العنف والإبادة في رحلة الاستيطان الأوروبي منذ غزو الأميركتين وتأسيس إسرائيل
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
ترافق الصعود الأوروبي الحديث وتمدد الغرب حول العالم، ونشوء العالمية الأوروبية الراهنة، مع ظواهر متعددة تركت آثارها الكارثية البالغة على حياة ومصير ومستقبل البشرية عدة قرون.
واتسم صعود الغرب برؤية معرفية إمبريالية تنزع القداسة عن الإنسان والطبيعة، فتختزل العالم وتلغي الخصوصيات والثقافات والتنوعات الاجتماعية والحضارية، وتبلغ ذروتها في مفاهيم وممارسات توحش علاقة بالإنسان والطبيعة وتحولهما إلى "مادة استعمالية سائلة" أو "حوسلة" العالم بتعبير المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري.
ورافق ذلك موجات إمبريالية عاتية من الغزو والاحتلال والنهب، اتخذت من دعاوى "الاكتشافات الجغرافية" وعبء الرجل الأبيض والحرب العادلة والامتيازات التجارية ومعاهدات الاستسلام أساسا لشرعنة غزو البلدان واحتلالها والسيطرة عليها وإبادة أهلها أو استعبادهم وشحنهم بعشرات الملايين من غرب أفريقيا إلى مزارع القطن وقصب السكر في الجنوب الأميركي وجزر الكاريبي، ونزح ثرواتها إلى عواصم وحواضر أوروبا، وتقاسمت الإمبرياليات قارات العالم وأقاليمه وأصقاعه.
الإمبريالية التجاريةفي المرحلة الإمبريالية الميركانتيلية (التجارية) تكونت لدى الأوروبيين ثروات هائلة، وأدى تراكم النهب من المستعمرات لتراكم الرأسمال والثورة الصناعية والرأسمالية بفكرها وسماتها وأزماتها المزمنة.
وبناء على احتياجات المشروع الإمبريالي الرأسمالي، جرى تحرير تدريجي لأقنان الأرض وعبيدها الأوروبيين وإعدادهم لخدمة هذا المشروع، وتم توسيع فرانشايز (نطاق) الديمقراطية ليشمل هؤلاء، وكانت النساء آخر من نال حق التصويت ببريطانيا (1929) لأنهن الأقل نفعا لذلك. فقامت المنظومات السياسية والتشريعية والدستورية التي تكفلت باستدامة المشروع الإمبريالي الرأسمالي وهي لا تبتعد في جوهرها كثيرا عن الفاشية.
في هذا السياق، قامت مشروعات استيطانية كبرى كثيرة في القرون الماضية، كان أبرزها في الأميركتين وأستراليا وأفريقيا. وارتبط نجاح المشروعات الاستيطانية بالقضاء على أهل البلاد الأصليين بالإبادة والحصار والمسخ كما وقع بأميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وأميركا اللاتينية.
أما المشروعات التي لم تتمكن من القضاء على السكان الأصليين كما في الجزائر وروديسيا وجنوب أفريقيا، فقد تفككت وتمت تصفيتها بعد نضال طويل وتضحيات هائلة بلغت ملايين الشهداء قدمتها شعوب البلاد الأصلية وحركات التحرر الوطني بها.
وفي فلسطين، عجز المشروع الصهيوني الإمبريالي الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي عن القضاء على شعب فلسطين وهويته العربية والإسلامية وارتباطاته بالأمة، وهو المشروع الاستيطاني الوحيد المستمر لكنه يتجه تاريخيا نحو مآلاته الحتمية من اضمحلال وتراجع وانحطاط إستراتيجي في سياق الهيمنة الغربية، وتعرضت مرتكزاته للتآكل والاهتزاز.
وهناك قدر كبير من السمات المشتركة بين مختلف مشروعات الاستيطان الأوروبية حول العالم، الباقية والزائلة، بما فيها المشروع الصهيوني في فلسطين.
الاستعمار والاستيطان الأوروبيينارتبطت مشروعات الاستيطان ارتباطا وثيقا بالاستعمار الأوروبي وأنشأت أوضاعا ونظاما استعماريا استيطانيا قائما على علاقات مؤسسية وشخصية.
وتجمع بين عنصرين: إقامة المستوطنات وإنزال المستوطنين بها، ونزوع دول لاستعمار بلاد أخرى والسيطرة عليها.
وجرت إقامة المستعمرات كإعادة إنتاج ناجحة للمجتمع الأوروبي في سياق استعماري استيطاني، وباعتبار ذلك فرضاً ناجحاً للسيطرة السياسية والاقتصادية على إقليم مُستعمَر.
ويمكن تعريف المجتمع الاستيطاني انطلاقا من وصف الدولة الاستيطانية الذي يركز على اقتلاع السكان الأصليين بعد تضمين أو صهر متعدد الثقافات، وقد سادت طويلا في الغرب وما زالت فكرة أن إسرائيل هي "أوروبا ما وراء البحار".
وفي نفس الإطار، يتم اعتبار الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا -بالإضافة إلى بريطانيا- وحدة عضوية غربية أنجلوساكسونية واحدة في سياق منظومة الهيمنة الغربية.
أساطير التأسيسثمة أساطير مشتركة مبثوثة في سياق تأسيس مشروعات الاستيطان الأوروبي تهدف إلى شرعنتها وتبرير ممارساتها وتداعياتها الكارثية على أهل البلاد الأصليين، تبدأ بعبء الرجل الأبيض ودوره في تمدن العالم وتحديثه واستعماره ونقله إلى حضارة أوروبا وأنوارها ومدنيتها. وكانت بعض هذه الأساطير مبنية على أسس دينية.
وقد يظن البعض أن الديباجات الدينية المؤسسة للمشروع الصهيوني في فلسطين تخصه دون مشروعات الاستيطان الأوروبي نظرا لتوظيف اليهودية والتوراة في الاستيطان الصهيوني. لكن الحقيقة أن تلك المشروعات الاستيطانية قد سبقت الصهيونية في استعارة ديباجاتها من نصوص التوراة وسردياتها وأبطالها ورموزها ومُثُلِها وجغرافيتها.
فالمهاجرون إلى أميركا الشمالية من البيض البروتستانت الذين استمدوا رؤيتهم الكونية وسرديتهم الدينية والأخلاقية من نصوص التوراة، بيوريتانيون وحجاج ومعمدانيون وإيفانجيليون وغيرهم، وكانوا غير مرغوب بهم بمواطنهم الأوروبية، استلهموا قصص وأحداث التوراة وتماهوا معها تمامًا.
فقد اعتبروا أنهم قد خرجوا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني إسرائيل (في مصر التوراتية) إلى أرض الميعاد. وامتلأ خطابهم بتعبيرات أرض الميعاد وميثاق الرب وشعب الله المختار والاستكشاف وارتياد التخوم والغزو وإبادة السكان الأصليين.
وصاحب ذلك اعتقاد بفرادة تاريخية لتجربة الاستيطان وأنها جزء من أجندة الرب وأن أميركا بتعبير التوراة "مدينة على جبل" و"منارة الأمم". وفي جنوب أفريقيا، تمت صياغة جزء كبير من القومية الأفريكانية (قومية الأقلية البيضاء الهولندية البريطانية) حول فكرة العهد أو الميثاق الخاص بين الرب وجماعات الاستيطان المبكر.
نفي وإنكار الآخرالحقيقة أن نفي السكان الأصليين وإنكار التاريخ مستقر في الفكر الاستعماري الاستيطاني، وخاصة البريطاني، منذ زمن طويل. فعندما كان ونستون تشرشل وزيرا للمستعمرات وراعيا للمشروع الصهيوني في فلسطين، وحوّله من "وطن قومي يهودي" إلى "دولة يهودية" أنكر حقوق شعب فلسطين حينما واجه من يسأله عنها قائلا "إن وجود الكلب في البيت لا يعطيه حقا في البيت".
ولا تذكر وثائق الانتداب البريطاني شعب فلسطين إلا بتعبير "المحمديين" وبالتالي لا علاقة لهم بالأرض، واستمر الإنكار بعد قيام الكيان الصهيوني عقودا عديدة حتى زمن رئيسة وزراء الكيان الإسرائيلي غولدا مائير، صاحبة الصورة الشهيرة بالمنظار المقرّب مصحوبة بعبارة: أين هم الفلسطينيون؟ ومقولتها المشهورة عن اللاجئين الفلسطينيين: الكبار يموتون والصغار ينسون.
وتطور الإنكار مؤخرا إلى دعوة تهجير وإبادة كما يزعم بتسلئيل سموتريتش أن الشعب الفلسطيني "اختراع من الدول العربية" وتخييره فلسطينيي الضفة الغربية بين "التهجير أو القتل أو الاستعباد لليهود" ومقترح عميحاي إلياهو حول محو غزة بالسلاح النووي. وأن على إسرائيل "إيجاد طرق أكثر إيلاما من الموت" بالنسبة للفلسطينيين لحسم المعركة وهزيمتهم وكسر معنوياتهم، كما فعلت الولايات المتحدة مع اليابان.
نزع الإنسانية عن أهل البلادإنسانية المُستعمَر، التي يرفضها المُستعمِر، تصبح مطموسة. فمن العبث، كما يُصر المُستعمِر، أن تحاول التنبؤ بأفعال المُستعمَرين (إذ لا يمكن التنبؤ بشيء عنهم، ومعهم لا يمكن التأكد من شيء أو معرفة شيء). ويخيل لدى المُستعمِر أن هناك نوازع غريبة ودوافع مقلقة تسيطر على المُستعمَر.
فلا بد أن الأخير غريب أو شاذ جداً، خاصة إذا ما استمر غامضاً بعد سنوات من العيش مع المُسْتعمِر. وغالبًا ما يرفض المستعمِر تقدير أو الاعتراف بإنسانية الشعوب الواقعة تحت سيطرته، وبالتالي يعتبر المستعمِرون هذه الشعوب حالة شاذة، لا يمكن التنبؤ بسلوكها. ويبقى العنف والعنف البالغ والإبادة اللغة التي قد تفهمها.
وقد اضطردت شواهد ذلك على مدى 75 عاما من عمر الكيان الصهيوني، خاصة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد أوردت محكمة العدل الدولية عددا وافرا من تصريحات قادة إسرائيل الحاليين الداعية إلى الإبادة الجماعية في حيثيات حكمها الأولي الصادر في 26 يناير/كانون الثاني 2024.
العنف المؤسس والمستدام والإبادةيلاحظ المسيري أن من المؤشرات على دخول مشروعات الاستيطان طور النهاية والتفكك هو ارتكابها قدرا هائلا من العنف والتدمير وإلحاق الأذى البالغ بالسكان الأصليين، يبلغ حد الإبادة الجماعية والتدمير اجتماعيا واقتصاديا وصحيا ومؤسساتيا.
ويترافق هذا السلوك مع ارتباك شديد، وسعي خلف أهداف متعارضة بل متناقضة تفاقم أزمة الكيان الاستيطاني وتشققاته الداخلية ونزع الشرعية عنه وتصاعد الدعوات لـ"مقاطعته وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه".
ويقدر خبراء أن كمية المتفجرات التي ألقيت على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي تعادل قوة تدمير عدة قنابل ذرية تماثل قنبلتي هيروشيما وناغازاكي. وهذا يحيلنا إلى عقيدة القوة والعنف والردع الاستيطانية "ما لا يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة".
يقول رونين بيرغمان في كتابه «انهض واقتل أولا: التاريخ السري لإسرائيل» إن مبدأ القتل الجماعي والإبادة الجماعية لا ينفصل عن العقيدة الراسخة في عقل الدولة الإسرائيلية منذ قيامها وحتى الآن.
لذلك تبذل كيانات الاستيطان جهدا هائلا لاحتكار واستدامة العنف وأدواته وحرمان حركات التحرر الوطني من التسلح والتنظيم بقمع مستمر واجتياحات واغتيالات وعقوبات جماعية، كما يفعل الكيان الصهيوني بالضفة الغربية، وبمسميات دالة: "جز العشب" و"كاسر الأمواج".
وبحسب وثائق بيرغمان، نفّذت مخابرات إسرائيل عمليات اغتيال ضد عرب صنفتهم أعداءً، وبلغت، خلال 70 عاما، 2700 عملية على الأقل.
الدور الإمبرياليمن أهم وظائف المشروع الاستيطاني الصهيوني استدامة التجزئة الناجمة عن تقسيم وتفتيت بلادنا وإجهاض محاولات الوحدة والنهوض والتنمية، واستدامة وضع المنطقة وشعوبها في حالة خضوع وتبعية وإفقار، وحرمانها من الاستقلال والوحدة وعودة الأمة في الواقع.
وإستراتيجيا، يمثل المشروع الصهيوني الحل الإمبريالي الأنجلوساكسوني النهائي للهيمنة الاستعمارية على المشرق وفصل آسيا العربية عن مصر وشمال أفريقيا.
وقد تواترت في الغرب، وأميركا خاصة، مقولة "لو لم تكن إسرائيل موجودة لتحتم إيجادها" وأن عدم وجودها يقتضي نشر عشرات السفن الحربية وحاملات الطائرات في المنطقة العربية، مما يؤكد دور إسرائيل المركزي في استدامة المشروع الإمبريالي والهيمنة الغربية، وهذا يفسر مسارعة الغرب لإنقاذ إسرائيل ودعمها وتسليحها المفرط بعد صدمة وترويع 7 أكتوبر/تشرين الأول.
العسكرة والاجتماع الاستيطانيتمتلك كل الدول الطبيعية جيوشا أما "إسرائيل فهي جيش يمتلك دولة". يعني باختصار تشكيل متعدد المستويات لتشكيل من عصابات السطو المسلح. المفارقة أن تنظيم المجتمع الاستيطاني وعسكرته على هذا النحو ليس أمرا مستجدا تاريخيا.
فقد كان للأمير أسامة بن منقذ، زمن الحملات الصليبية، مشاهدات لأحوال الفرنجة والاجتماع الصليبي، فكان الفرسان الصليبيون في رأس الهرم السياسي والعسكري والاجتماعي، ولذوي الشأن والمكانة منهم وحدهم الحق في إبرام الأحكام وإنزال العقوبات "والإفرنج خذلهم الله ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى القتل والقتال ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان، ولا عندهم ناس إلا الفرسان، فهم أصحاب القضاء والرأي".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: السکان الأصلیین فی فلسطین فی سیاق
إقرأ أيضاً:
التسارع نحو العنف.. الجماعات النازية الجديدة وتكتيكات داعش على الإنترنت
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
رصد "مشروع مكافحة التطرف" (CEP) في تقريره الأسبوعي تصاعدًا في الأنشطة الإعلامية للجماعات المتطرفة عبر الإنترنت، إذ لجأت "القاعدة" مؤخرًا إلى نشر مقاطع مصورة على تطبيق تيليجرام توثق تنفيذ عمليات حرق متعمد في أوكرانيا، مستهدفة بنى تحتية وممتلكات خاصة، في إطار ما وصفته الجماعة بـ"إعلان الحرب على النظام الليبرالي العالمي في كييف".
وفي سياق موازٍ، وثّق باحثو CEP انتشار حسابات على منصتي تيليجرام وتيك توك تروّج لأندية شبابية مرتبطة بحركة لامركزية تستهدف القُصّر دون سن الثامنة عشرة، وتلقى دعمًا من جهات مؤيدة لتفوق العرق الأبيض. وقد أُنشئت هذه الحسابات خلال شهري فبراير وأبريل من العام الجاري.
كما كشف التقرير عن وجود 28 حسابًا على منصة X (تويتر سابقًا) ترتبط بفروع حركة "Active Club" في الولايات المتحدة وأوروبا، من بينها أربعة حسابات موثقة، ظلت نشطة رغم مرور خمسة أيام على الإبلاغ عنها.
وفي تطور آخر، دعت قناة تقنية محسوبة على أنصار تنظيم داعش متابعيها إلى التريث لحين صدور موقف رسمي من التنظيم بشأن استخدام تطبيق "سيجنال" للتواصل، بينما واصلت مجموعة "إنجيكت ديفيجن" النازية الجديدة، التي تتبنى فكر "التسريع" (accelerationism)، الترويج لمنشورات تحريضية تمجد العنف العنصري والمعادي للسامية عبر تيليجرام.
جماعة "ذا بيس" النازية الجديدة تتبنى هجمات حرق متعمد في أوكرانيا وتعلن "الحرب على النظام الليبرالي"
في تصعيد جديد لأنشطة الجماعات المتطرفة العابرة للحدود، أعلنت جماعة "ذا بيس" النازية الجديدة، المعروفة بتبنيها لفكر "التسريع" (Accelerationism)، مسؤوليتها عن ثلاث هجمات حرق متعمد نُفذت في أوكرانيا خلال شهر أبريل الجاري. وجاء ذلك عبر قناة تابعة للجماعة على تطبيق تيليجرام، حيث نُشرت بين 15 و19 أبريل مقاطع فيديو توثق قيام عناصرها بحرق صندوق كهربائي باستخدام مواد مسرّعة، وإشعال النار في سيارة ومبنى.
وتضمنت الرسائل المصاحبة لتلك المقاطع إعلانًا صريحًا من الجماعة عن "الحرب على النظام الليبرالي العالمي في كييف"، متوعدة بالانتقال من رسائل الدعاية المحدودة إلى تنفيذ عمليات أكثر عنفًا. وتُعد هذه الحوادث تصعيدًا خطيرًا بعد أن اكتفت الجماعة سابقًا بكتابات تحريضية على الجدران في عدد من المناطق الأوكرانية.
وفي وقت سابق، وتحديدًا بتاريخ 28 مارس، هددت "ذا بيس" بتنفيذ عمليات تستهدف منشآت حيوية وعسكرية، بالإضافة إلى مسؤولين حكوميين ومؤيدين للنظام في كييف، ما لم تتم تلبية مطالبهم بإنشاء "دولة عرقية منشقة" في جبال الكاربات.
وتشير التقارير إلى أن الجماعة شجّعت أنصارها على تنفيذ عمليات تخريبية تحت إشراف مباشر، مع وعود بـ"مكافآت مالية" للعمليات الناجحة، مما يثير مخاوف من تحولها إلى شبكة عنف غير مركزية قادرة على استقطاب أفراد من خلفيات مختلفة. وتُضاف هذه التحركات إلى تقارير متكررة عن دعم روسي مزعوم لأعمال تخريبية مماثلة في أوروبا وأوكرانيا، ما يعزز فرضية وجود صلات دولية تدعم هذا النوع من العنف المؤدلج.
زعيم القاعدة، رينالدو نازارو، يعيش في سانت بطرسبرغ، روسيا، وينفي منذ فترة طويلة أي صلة له بالحكومة الروسية. سعى نازارو لتجنيد أعضاء في شبكة النازيين الجدد في الولايات المتحدة وأوروبا، حتى أنه عرض دفع راتب شهري لأحد قادة المجموعة في الولايات المتحدة. واصلت القاعدة نشر صور لأعضاء مزعومين من الولايات المتحدة وأوروبا، بما في ذلك صور يُزعم أنها من إسبانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلغاريا والسويد، من منتصف مارس إلى منتصف أبريل.
وتُعد جماعة "ذا بيس" مثالًا صارخًا على تصاعد التهديد الذي تمثله الحركات المتطرفة ذات الأجندات العابرة للحدود، والتي توظف التكنولوجيا الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي لتجنيد الأفراد، وتنسيق العمليات، وبث دعايتها العنيفة. وتتشابه هذه الجماعة من حيث البنية والأهداف مع تنظيمات مثل "القاعدة" و"داعش"، وإن اختلفت الأيديولوجيات، حيث يجمعها جميعًا تبني نهج لا مركزي، واعتماد أساليب الحرب النفسية والدعاية السوداء، والتحريض على العنف الفردي. كما تُظهر هذه الجماعات قدرة متزايدة على التكيّف مع البيئات السياسية والاجتماعية المختلفة، مما يجعلها أكثر خطورة وتعقيدًا، ويستدعي استجابة أمنية وفكرية شاملة تتجاوز حدود الدول لمواجهة هذا النمط الجديد من التطرف العالمي.
"أكتيف كلوب" تدفع بتشكيل نوادٍ عنصرية تستهدف المراهقين: استراتيجية جديدة لتفوق العرق الأبيضفي تطور لافت يعكس محاولات تنظيم الحركات العنصرية البيضاء لبناء قاعدة شبابية متماسكة، شجعت قناة "أكتيف كلوب" الرئيسية على تيليجرام – التي تضم أكثر من 4500 مشترك – في 17 أبريل الجاري، على تأسيس "نوادٍ شبابية" تستقطب المراهقين دون سن الثامنة عشرة. وتأتي هذه الخطوة كجزء من استراتيجية بعيدة المدى لنشر أفكار تفوق العرق الأبيض في أوساط الطلبة والمراهقين، حيث اعتبر مؤسس الحركة، روبرت روندو، في مقال نشره عام 2022، أن المدارس الثانوية تمثل بيئة خصبة للتجنيد والاستقطاب.
وقد تم تحديد قناة مركزية على تيليجرام تُعد المحور الأساسي لحركة نوادي الشباب هذه، مستخدمة شعارات مستلهمة من هوية "أكتيف كلوب"، وتجاوز عدد مشتركيها 400 مشترك حتى منتصف أبريل، مع نشر محتوى يرتبط بجماعة "Patriot Front" الفاشية الجديدة، وفروع متعددة لـ"أكتيف كلوب".
تأسست هذه القناة الرئيسة في 24 فبراير 2025، وروّجت لأندية الشباب بوصفها "شبكات من الشباب البيض المؤيدين للمجتمع"، يمارسون أنشطة رياضية جماعية لتعزيز الانتماء والهُوية العرقية. ولاحظ باحثو مشروع مكافحة التطرف (CEP) أن هذه القناة تلقت دعمًا دعائيًا من قناة نازية جديدة كبرى تضم أكثر من 11 ألف مشترك، ما يكشف عن مستوى من التنسيق بين مختلف المنصات المتطرفة.
وفي 2 أبريل، ظهر حساب جديد ضمن شبكة نوادي الشباب، احتوى على اقتباسات من شخصيات نازية مثل أدولف هتلر، وجوزيف غوبلز، وويليام لوثر بيرس، مؤلف رواية "مذكرات تيرنر" سيئة السمعة، التي تُعد مرجعًا أساسيًا في خطاب الكراهية والتفوق العنصري.
وقد عُثر على قنوات تيليجرام تابعة لفروع إقليمية لهذه النوادي في عدة ولايات أمريكية، من بينها نيو إنجلاند، نيويورك، بنسلفانيا، فرجينيا، أوهايو، ويسكونسن، وجورجيا، حيث يتراوح عدد المشتركين فيها بين 14 و195 مشتركًا، وتم تحديد أن بعض الفروع تستهدف فئة عمرية محددة بين 16 و18 عامًا.
وتضمنت القنوات منشورات دعائية ورسومات وملصقات تمجّد تفوق العرق الأبيض، إلى جانب صور ومقاطع لأعضاء يشاركون في تدريبات بدنية ومهارات قتالية. كما أظهرت التحقيقات وجود تنسيق تنظيمي، إذ أدرجت سبع قنوات نفس جهة الاتصال المسؤولة عن عمليات التجنيد الإلكتروني، فيما استخدم فرعان قنوات اتصال منفصلة.
وفيما يخص الحضور على منصات التواصل الأوسع، تم رصد سبعة حسابات على تطبيق "تيك توك" تابعة لهذه الأندية، بمتوسط متابعين بلغ 298 متابعًا لكل حساب، تراوحت أعدادهم بين 20 و1411 متابعًا، ما يعكس جهودًا واضحة لاختراق المنصات الجماهيرية والوصول إلى جمهور أوسع من المراهقين.
وتتلاقى هذه المحاولات من قبل حركة "أكتيف كلوب" مع أنماط استقطاب مشابهة تتبعها جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية العنيفة مثل "داعش" و"القاعدة"، التي دأبت على استهداف الفئات العمرية الصغيرة لبناء جيل مؤدلج منذ سن مبكرة. فكما تسعى جماعات الإسلامويين إلى غرس أفكار الجهاد والولاء للجماعة في عقول المراهقين عبر المحتوى الديني والسياسي المشحون، تعتمد الحركات العنصرية على تغذية مشاعر التفوق والكراهية العرقية من خلال الرياضات القتالية والأنشطة الجماعية. ويكشف هذا التوازي بين التيارات المتطرفة رغم اختلاف الأيديولوجيا عن تشابه في الأساليب: استغلال المراهقة، وبناء هوية بديلة، وتكوين انتماء مغلق، بهدف خلق "جيل بديل" يقود مشاريعها الفكرية والعنيفة في المستقبل. هذا التشابه يعكس خطرًا عابرًا للثقافات والديانات يستوجب استراتيجية دولية شاملة لفهم وتحجيم تلك المسارات التجنيدية التي تتغلغل في الفئات الأكثر هشاشة وتأثرًا.
أكثر من 25 حسابًا تابعًا لحركة "النادي النشط" على منصة Xفي 16 أبريل، رصد باحثو مركز مكافحة التطرف (CEP) وجود 28 حسابًا على منصة X (تويتر سابقًا) مرتبطة بحركة "النادي النشط" ذات التوجهات العنصرية البيضاء. تنوعت هذه الحسابات بين 12 فرعًا إقليميًا داخل الولايات المتحدة، وثلاثة فروع في ألمانيا، وفرعين في كل من إستونيا وفنلندا، إضافة إلى حسابات لفروع في النرويج، أيرلندا الشمالية، إنجلترا، كندا، سويسرا، إسبانيا، ليتوانيا، وفرنسا. كما وُجد حساب عام ينشر محتوى شاملًا للحركة دون أن يتبع فرعًا إقليميًا بعينه.
نشرت هذه الحسابات محتوى دعائيًا متنوعًا، من ضمنه مقاطع فيديو وصور تحريضية ودعوات للتجنيد. وأظهرت بعض الحسابات الأمريكية صورًا تتضمن سرقة أعلام لمجتمع الميم، فضلًا عن محتوى معادٍ للسامية ومنكر للهولوكوست. حوالي 22 من هذه الحسابات تضمنت روابط لقنوات تيليجرام أو عناوين بريد إلكتروني لأغراض التواصل والتجنيد.
يُرجح أن أول هذه الحسابات أنشئ في فبراير 2020، ربما لمجموعة أو فرد مختلف قبل أن تتم إعادة تسميته ليندرج تحت لواء "النادي النشط". بينما أُنشئ سبعة حسابات في عام 2023، و15 في عام 2024، وخمسة أخرى منذ بداية عام 2025. وبلغ متوسط عدد متابعي الحسابات الـ28 نحو 340 متابعًا، تراوح بين 13 وأكثر من 3500 متابع. اللافت أن أربعة من هذه الحسابات كانت موثقة بعلامة التحقق الزرقاء، وتتبع فروعًا في النرويج وسويسرا وولايتي أريزونا وتكساس.
كان مركز مكافحة التطرف قد أبلغ عن هذه الحسابات إلى منصة X في 17 أبريل، رغم أنه سبق له الإبلاغ عن خمسة حسابات أخرى في أغسطس 2023، ويناير وفبراير 2024. ومع ذلك، لا تزال الحسابات الـ28 نشطة على المنصة حتى تاريخ 22 أبريل.
ويكشف التوسع الرقمي لحركة "النادي النشط" العنصرية عبر منصة X عن نمط بات مألوفًا في المشهد العالمي للتطرف، وهو استغلال الفضاء الرقمي كأداة أساسية للتجنيد والترويج الأيديولوجي. هذا النهج لا يختلف كثيرًا عن الاستراتيجيات التي اتبعتها جماعات الإسلام السياسي مثل "داعش" و"القاعدة" و"الإخوان المسلمون"، التي استخدمت منصات التواصل لبناء حضور افتراضي قوي، ونشر خطابات الكراهية، واستقطاب الأتباع، خصوصًا من الفئات الشابة. ففي حين تعتمد الجماعات اليمينية المتطرفة على رموز الهوية العرقية والشعارات العنيفة، تلجأ الجماعات الإسلاموية إلى توظيف الخطاب الديني والسياسي في تغليف مشاريعها العابرة للحدود. وبينما قد تختلف الشعارات، فإن المنهج المشترك يظل قائمًا: استخدام المنصات الرقمية كرافعة لنشر التطرف، ووسيلة لتجنيد العقول الأكثر هشاشة وتشكيل جماعات ذات ولاء أيديولوجي متطرف، في تحدٍ صارخ للمنظومات القانونية والاجتماعية العالمية.
مجموعة تقنية مؤيدة لداعش توصي بالتحفظ على استخدام تطبيق Signal حتى صدور توجيه رسميفي 15 أبريل، دعت مجموعة تقنية تابعة لأنصار تنظيم داعش، عبر منصة RocketChat، أتباع التنظيم إلى التريث وعدم استخدام تطبيق الاتصالات المشفرة "Signal" حتى صدور توصية رسمية من التنظيم أو أحد فروعه. وأوضح المنشور أن مؤسسة العزايم الإعلامية، التابعة لفرع داعش في خراسان، كانت قد أوصت في وقت سابق بالاستمرار في استخدام تطبيق "تيليجرام"، محذّرة في الوقت نفسه من استخدام تطبيق "Gem Space". وأشار القائمون على المنشور إلى احتمال وجود مخاوف أمنية أو تحفظات تقنية لدى الخبراء التابعين للتنظيم بشأن "Signal"، لم تُكشف تفاصيلها بعد، ما يستدعي الحذر في التعامل مع التطبيق حتى إشعار آخر.
منشورات تحريضية لجماعة "إنجيكت ديفيجن" تدعو للعنف العنصري والمعاداة للساميةفي 14 و16 أبريل، بثّت قناة على تيليجرام تابعة لجماعة "إنجيكت ديفيجن" النازية الجديدة، والتي تنتمي إلى التيار التسريعي، محتوى يدعو صراحة إلى ارتكاب أعمال عنف ذات طابع عنصري ومعادٍ للسامية. وشمل أحد المنشورات تحريضًا على إحراق المعابد اليهودية، مرفقًا بصورة لشخص مقنّع يرتدي قناع جمجمة، إلى جانب شعار الجماعة، مع تساؤل ضمني حول ارتباط رجل اعتُقل في قضية إحراق منزل حاكم ولاية بنسلفانيا، جوش شابيرو، بالجماعة. ولم تتوفر أي دلائل تؤكد صلة الشخص المعتقل، كودي بالمر، بالتنظيم أو بأوساط اليمين المتطرف. وفي منشور آخر بتاريخ 16 أبريل، نشرت القناة صورة تحرّض على قتل الأمريكيين من أصل إفريقي، إلى جانب تفاصيل للتواصل مع الجماعة عبر تطبيق اتصال مشفّر، ما يعكس استمرار هذه الكيانات في استغلال الفضاء الرقمي لنشر دعايتها المتطرفة والتحريض على العنف.