت قرارا بضبط النفس بصورة غير مسبوقة.. إنها مرتدعة جدا ل 15 عاما على الأقل".

ومن جهته يلفت المحلل السياسي أفنر برنياع إلى إنه استنادا إلى الكثير من المعلومات المنشورة، يتبين أن حماس كان لديها معلومات استخباراتية جيدة عن استعدادات الجيش الإسرائيلي، في الوقت الذي أصيب فيه جهاز الشاباك " بالعمى"، ولم يشاهد ما يجري في القطاع، وخصوصا بسبب النقص في المصادر البشرية وسط متخذي القرارات في حماس، وأيضا في الدرجات الأدنى في الحركة.

وثائق تحذيرية مهملة

يوضح المحلل العسكري إيتاي إليناي أنه في مطلع العقد الماضي أوقفت شعبة الاستخبارات العسكرية تشغيل عملاء في قطاع غزة، وأصبحت هذه المهمة موكلة إلى جهاز الشاباك وحده. وبناء على محادثات أجريت مع مسؤولين سابقين وحاليين في الشعبة، فقد تكشّف أثر نقص الاستخبارات البشرية لدى الشعبة، إذ تحوّلت إلى شعبة عمياء وصماء إزاء ما يحدث تحت ناظريها.

وبحسب مصدر سابق مسؤول عن الساحة الفلسطينية فإن هناك "تدهورا جنونيا في المنظومة حيال كل ما يتعلق بمعرفة دواخل العدو وخصوصا من ناحية اتقان اللغة العربية وفهم الثقافة العربية". بينما صرح مصدر آخر إلى أن هذه الشعبة تفتقد إلى التنوع، فالعاملين فيها "عصريون وغربيون، يرغب الكثير منهم إلى الانتقال إلى صناعة الهاي-تك، بعد تمضية فترة تجنيدهم في الشعبة. لا يوجد هناك أي درزي أو بدوي، أو آخرون من تنوعات المجتمع اليهودي.. لذلك يصعب عليهم أدراك أن العدو يفكر بصورة مختلفة عنا" ومثال ذلك هو المفهوم الرائج بينهم من الناحية الاقتصادية وهو أن "حماس لا ترغب سوى في المزيد من الراحة والمال.. وأن حماس آخذة في التجذر داخل الحكم، وبدأت بإدمان مزاياها الاقتصادية.. فجرى إغفال الدافع الأيديولوجي للقيام بعمل حربي".

يشير إليناي إلى وثائق "إيفخا مستبرا" التي يصدرها قسم الرقابة في الشعبة عدة مرات سنويا، الذي يتلخص دوره في نقض التصورات السائدة باستخدام مواد استخباراتية، ويذكر أن إحدى هذه الوثائق الصادرة في العام 2017 أشارت إلى إمكان أن تشن حماس هجوما كبيرا، لكن شعبة الاستخبارات تعاملت مع هذه الوثيقة كما الوثائق الأخرى في سنوات تالية "بقليل من الثقة". "وكان التصور السائد في القسم أن حماس حتى لو كان لديها مخططات فإنها غير ناضجة، أو عازمة على تنفيذها".

يقول إليناي إن رئيس شعبة الاستخبارات الجنرال أهارون حليفا قام بزيارة تفقدية إلى الجنوب قبل أربعة أيام فقط من هجوم حماس، وكرر في كلمته أنه مقتنع بأن حماس مردوعة، وبعد هذه الزيارة ذهب إلى إيلات في عطلة خاصة قبل الهجوم ب24 ساعة. وعندما بدأت الأخبار تتوالى بشأن نشاط مشبوه في غزة، تلقى حليفا تقريرا بهذا الخصوص، لكنه لم يقطع إجازته، ولم يشارك في الاجتماعات الهاتفية الليلية التي جرت بين رئيس هيئة الأركان ورئيس الشاباك وقائد المنطقة الجنوبية، والتي توصل المشاركون فيها إلى أن الحركة لا تخطط لعملية هجومية، بل خطوة محدودة الأثر.

ويضيف إليناي: "إزاء كل ما يتعلق بحماس، اتسقت الصورة الاستخباراتية التي عرضها الرجل(حليفا) تماما مع مصالح المستوى السياسي، وعلى رأسه نتنياهو، الذي فضل تمكين حكم حماس في القطاع لأسباب عديدة، بينها إضعاف مكانة السلطة، وبالتالي تلافي أي خطوات سياسية معها".

عاصفة مثالية

يصف رئيس تحرير صحيفة "هآرتس"، ألوف بن، الوثائق التحذيرية التي أرسلها رئيس وحدة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية، الجنرال تامير ساعر، إلى نتنياهو في شهري مارس ويوليو، بأنها الدليل الأكثر حسما على مسؤولية رئيس الحكومة عن "الكارثة" التي ضربت إسرائيل في السابع من أكتوبر. ويقول أن ساعر حذر نتنياهو من أن "أعداء إسرائيل ـ إيران وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي ـ يشخصون ضعفا إسرائيليا وضررا في الردع، وذلك بسبب الأزمة الداخلية (الأزمة القضائية) التي تتعمق أكثر. لذلك هناك احتمال كبير لهبوب عاصفة مثالية وتصعيد أمني". لكن نتنياهو تجاهل التحذيرات وانشغل بتصفية حساباته مع يوآف غالانت لأنه تحدث عن هذه التحذيرات علنا.

في مطلع العقد الماضي أوقفت شعبة الاستخبارات العسكرية تشغيل عملاء في قطاع غزة، وأصبحت هذه المهمة موكلة إلى جهاز الشاباك وحده. وبناء على محادثات أجريت مع مسؤولين سابقين وحاليين في الشعبة، فقد تكشّف أثر نقص الاستخبارات البشرية لدى الشعبة، إذ تحوّلت إلى شعبة عمياء وصماء إزاء ما يحدث تحت ناظريها.يقول ألوف بن "إن الخطر القادم من الحدود والضفة لم يكن مهما بالنسبة لنتنياهو، لقد ركز على تحطيم الديمقراطية الإسرائيلية، ومأسسة مكانته كحاكم أعلى، وتحويل الموارد إلى الحريديم والمستوطنات". بل إنه أنكر تلقيه تحذيرات من شعبة الاستخبارات العسكرية والشاباك. والغريب أن محضر اجتماع عقدته لجنة رقابة الدولة في الكنيست في مارس 2017 يظهر أن نتنياهو قدم وصفا لهجوم تخطط له حماس من قطاع غزة، كان مطابقا تقريبا لهجوم طوفان الأقصى، غير أن رئيس الحكومة الإسرائيلية أكد في الاجتماع أن سياسات حكومته ردعت الحركة.

من جهة أخرى يرى ألوف بن أن شعبة الاستخبارات العسكرية لم تلتفت إلى الاستفزازات التي تقوم بها حكومة اليمين حيال الفلسطينيين، من توسيع للمستوطنات، والمقاطعة السياسية للسلطة الفلسطينية، وارتفاع أعداد اليهود الذين يقتحمون حرم المسجد الأقصى " الذي يشكل مبررا للعنف الفلسطيني منذ مئة عام.. وليس اعتباطا أن تمت تسمية الحملة التي شنتها حماس طوفان الأقصى". ويعتقد ألوف بن أن قمة هذا الاستفزاز كانت عندما أعلن نتنياهو نيته التوصل إلى سلام مع السعودية من دون مفاوضات مع الفلسطينيين.

وأهم من ذلك أن هناك "أزمة" في الرؤية الاستراتيجية لدى شعبة الاستخبارات، بحسب ما يقول ألوف بن، ذلك أنها ركزت على "الأعداء الأقوياء" (إيران وحزب الله) وتعاملت مع الفلسطينيين في الضفة وغزة باعتبارهم يشكلون خطرا أقل. متجاهلة حقيقة أن الفلسطينيين لديهم ميول أكبر إلى المخاطرة، وشرعية أكبر داخليا ودوليا، لضرب إسرائيل، مما لدى إيران أو لبنان.

مقالات مشابهة

  • تناول الشاي الأخضر بانتظام يقي من الخرف
  • أستاذ علوم سياسية: الولايات المتحدة الأمريكية تشهد توجها ضد النخب
  • «أستاذ علوم سياسية»: ترامب لن يدخل في صراع مع الصين.. فيديو
  • فاتن حمامة.. سيدة الشاشة العربية التي لم يطوِها الغياب
  • منظمة دولية تتهم الحكومة العراقية بـتقييد الحريات وممارسة القمع
  • بنك مصر يتألق عالميًا بـ81 جائزة ومركزًا متقدمًا خلال عام 2024
  • عبدالغني هندي: الشعب الفلسطيني نموذج للصمود في وجه القمع والإبادة
  • كيف فشلت إسرائيل في التصدي للطوفان؟.. قراءة في كتاب
  • نعم غزة من انتصرت و ليس ابواق الخذلان و الاستنكار و التنديد و القمع
  • الأمم المتحدة تندد بحملة القمع الحوثية ضد المدنيين في البيضاء