أوكرانيا: تصعيدٌ في الصيف وتسويةٌ في الخريف
تاريخ النشر: 22nd, July 2023 GMT
د. صبحي غندور تتضارب التوقّعات وتختلف الاستنتاجات بشأن ما يمكن أن تصل إليه الحرب الدائرة في أوكرانيا لحوالي 17 شهرًا، حرصت خلالها الأطراف المتصارعة على احترام الكثير من الخطوط الحمراء، فلا الحرب امتدّت إلى دولٍ أخرى مجاورة، ولا السلاح النووي جرى استخدامه رغم التهديد به أكثر من مرّة، ولا مواجهات عسكرية مباشرة حصلت بين الروس والأميركيين أو أي قوّاتٍ أخرى تابعة لحلف “الناتو”.
فمصير الحرب في أوكرانيا يخضع الآن لعدّة احتمالات بينها استمرارية الحرب لمدّة زمنية طويلة بحيث تكون حرب استنزاف عسكرية واقتصادية لروسيا من قِبَل الولايات المتّحدة وحلفائها بشكلٍ شبيه لما حدث مع روسيا الشيوعية في أفغانستان خلال القرن الماضي، لكن هذا الاحتمال ليس من السهل حدوثه بسبب الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تعاني منها أوروبا الآن، وكذلك دول أخرى عديدة في العالم، نتيجة تداعيات الحرب الأوكرانية. الاحتمال الثاني، هو أن يعلن أحد الطرفين المتحاربين قبوله بالهزيمة العسكرية، وهو أمرٌ غير وارد إطلاقًا لدى القيادة الروسية، ولا طبعًا لدى الولايات المتّحدة ودول “الناتو” التي تدعم عسكريًّا وأمنيًّا وماليًّا الحكومة الأوكرانية كما لم تفعل مع أي دولة أخرى في الماضي أو الحاضر، وبالتّالي لن تسمح واشنطن بهزيمة كييف أو بتغيير سياسي فيها لغير صالحها. الاحتمال الثالث، هو استخدام السلاح النووي لحسم الحرب وهو احتمالٌ يُحوّل الحرب الأوكرانية إلى حربٍ عالمية تُدمّر معظم دول العالم، ولم يتمّ حصول ذلك طيلة نصف قرنٍ من الزمن خلال حدّة الصراع بين المعسكرين “الشرقي” و”الغربي”، وفيما اصطلح على تسميته ب”الحرب الباردة”، لأنها كانت مضبوطة السقوف بين واشنطن وموسكو رغم امتلاك الدولتين الأعظم آنذاك لمختلف أنواع الأسلحة التقليدية والنووية. إذن، ما هو الممكن حدوثه خلال الأشهر القليلة القادمة، وما مصير الحرب الأوكرانية؟!. أعتقد أنّ الخيار الوحيد المتاح الآن هو التفاوض للوصول إلى حالة تجميد للصراع المسلّح في أوكرانيا دون تراجعاتٍ سياسية هامّة من أي طرف، وبحيث تكون فترة هذا “التجميد” مفتوحة زمنيًّا كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا والصراع الروسي/الأميركي حول مصيرها، فجرى تقسيم ألمانيا إلى “شرقية” مع الروس، و”غربية” مع الأميركيين، دون حسمٍ عسكري بين الطرفين المتنازعين. فواقع الحال الآن في أوكرانيا يسمح بتنفيذ هذا الخيار الذي يحفظ “مياه وجه” الأطراف المتصارعة ويحقّق لكلٍّ منها الكثير من المصالح. أوكرانيا الشرقية هي الآن تحت السيطرة الروسية، وغرب أوكرانيا بأكمله تحت الإشراف الأميركي، أمنيًّا وسياسيًّا، ولن تكون هناك مشكلة في ضمّ “أوكرانيا الغربية” إلى حلف “الناتو” بعد وقف الأعمال العسكرية على أراضيها، وهو الشرط الذي جرى الإشارة إليه مؤخّراً خلال قمّة “الناتو” في ليتوانيا. وسيعني أيضًا ضرورة احترام موسكو لهذا الأمر وعدم قيامها بأي أعمال عسكرية في “أوكرانيا الغربية”، كما يحدث الآن مع كلّ دول “الناتو” المجاورة لروسيا. وستتعامل أوروبا مع هذا الخيار بشكلٍ إيجابي لأنه سيضع حدًّا لما تدفعه الآن من ثمنٍ باهظ كتداعياتٍ للحرب الساخنة في بلدٍ أوروبي ممّا يُهدّد الأمن الأوروبي بأسره على مختلف الأصعدة. لكن قبل الوصول إلى هذا الخيار، يسعى كلُّ طرفٍ من الطرفين الروسي و”الغربي” المتصارعين الآن إلى تحقيق إنجازٍ عسكري يبرّر لاحقًا الوصول إلى وقفٍ لإطلاق النار على أساس تسوية مؤقّتة، لا على أساس حلٍّ جذري للأزمة الأوكرانية التي تصاعدت عسكريًّا منذ فبراير العام الماضي لكنّها استمرار لأزمة تفاعلت بأشكالٍ مختلفة لأكثر من عقدٍ من الزمن. لذلك، فإن الأشهر القليلة القادمة ستزداد فيها حدّة المعارك العسكرية بين القوّات الروسية والأوكرانية المدعومة من “الناتو” على أمل فتح الباب في موسم الخريف للوساطات والمبادرات الدولية، وفي مقدّمتها المبادرة الصينية، حتّى لا تعيش أوروبا لعامٍ آخر موسمًا صعبًا من الشتاء والحاجة القصوى فيه للغاز والنفط. وممّا يرجّح هذا الخيار ما نقلته صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤول أميركي بأنّ المسؤولين الأوكرانيين كشفوا لوليام بيرنز، مدير “سي أى إيه” خلال زيارةٍ سرّية قام بها مؤخّرًا للعاصمة الأوكرانية، عن إستراتيجية لاستعادة أراضٍ سيطرت عليها روسيا وبدء مفاوضات وقف إطلاق النار مع موسكو قبل نهاية العام الجاري. أيضًا، فإنّ إدارة بايدن تحتاج لإنجازٍ سياسي ما في أوكرانيا قبل انشغال الولايات المتّحدة في الانتخابات الرئاسية بالعام القادم، وربّما يتمّ التمهيد لذلك من خلال المسارين العسكري الجاري على الأرض، والدبلوماسي عبر تشجيع مبادراتٍ دولية تتحرّك الآن، وكان منها ما كشفته قناة ألمانية ARD)) عن “اجتماع دولي” لتسوية النزاع في أوكرانيا قد جرى في شهر يونيو الماضي بالعاصمة الدنماركية كوبنهاغن، وشارك فيه دبلوماسيون من فرنسا وبريطانيا وكندا وألمانيا واليابان وإيطاليا، إضافةً إلى ممثّلين عن الصين وجنوب أفريقيا والهند والبرازيل وتركيا والمملكة العربية السعودية. أوكرانيا ستشهد صيفًا عسكريًّا ساخنًا لكن خريفها قد يحمل تباشير تسوية سياسية تحتاجها الأطراف المتصارعة كلّها الآن. * مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن Twitter: @AlhewarCenter Email: Sobhi@alhewar.com
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
صور أقمار اصطناعية توثق دمارا هائلا في شمال غزة وتسوية مدن كاملة
كشفت صور التقطتها الأقمار الاصطناعية أن الاحتلال الإسرائيلي يقوم وبشكل منظم، بتدمير شمال قطاع غزة، ويعزز من مواقعه العسكرية، وفق تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية.
وفي تقرير أعدته مريام بيرغر وإيموجين بايبر وحازم بعلوشة وإيفان هيل قالوا فيه إن "التحليلات البصرية والمقابلات تظهر ظهر التحليلات البصرية كيف أُرغم الفلسطينيون على ترك منازلهم في الشمال عندما يقطع الجيش الإسرائيلي ممرا جديدا عبر غزة".
وأضافت الصحيفة أن "إسرائيل تنفذ عمليات هدم واسعة النطاق وتقيم تحصينات عسكرية في المناطق السكنية في شمال غزة، حيث أجبر عشرات الآلاف من الفلسطينيين على الفرار من منازلهم، وفقا لصور الأقمار الاصطناعية ومقاطع الفيديو والمقابلات التي تم التحقق من صحتها".
وقالت القوات الإسرائيلية إنها "شنت هجوما جويا وبريا في 5 تشرين الأول/أكتوبر في أقصى أجزاء شمال غزة ـ جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون ـ لطرد مسلحي حماس الذين أعادوا تنظيم صفوفهم هناك، وإن العملية ستستمر طالما كان ذلك ضروريا".
وبحسب أرقام الأمم المتحدة فقد تم تهجير أكثر من 100,000 فلسطينيا من المناطق المتضررة على مدى الأسابيع الـ 11 الماضية، ما ترك ما يقدر بنحو 30,000 إلى 50,000 شخصا ـ أي أقل من ثمن سكان القطاع في فترة ما قبل الحرب.
وتقول جماعات إنسانية إن "المساعدات لم تصل إلى المنطقة منذ بداية تشرين الأول/أكتوبر بسبب القيود الإسرائيلية، ويحذر الخبراء من أن المجاعة ربما تكون قد استفحلت بالفعل في بعض الأماكن".
ووفقا لتحليل أجرته صحيفة "واشنطن بوست" لصور الأقمار الاصطناعية الدقيقة جدا، فإنّ القوات الإسرائيلية هدمت أحياء بأكملها، وأقامت تحصينات عسكرية وبنت طرقا جديدة، مع إخلاء المناطق من الفلسطينيين.
وتظهر الأدلة المرئية أن ما يقرب من نصف مخيم جباليا للاجئين قد هدم أو أُخلي بين 14 تشرين الأول/أكتوبر و15 كانون الأول/ديسمبر، ما أدى إلى ربط طريق قائم في الغرب بمسار عربات موسع في الشرق، وهو ما أدى إلى إنشاء محور عسكري يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى السياج الحدودي.
تطهير مساحات من الأرض
يقول المحللون إن "إنشاء هذا الممر، وتطهير مساحات من الأرض على جانبيه، وبناء مواقع استيطانية محمية على شكل مربع، يشبه ما فعله الجيش الإسرائيلي في المناطق القرببة من الممر الذي أطلق عليه ممر نتساريم، وهي منطقة عسكرية إسرائيلية استراتيجية في وسط غزة. وفي حين قطعت القوات الإسرائيلية ممر نتساريم عبر منطقة زراعية قليلة السكان إلى حد كبير، فإن عمليات إسرائيل في الشمال تتركز في الأحياء الحضرية الكثيفة ــ الأمر الذي أدى فعليا إلى تدمير المدن الفلسطينية الشمالية".
وتابعت الصحيفة: "في حين لم يقدم الجيش أي تفسير علني لأنشطته في التطهير والتحصين في الشمال، قال محللون إن المحور الذي تم إنشاؤه حديثا يمكن أن يفصل أقصى الشمال عن مدينة غزة، مما يسمح لإسرائيل بإنشاء منطقة عازلة لعزل مجتمعاتها الجنوبية التي تعرضت للهجوم في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023".
كما وأصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء مع تطور الهجوم، وطلب من المدنيين الفرار من أجل سلامتهم، دون أي منح أي فكرة عن موعد السماح لهم بالعودة، أو ما إذا كان سيتم السماح لهم بذلك.
وبحسب الصحيفة، يظل مطلب حماس بالسماح للعائلات بالعودة إلى الشمال، خارج ممر نتساريم، خلال أي توقف في القتال نقطة خلاف رئيسية في المفاوضات مع إسرائيل بشأن وقف إطلاق النار المحتمل واتفاقية إطلاق سراح الأسرى لديها.
وفي بيان عام جاء فيه إن العملية التي يجريها هي "عسكرية بشكل خاص، وتعمل على تحقيق أهداف واضحة وتخفيف الأضرار على المدنيين". وقال ديفيد منسر، المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، هذا الشهر: "ما دامت عمليات مكافحة الإرهاب مستمرة، فلن نسمح للسكان بالعودة، لأننا نعلم أن الغرض من عودتهم هو ببساطة استخدامهم كدروع بشرية من قبل الإرهابيين".
تدمير ثلث المباني
وبحلول كانون الأول/ ديسمبر تم تدمير ثلث جميع المباني في محافظة شمال غزة منذ بداية الحرب - بما في ذلك أكثر من 5,000 في جباليا، وأكثر من 3,000 في بيت لاهيا وأكثر من 2,000 في بيت حانون، وفقًا لأحدث البيانات من مركز الأقمار الاصطناعية التابع للأمم المتحدة.
وأظهرت البيانات أن 60% من الدمار في مخيم جباليا للاجئين وقع بين 6 أيلول/ سبتمبر و 1 كانون الأول/ديسمبر، واستمرت عمليات الهدم والتشريد في الأسابيع التي تلت ذلك.
وتظهر صورة التقطتها الأقمار الاصطناعية في 15 كانون الأول/ ديسمبر دمارا واسعا في بيت لاهيا وجباليا، حيث تحولت سوقا ومسجدا ومتاجر ومنازل إلى أكوام من الخرسانة والغبار. وفي 4 كانون الأول/ ديسمبر أجبر الجيش الإسرائيلي 5,500 شخصا كانوا يحتمون في المدارس في بيت لاهيا على الفرار جنوبا إلى مدينة غزة، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
في مقابلات أجريت عبر الهاتف والرسائل النصية على مدى عدة أسابيع، وصف 10 من سكان شمال غزة لصحيفة "واشنطن بوست" الاستهداف الواسع النطاق للأحياء المدنية من قبل القوات الإسرائيلية، وعمليات الإخلاء الجماعي الخطيرة حيث تم فصل الرجال والفتيان المراهقين عن النساء والأطفال، فضلا عن إساءة معاملة واحتجاز بعض أولئك الذين يحاولون الفرار بشكل تعسفي.
وكانت رواياتهم متسقة مع الصور ومقاطع الفيديو التي تحققت منها صحيفة "واشنطن بوست" لعمليات الفحص والاعتقالات الجماعية، فضلا عن الهجمات على المدنيين.
وتظهر صور الأقمار الاصطناعية التقطت في 24 تشرين الأول/ أكتوبر عشرات المركبات العسكرية المتمركزة بالقرب من المستشفى الإندونيسي، أحد المرافق الطبية الرئيسية في المنطقة، على طول الطريق الذي أُمر المدنيون باتباعه، وحول مدرستين قريبتين - من بين المواقع التي قال النازحون إن الجنود فصلوا فيها بشكل منهجي الرجال والفتيان المراهقين عن النساء والأطفال للفحص.
وقالت الصحيفة إن الدمار والتهجير والحرمان من المساعدات يشبه ما جاء في "خطة الجنرالات" والتي تنص على الحصار وقدمها جنرال وهي اقتراح سابق في الجيش الإسرائيلي للحكومة الإسرائيلية، ودعا فيها للسيطرة على الشمال من خلال تجويع السكان المدنيين ومعاملة أي شخص يبقى كمقاتل.
وأظهرت بيانات 1 كانون الأول/ ديسمبر من مركز الأقمار الاصطناعية التابع للأمم المتحدة أن 5,340 مبنى دمر في مختلف أنحاء جباليا منذ بداية الحرب، مع تركيز 40% من الدمار في مخيم اللاجئين بالمدينة. كما دمر أكثر من 3,600 مبنى في بيت لاهيا. وتشير البيانات إلى أن وتيرة الدمار كانت في أعلى مستوياتها خلال الهجوم الإسرائيلي الجديد.
وتظهر صور الأقمار الاصطناعية من 11 تشرين الأول/ أكتوبر فصاعدا أن مساحات كبيرة من هذه المناطق نفسها تم بناؤها الآن بتحصينات عسكرية، بما في ذلك شبكة من السواتر الواقية المرتفعة. وبحلول نهاية تشرين الأول/أكتوبر، كانت هذه السواتر توفر غطاء لنحو 150 مركبة عسكرية تطوق جباليا.